الباحث القرآني

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ولَكم ما كَسَبْتُمْ ولا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى شَرْحِ هَذِهِ الجُمَلِ، وتَضَمَّنَتْ مَعْنى التَّخْوِيفِ والتَّهْدِيدِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِتَكْرارٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ورَدَ إثْرَ شَيْءٍ مُخالِفٍ لِما ورَدَتِ الجُمَلُ الأوْلى بِإثْرِهِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ السِّياقُ، فَلا تَكْرارَ. بَيانُ ذَلِكَ أنَّ الأُولى ورَدَتْ إثْرَ ذِكْرِ الأنْبِياءِ، فَتِلْكَ إشارَةٌ إلَيْهِمْ، وهَذِهِ ورَدَتْ عَقِبَ أسْلافِ اليَهُودِ والنَّصارى، فالمُشارُ إلَيْهِ هم. فَقَدِ اخْتَلَفَ المُخْبَرُ عَنْهُ والسِّياقُ، والمَعْنى: أنَّهُ إذا كانَ الأنْبِياءُ عَلى فَضْلِهِمْ وتَقَدُّمِهِمْ، يُجازَوْنَ بِما كَسَبُوا، فَأنْتُمْ أحَقُّ بِذَلِكَ. وقِيلَ: الإشارَةُ بِتِلْكَ إلى إبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، واسْتُبْعِدَ أنْ يُرادَ بِذَلِكَ أسْلافُ اليَهُودِ والنَّصارى؛ لِأنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهم ذِكْرٌ مُصَرِّحٌ بِهِمْ، وإذا كانَتِ الإشارَةُ بِتِلْكَ إلى إبْراهِيمَ ومَن مَعَهُ، فالتَّكْرارُ حَسَنٌ لِاخْتِلافِ الأقْوالِ والسِّياقِ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الشَّرِيفَةُ ما كانَ عَلَيْهِ الأنْبِياءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِنَ الدُّعاءِ إلى اللَّهِ تَعالى، حَتّى جَعَلُوا ذَلِكَ وصِيَّةً يُوصُونَ بِها واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ. فَأخْبَرَ تَعالى عَنْ إبْراهِيمَ أنَّهُ أوْصى بِمِلَّتِهِ الحَنِيفِيَّةِ بَنِيهِ، وأنَّ يَعْقُوبَ أوْصى بِذَلِكَ، وقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ وصِيَّتِهِ اخْتِيارَ اللَّهِ لَهم هَذا الدِّينَ؛ لِيُسَهِّلَ عَلَيْهِمُ اتِّباعَ ما اخْتارَهُ اللَّهُ لَهم، ويَحُضَّهم عَلى ذَلِكَ، وأمَرَهم أنَّهم لا يَمُوتُونَ إلّا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الأعْمالَ بِخَواتِيمِها. ثُمَّ ذَكَرَ سُؤالَ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ عَمّا يَعْبُدُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَأجابُوهُ بِما قَرَّتْ بِهِ عَيْنُهُ مِن مُوافَقَتِهِ ومُوافَقَةِ آبائِهِ الأنْبِياءِ مِن عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وحْدَهُ، والِانْقِيادِ لِأحْكامِهِ. وحِكْمَةُ هَذا السُّؤالِ أنَّهُ لَمّا وصّاهم بِالحَنِيفِيَّةِ، اسْتَفْسَرَهم عَمّا تُكِنُّ صُدُورُهم، وهَلْ يَقْبَلُونَ الوَصِيَّةَ ؟ فَأجابُوهُ بِقَبُولِها وبِمُوافَقَةِ ما أحَبَّهُ مِنهم، لِيَسْكُنَ بِذَلِكَ جَأْشُهُ، ويَعْلَمَ أنَّهُ قَدْ خَلَّفَ مَن يَقُومُ مَقامَهُ في الدُّعاءِ إلى اللَّهِ تَعالى. وصَدَرَ سُؤالُ يَعْقُوبَ بِتَقْرِيعِ اليَهُودِ والنَّصارى بِأنَّهم ما كانُوا شَهِدُوا وصِيَّةَ يَعْقُوبَ، إذْ فاجَأهُ مُقَدِّماتُ المَوْتِ، فَدَعْواهُمُ اليَهُودِيَّةَ والنَّصْرانِيَّةَ عَلى إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ وبَنِيهِمْ باطِلَةٌ، إذْ لَمْ يَحْضُرُوا وقْتَ الوَصِيَّةِ، ولَمْ تُنْبِئْهم بِذَلِكَ تَوْراتُهم ولا إنْجِيلُهم، فَبَطَلَ قَوْلُهم؛ إذْ لَمْ يَتَحَصَّلْ لا عَنْ عِيانٍ ولا عَنْ نَقْلٍ، ولا ذَلِكَ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي يَسْتَدَلُّ عَلَيْها بِالعَقْلِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ تِلْكَ الأُمَّةَ قَدْ مَضَتْ لِسَبِيلِها، وأنَّها رَهِينَةٌ بِما كَسَبَتْ، كَما أنَّكم مَرْهُونُونَ بِأعْمالِكم، وأنَّكم لا تُسْألُونَ عَنْهم. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى ما هم عَلَيْهِ مِن دَعْوى الباطِلِ. والدُّعاءِ إلَيْهِ وزَعْمِهِمْ أنَّ الهِدايَةَ في اتِّباعِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ. (p-٤١٧)ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ كَلامِهِمْ، وأخَذَ في اتِّباعِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ الحَنِيفِيَّةِ المُبايَنَةِ لِلْيَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ والوَثَنِيَّةِ. ثُمَّ أمَرَهم بِأنْ يُفْصِحُوا بِأنَّهم آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ وإلى إبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، فَإنَّ الإيمانَ بِذَلِكَ هو الدِّينُ الحَنِيفُ، وأنَّهم مُنْقادُونَ لِلَّهِ اعْتِقادًا وأفْعالًا. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى، إنْ وافَقُواكم عَلى ذَلِكَ الإيمانِ، فَقَدْ حَصَلَتِ الهِدايَةُ لَهم، ورَتَّبَ الهِدايَةَ عَلى ذَلِكَ الإيمانِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى فَسادِ تَرْتِيبِ الهِدايَةِ عَلى اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ في قَوْلِهِ: ”﴿وقالُوا كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: ١٣٥]“ . ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهم إنْ تَوَلَّوْا فَهُمُ الأعْداءُ المُشاقُّونَ لَكَ، وأنَّكَ لا تُبالِي بِشِقاقِهِمْ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى هو كافِيكَ أمْرَهم، ومَن كانَ اللَّهُ كافِيَهُ فَهو الغالِبُ، فَفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى ظُهُورِهِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ صِبْغَةَ المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ هي صِبْغَةُ اللَّهِ، وإذا كانَتْ صِبْغَةُ اللَّهِ، فَلا صِبْغَةَ أحْسَنُ مِنها، وأنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الصِّبْغَةِ هو ظُهُورُها عَلَيْهِمْ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، فَقالَ: ”ونَحْنُ لَهُ عابِدُونَ“ . ثُمَّ اسْتَفْهَمَهم أيْضًا عَلى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ عَنْ مُجادَلَتِهِمْ في اللَّهِ، ولا يَحْسُنُ النِّزاعُ فِيهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ هو رَبُّنا كُلِّنا، فالَّذِي يَقْتَضِيهِ العَقْلُ أنَّهُ لا يُجادِلُ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ رَبُّ الجَمِيعِ، وأشارَ إلى أنَّهُ يُجازِي الجَمِيعَ بِقَوْلِهِ: ”ولَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم“ . ثُمَّ ذَكَرَ ما انْفَرَدُوا بِهِ مِنَ الإخْلاصِ لَهُ، لِأنَّ اليَهُودَ والنَّصارى غَيْرُ مُخْلِصِينَ لَهُ في العِبادَةِ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَهم أيْضًا عَلى جِهَةِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ، عَنْ مَقالَتِهِمْ في إبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، مِن أنَّهم كانُوا يَهُودًا ونَصارى، وأنَّ دَأْبَهُمُ المُجادَلَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَتارَةً في اللَّهِ وتارَةً في أنْبِياءِ اللَّهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهم لا عِلْمَ عِنْدِهِمْ بَلِ اللَّهُ هو أعْلَمُ بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ تِلْكَ المَقالَةَ لَمْ تَكُنْ عَنْ دَلِيلٍ ولا شُبْهَةٍ، بَلْ مُجَرَّدِ عِنادٍ، وأنَّهم كاتِمُونَ لِلْحَقِّ، دافِعُونَ لَهُ، فَقالَ ما مَعْناهُ: لا أحَدَ أظْلَمُ مِن كاتِمِ شَهادَةٍ اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ إيّاها، والمَعْنى: لا أحَدَ أظْلَمُ مِنكم في المُجادَلَةِ في اللَّهِ، وفي نِسْبَةِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ لِإبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، إذْ عِنْدَهُمُ الشَّهادَةُ مِنَ اللَّهِ بِأحْوالِهِمْ. ثُمَّ هَدَّدَهم بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَغْفُلُ عَمّا يَعْمَلُونَ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأنَّ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ مُنْفَرِدَةً بِعَمَلِها، كَما أنْتُمْ كَذَلِكَ، وأنَّكم غَيْرُ مَسْئُولِينَ عَمّا عَمِلُوهُ، وجاءَتْ هَذِهِ الجُمَلُ مِنَ ابْتِداءِ ذِكْرِ إبْراهِيمَ إلى انْتِهاءِ الكَلامِ فِيهِ، عَلى اخْتِلافِ مَعانِيهِ وتَعَدُّدِ مَبانِيهِ، كَأنَّها جُمْلَةٌ واحِدَةٌ، في حُسْنِ مَساقِها ونَظْمِ اتِّساقِها، مُرْتَقِيَةً في الفَصاحَةِ إلى ذِرْوَةِ الإحْسانِ، مُفْصِحَةً أنَّ بَلاغَتَها خارِجَةٌ عَنْ طَبْعِ الإنْسانِ، مُذَكِّرَةً قَوْلَهُ تَعالى: ”قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ“ جَعَلَنا اللَّهُ مِمَّنْ هُدِيَ إلى عَمَلٍ بِهِ وفَهْمٍ، ووَفّى مِن تَدَبُّرِهِ أوْفَرَ سَهْمٍ، ووُقِيَ في تَفَكُّرِهِ مِن خَطَأٍ ووَهْمٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب