الباحث القرآني

القِصَّةُ الخامِسَةُ قِصَّةُ صالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ قالَ لَهم أخُوهم صالِحٌ ألا تَتَّقُونَ﴾ ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أتُتْرَكُونَ في ما هاهُنا آمِنِينَ﴾ ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ﴾ ﴿وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ﴾ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿ولا تُطِيعُوا أمْرَ المُسْرِفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ﴾ ﴿قالُوا إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ ﴿ما أنْتَ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿قالَ هَذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ ولَكم شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكم عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿فَعَقَرُوها فَأصْبَحُوا نادِمِينَ﴾ ﴿فَأخَذَهُمُ العَذابُ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ . (p-١٣٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ قالَ لَهم أخُوهم صالِحٌ ألا تَتَّقُونَ﴾ ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أتُتْرَكُونَ في ما هاهُنا آمِنِينَ﴾ ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ﴾ ﴿وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ﴾ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿ولا تُطِيعُوا أمْرَ المُسْرِفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ﴾ ﴿قالُوا إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ ﴿ما أنْتَ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿قالَ هَذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ ولَكم شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكم عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿فَعَقَرُوها فَأصْبَحُوا نادِمِينَ﴾ ﴿فَأخَذَهُمُ العَذابُ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ . اعْلَمْ أنَّ صالِحًا عَلَيْهِ السَّلامُ خاطَبَ قَوْمَهُ بِأُمُورٍ: أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿أتُتْرَكُونَ في ما هاهُنا آمِنِينَ﴾ أيْ أتَظُنُّونَ أنَّكم تُتْرَكُونَ في دِيارِكم آمِنِينَ وتَطْمَعُونَ في ذَلِكَ وأنْ لا دارَ لِلْمُجازاةِ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي ما هاهُنا آمِنِينَ﴾ في الَّذِي اسْتَقَرَّ في هَذا المَكانِ مِنَ النَّعِيمِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ وهَذا أيْضًا إجْمالٌ ثُمَّ تَفْصِيلٌ، فَإنْ قِيلَ: لِمَ قالَ: ﴿ونَخْلٍ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿فِي جَنّاتٍ﴾ والجَنَّةُ تَتَناوَلُ النَّخْلَ ؟ جَوابُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ خَصَّ النَّخْلَ بِإفْرادِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ في جُمْلَةِ سائِرِ الشَّجَرِ تَنْبِيهًا عَلى فَضْلِهِ عَلى سائِرِ الأشْجارِ. والثّانِي: أنْ يُرادَ بِالجَنّاتِ غَيْرُها مِنَ الشَّجَرِ؛ لِأنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْها النَّخْلَ، والطَّلْعُ هو الَّذِي يَطْلُعُ مِنَ النَّخْلَةِ كَنَصْلِ السَّيْفِ في جَوْفِهِ شَمارِيخُ، والهَضِيمُ اللَّطِيفُ أيْضًا مِن قَوْلِهِمْ: كَشْحٌ هَضِيمٌ، وقِيلَ: الهَضِيمُ اللَّيِّنُ النَّضِيجُ كَأنَّهُ قالَ: ونَخْلٌ قَدْ أرْطَبَ ثَمَرُهُ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ﴾ قَرَأ الحَسَنُ: ”وتَنْحَتُونَ“ بِفَتْحِ الحاءِ، وقُرِئَ ”فَرِهِينَ“ و”فارِهِينَ“ والفَراهَةُ الكَيْسُ والنَّشاطُ، فَقَوْلُهُ: ﴿فارِهِينَ﴾ حالٌ مِنَ النّاحِيَتَيْنِ. واعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآياتِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الغالِبَ عَلى قَوْمِ هُودٍ هو اللَّذّاتُ الحالِيَّةُ، وهي طَلَبُ الِاسْتِعْلاءِ والبَقاءِ والتَّفَرُّدِ والتَّجَبُّرِ، والغالِبُ عَلى قَوْمِ صالِحٍ هو اللَّذّاتُ الحِسِّيَّةُ، وهي طَلَبُ المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ والمَساكِنِ الطَّيِّبَةِ الحَصِينَةِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُطِيعُوا أمْرَ المُسْرِفِينَ﴾ وهَذا إشارَةٌ إلى أنَّهُ يَجِبُ الِاكْتِفاءُ مِنَ الدُّنْيا بِقَدْرِ الكَفافِ، ولا يَجُوزُ التَّوَسُّعُ في طَلَبِها والِاسْتِكْثارُ مِن لَذّاتِها وشَهَواتِها، فَإنْ قِيلَ: ما فائِدَةُ قَوْلِهِ: ﴿ولا يُصْلِحُونَ﴾ ؟ جَوابُهُ: فائِدَتُهُ بَيانُ أنَّ فَسادَهم فَسادٌ خالِصٌ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلاحِ، كَما يَكُونُ حالُ بَعْضِ المُفْسِدِينَ مَخْلُوطَةً بِبَعْضِ الصَّلاحِ، ثُمَّ إنَّ القَوْمَ أجابُوهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: قَوْلُهم: ﴿إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: المُسَحَّرُ هو الَّذِي سُحِرَ كَثِيرًا حَتّى غَلَبَ عَلى عَقْلِهِ. وثانِيها: ﴿مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ أيْ: مَن لَهُ سِحْرٌ، وكُلُّ دابَّةٍ تَأْكُلُ فَهي مُسَحَّرَةٌ، والسِّحْرُ أعْلى البَطْنِ، وعَنِ الفَرّاءِ: المُسَحَّرُ مَن لَهُ جَوْفٌ، أرادَ أنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعامَ وتَشْرَبُ الشَّرابَ. وثالِثُها: عَنِ المُؤَرِّجِ المُسَحَّرُ هو المَخْلُوقُ بِلُغَةِ بَجِيلَةَ. وثانِيهِما: قَوْلُهم: ﴿ما أنْتَ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ وهَذا يَحْتَمِلُ أمْرَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُنا فَكَيْفَ تَكُونُ نَبِيًّا ؟ وهَذا بِمَنزِلَةِ ما كانُوا يَذْكُرُونَ في الأنْبِياءِ أنَّهم لَوْ كانُوا صادِقِينَ، لَكانُوا مِن جِنْسِ المَلائِكَةِ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ مُرادُهم إنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُنا، فَلا بُدَّ لَنا في إثْباتِ نُبُوَّتِكَ مِنَ الدَّلِيلِ، فَقالَ صالِحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿هَذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ﴾ وقُرِئَ بِالضَّمِّ، رُوِيَ أنَّهم قالُوا: نُرِيدُ ناقَةً عُشَراءَ تَخْرُجُ مِن هَذِهِ الصَّخْرَةِ فَتَلِدُ سَقْبًا، فَقَعَدَ صالِحٌ يَتَفَكَّرُ، فَقالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وسَلْ رَبَّكَ (p-١٣٨)النّاقَةَ، فَفَعَلَ فَخَرَجَتِ النّاقَةُ وبَرَكَتْ بَيْنَ أيْدِيهِمْ وحَصَلَ لَها سَقْبٌ مِثْلُها في العِظَمِ، ووَصّاهم صالِحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأمْرَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿لَها شِرْبٌ ولَكم شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ قالَ قَتادَةُ: إذا كانَ يَوْمُ شِرْبِها شَرِبَتْ ماءَهم كُلَّهُ، وشِرْبُهم في اليَوْمِ الَّذِي لا تَشْرَبُ هي. والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ﴾ أيْ بِضَرْبٍ أوْ عَقْرٍ أوْ غَيْرِهِما ﴿فَيَأْخُذَكم عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ عَظَّمَ اليَوْمَ لِحُلُولِ العَذابِ فِيهِ، ووَصْفُ اليَوْمِ بِهِ أبْلَغُ مِن وصْفِ العَذابِ، لِأنَّ الوَقْتَ إذا عُظِّمَ بِسَبَبِهِ كانَ مَوْقِعُهُ مِنَ العِظَمِ أشَدَّ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم عَقَرُوها. رُوِيَ أنَّ مِصْدَعًا ألْجَأها إلى مَضِيقٍ فَرَماها بِسَهْمٍ فَسَقَطَتْ، ثُمَّ ضَرَبَها قُدارٌ، فَإنْ قِيلَ: لِمَ أخَذَهُمُ العَذابُ وقَدْ نَدِمُوا ؟ جَوابُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَدَمُهم نَدَمَ التّائِبِينَ، لَكِنْ نَدَمَ الخائِفِينَ مِنَ العَذابِ العاجِلِ. الثّانِي: أنَّ النَّدَمَ وإنْ كانَ نَدَمَ التّائِبِينَ، ولَكِنْ كانَ ذَلِكَ في غَيْرِ وقْتِ التَّوْبَةِ، بَلْ عِنْدَ مُعايَنَةِ العَذابِ، وقالَ تَعالى: ﴿ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ [النساء: ١٨] الآيَةَ. واللّامُ في العَذابِ إشارَةٌ إلى عَذابِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب