الباحث القرآني

﴿ومِن حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾: لَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّ لِكُلٍّ وِجْهَةً يَتَوَلّاها، أمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يُوَلِّيَ وجْهَهُ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ مِن أيْ مَكانٍ خَرَجَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وجْهَكَ﴾ [البقرة: ١٤٤] ظاهِرُهُ أنَّهُ أمْرٌ لَهُ بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ وهو مُقِيمٌ بِالمَدِينَةِ. فَبَيَّنَ بِهَذا الأمْرِ الثّانِي تَساوِي الحالَيْنِ إقامَةً وسَفَرًا في أنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِقْبالِ البَيْتِ الحَرامِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ: ﴿وحَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٥٠]، لِيُبَيِّنَ مُساواتِهِمْ في ذَلِكَ، أيْ في حالَةِ السَّفَرِ، والأُولى في حالَةِ الإقامَةِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ: ”ومِن حَيْثُ“ بِالفَتْحِ، فَتَحَ تَخْفِيفًا. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في حَيْثُ في قَوْلِهِ: ﴿حَيْثُ شِئْتُما﴾ [البقرة: ٣٥] . ﴿وإنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾: هَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِأنَّ اسْتِقْبالَ هَذِهِ القِبْلَةِ هو الحَقُّ، أيِ الثّابِتِ الَّذِي لا يَعْرِضُ لَهُ نَسْخٌ ولا تَبْدِيلٌ. وفي الأوَّلِ قالَ: ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ١٤٤]، حَيْثُ كانَ الكَلامُ مَعَ سُفَهائِهِمُ الَّذِينَ اعْتَرَضُوا في تَحْوِيلِ القِبْلَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأشْياءَ مِنها: أنَّ عُلَمائَهم يَعْلَمُونَ أنَّ تَحْوِيلَ القِبْلَةِ حَقٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وخَتَمَ آخَرَ هَذِهِ الآيَةِ بِما خَتَمَ بِهِ آخِرَ تِلْكَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ في امْتِثالِ هَذا التَّكْلِيفِ العَظِيمِ الَّذِي هو التَّحْوِيلُ مِن جِهَةٍ إلى جِهَةٍ، وذَلِكَ هو مَحْضُ التَّعَبُّدِ. فالجِهاتُ كُلُّها بِالنِّسْبَةِ إلى البارِئِ تَعالى مُسْتَوِيَةٌ، فَكَوْنُهُ خَصَّ بِاسْتِقْبالِ هَذِهِ زَمانًا، ونَسَخَ ذَلِكَ بِاسْتِقْبالِ جِهَةٍ أُخْرى مُتَأبِّدَةٍ، لا يَظْهَرُ في ذَلِكَ في بادِي الرَّأْيِ إلّا أنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ. فَلَمْ يَبْقَ في ذَلِكَ إلّا امْتِثالُ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَأخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لا يَغْفُلُ عَنْ أعْمالِكم، بَلْ هو المُطَّلِعُ عَلَيْها المُجازِي بِالثَّوابِ مَنِ امْتَثَلَ أمْرَهُ، وبِالعِقابِ مَن خالَفَهُ. وجاءَ في قَوْلِهِ: ﴿الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ [البقرة: ١٤٧] في المَكانَيْنِ، وفي قَوْلِهِ: (وما اللَّهُ) في المَكانَيْنِ، فَحَيْثُ نَبَّهَ عَلى اسْتِدْلالِ حِكْمَتِهِ بِالنَّظَرِ إلى أفْعالِهِ، ذَكَرَ الرَّبَّ المُقْتَضِي لِلنِّعَمِ، لِنَنْظُرَ مِنها إلى المُنْعِمِ، ونَسْتَدِلَّ بِها عَلَيْهِ، ولَمّا انْتَهى (p-٤٤٠)إلى ذِكْرِ الوَعِيدِ، ذَكَرَ لَفْظَ اللَّهِ المُقْتَضِي لِلْعِبادَةِ الَّتِي مَن أخَلَّ بِها اسْتَحَقَّ ألِيمَ العَذابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب