الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ أتُحاجُّونَنا في اللهِ وهو رَبُّنا ورَبُّكم ولَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم ونَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ ﴿أمْ تَقُولُونَ إنَّ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطَ كانُوا هُودًا أو نَصارى قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمْ اللهُ ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهُ وما اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ولَكم ما كَسَبْتُمْ ولا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ مَعْنى الآيَةِ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاءِ اليَهُودِ والنَصارى الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّهم أبْناءُ اللهِ (p-٣٦٣)وَأحِبّاؤُهُ وادَّعَوْا أنَّهم أولى بِاللهِ مِنكم لِقِدَمِ أدْيانِهِمْ وكُتُبِهِمْ: ﴿أتُحاجُّونَنا في اللهِ﴾ ؟ أيْ: أتُجاذِبُونَنا الحُجَّةَ عَلى دَعْواكُمْ؟ والرَبُّ تَعالى واحِدٌ. وكُلٌّ مُجازى بِعَمَلِهِ فَأيُّ تَأْثِيرٍ لِقِدَمِ الدِينِ، ثُمَّ وُبِّخُوا بِقَوْلِهِ: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾، أيْ: ولِمَ تُخْلِصُوا أنْتُمْ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ ما نَحْنُ أولى بِهِ مِنكُمْ؟ وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "أتُحاجُّونّا" بِإدْغامِ النُونِ في النُونِ، وخَفَّ الجَمْعُ بَيْنَ ساكِنِينَ لِأنَّ الأوَّلَ حَرْفُ مَدٍّ ولِينٍ، فالمَدُّ كالحَرَكَةِ، ومِن هَذا البابِ: دابَّةٌ وشابَّةٌ، وفي اللهِ مَعْناهُ: في دِينِهِ والقُرْبِ مِنهُ والحُظْوَةِ لَدَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ تَقُولُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى ألِفِ الِاسْتِفْهامِ المُتَقَدِّمَةِ، وهَذِهِ القِراءَةُ بِالتاءِ مِن فَوْقٍ قَرَأها ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفَصٌ عن عاصِمٍ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ: "أمْ يَقُولُونَ" بِالياءِ مِن أسْفَلٍ، و"أمْ" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ مَقْطُوعَةٌ، ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ، وحُكِيَ عن بَعْضِ النُحاةِ أنَّها لَيْسَتْ بِالمَقْطُوعَةِ لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: أتَقُومُ أمْ يَقُومُ عَمْرٌو ؟ فالمَعْنى: أيَكُونُ هَذا أمْ هَذا؟ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا المِثالُ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأنَّ القائِلَ فِيهِ واحِدٌ والمُخاطَبُ واحِدٌ، والقَوْلُ في الآيَةِ مِنَ اثْنَيْنِ والمُخاطَبُ اثْنانِ غَيْرانِ، وإنَّما تَتَّجِهُ مُعادَلَةُ "أمْ" لِلْألْفِ عَلى الحُكْمِ المَعْنَوِيِّ، كَأنَّ مَعْنى ﴿قُلْ أتُحاجُّونَنا﴾: أيْ أيُحاجُّونَ يا مُحَمَّدُ أمْ يَقُولُونَ؟ وقِيلَ: إنَّ "أمْ" في هَذا المَوْضِعِ غَيْرُ مُعادَلَةٍ عَلى القِراءَتَيْنِ، وحُجَّةُ ذَلِكَ اخْتِلافُ مَعْنى الآيَتَيْنِ وأنَّهُما لَيْسا قِسْمَيْنِ، بَلِ المُحاجَّةُ مَوْجُودَةٌ في دَعْواهُمُ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَلامُ. (p-٣٦٤)وَوَقَفَهم تَعالى عَلى مَوْضِعِ الِانْقِطاعِ في الحُجَّةِ، لِأنَّهم إنْ قالُوا: إنَّ الأنْبِياءَ المَذْكُورِينَ عَلى اليَهُودِيَّةِ والنَصْرانِيَّةِ كَذَّبُوا، لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ أنَّ هَذَيْنَ الدِينَيْنِ حَدَثا بَعْدَهُمْ، وإنْ قالُوا: لَمْ يَكُونُوا عَلى اليَهُودِيَّةِ والنَصْرانِيَّةِ قِيلَ لَهُمْ: فَهَلُمُّوا إلى دِينِهِمْ إذْ تُقِرُّونَ بِالحَقِّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللهُ﴾ ؟ تَقْرِيرٌ عَلى فَسادِ دَعْواهُمْ، إذْ لا جَوابَ لِمَفْطُورٍ إلّا أنَّ اللهَ تَعالى أعْلَمُ. ﴿وَمَن أظْلَمُ﴾ لَفْظُهُ الِاسْتِفْهامُ، والمَعْنى: لا أحَدَ أظْلَمُ مِنهُمْ، وإيّاهم أرادَ تَعالى بِكِتْمانِ الشَهادَةِ. واخْتُلِفَ في الشَهادَةِ هُنا، ما هِيَ؟ فَقالَ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ، والرَبِيعُ: هي ما في كُتُبِهِمْ مِن أنَّ الأنْبِياءَ عَلى الحَنِيفِيَّةِ لا عَلى ما ادَّعَوْا هُمْ، وقالَ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: هي ما عِنْدَهم مِنَ الأمْرِ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ ﷺ واتِّباعُهُ، والأوَّلُ أشْبَهُ بِسِياقِ مَعْنى الآيَةِ، واسْتَوْدَعَهُمُ اللهُ تَعالى هَذِهِ الشَهادَةَ ولِذَلِكَ قالَ: ﴿مِنَ اللهِ﴾، فمَن عَلى هَذا مُتَعَلِّقَةٌ، بِـ "عِنْدَهُ"، كَأنَّ المَعْنى شَهادَةٌ تَحَصَّلَتْ لَهُ مِنَ اللهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَتَعَلَّقَ "مَن" بِـ "كَتَمَ"، أيْ كَتْمُها مِنَ اللهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾، وعِيدٌ وإعْلامٌ أنَّهُ لا يَتْرُكُ أمْرَهم سُدًى، وأنَّ أعْمالَهم تَحْصُلُ ويُجازُونَ عَلَيْها، والغافِلُ الَّذِي لا يَفْطَنُ لِلْأُمُورِ إهْمالًا مِنهُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الأرْضِ الغُفْلِ، وهي الَّتِي لا عِلْمَ بِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ الآيَةُ، كَرَّرَها عن قُرْبٍ لِأنَّها تَضَمَّنَتْ مَعْنى التَهْدِيدِ والتَخْوِيفِ، أيْ إذا كانَ أُولَئِكَ الأنْبِياءُ عَلى إمامَتِهِمْ وفَضْلِهِمْ يُجازُونَ بِكَسْبِهِمْ فَأنْتُمْ (p-٣٦٥)أحْرى، فَوَجَبَ التَأْكِيدُ، فَلِذَلِكَ كَرَّرَها، ولِتَرْدادِ ذِكْرِهِمْ أيْضًا في مَعْنًى غَيْرِ الأوَّلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب