الباحث القرآني
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾، تِلْكَ: إشارَةٌ إلى إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ وأبْنائِهِما. ومَعْنى خَلَتْ: ماتَتْ وانْقَضَتْ وصارَتْ إلى الخَلاءِ، وهو الأرْضُ الَّذِي لا أنِيسَ بِهِ. والمُخاطَبُ هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى الَّذِينَ ادَّعَوْا لِإبْراهِيمَ وبَنِيهِ اليَهُودِيَّةَ والنَّصْرانِيَّةَ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ، صِفَةٌ لِأُمَّةٍ.
﴿لَها ما كَسَبَتْ ولَكم ما كَسَبْتُمْ﴾: أيْ تِلْكَ الأُمَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِجَزاءِ ما كَسَبَتْ، كَما أنَّكم كَذَلِكَ مُخْتَصُّونَ بِجَزاءِ ما كَسَبْتُمْ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، فَلا يَنْفَعُ أحَدًا كَسْبُ غَيْرِهِ. وظاهِرُ ”ما“ أنَّها مَوْصُولَةٌ وحُذِفَ العائِدُ، أيْ لَها ما كَسَبَتْهُ. وجَوَّزُوا أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةً، أيْ لَها كَسْبُها، وكَذَلِكَ ما في قَوْلِهِ: ﴿ولَكم ما كَسَبْتُمْ﴾ . ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ اسْتِئْنافًا، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةً حالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ في خَلَتْ، أيِ انْقَضَتْ مُسْتَقِرًّا ثابِتًا، لَها ما كَسَبَتْ. والأظْهَرُ الأوَّلُ؛ لِعَطْفِ قَوْلِهِ: ﴿ولَكم ما كَسَبْتُمْ﴾ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ . (p-٤٠٥)ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ﴿ولَكم ما كَسَبْتُمْ﴾ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ الحالِ قَبْلَها، لِاخْتِلافِ زَمانِ اسْتِقْرارِ كَسْبِها لَها. وزَمانِ اسْتِقْرارِ كَسْبِ المُخاطَبِينَ، وعَطْفُ الحالِ عَلى الحالِ، يُوجِبُ اتِّحادَ الزَّمانِ. افْتَخَرُوا بِأسْلافِهِمْ، فَأُخْبِرُوا أنَّ أحَدًا لا يَنْفَعُ أحَدًا، مُتَقَدِّمًا كانَ أوْ مُتَأخِّرًا. ورُوِيَ: يا بَنِي هاشِمَ لا يَأْتِينِي النّاسُ بِأعْمالِهِمْ وتَأْتُونِي بِأنْسابِكم؛ يا فاطِمَةُ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي هَذا الآيَةِ رَدٌّ عَلى الجَبْرِيَّةِ القائِلِينَ: لا اكْتِسابَ لِلْعَبْدِ. انْتَهى.
وهَذِهِ مَسْألَةٌ يُبْحَثُ فِيها في أُصُولِ الدِّينِ، وهي مِنَ المَسائِلِ المُعْضِلَةِ، ومَذاهِبُ أهْلِ الإسْلامِ فِيها أرْبَعَةٌ. أحَدُها: قَوْلُ الجَبْرِيَّةِ، وهو أنَّ العَبْدَ مَجْبُورٌ عَلى فِعْلِهِ، وأنَّهُ لا اخْتِيارَ لَهُ في ذَلِكَ، بَلْ هو مُلْجَأٌ إلَيْهِ، وأنَّ نِسْبَةَ الفِعْلِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ حَرَكَةِ الغُصْنِ إلَيْهِ، إذا حَرَّكَهُ مُحَرِّكٌ. والثّانِي: قَوْلُ القَدَرِيَّةِ، وهو أنَّهم لَيْسُوا مَجْبُورِينَ عَلى الفِعْلِ بَلْ لَهم قُدْرَةٌ عَلى إيجادِ الفِعْلِ. والثّالِثُ: قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ، أنَّ العَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ يَخْلُقُها اللَّهُ لَهُ قَبْلَ الفِعْلِ، وهو مُتَمَكِّنٌ مِن إيقاعِهِ وعَدَمِ إيقاعِهِ. والرّابِعُ: مَذْهَبٌ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ: أنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ تَمْكِينًا وقُدْرَةً مَعَ الفِعْلِ يَفْعَلُ بِها الخَيْرَ والشَّرَّ، لا عَلى سَبِيلِ الِاضْطِرارِ والإلْجاءِ، وهَذا التَّمْكِينُ هو مَناطُ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ العِقابُ والثَّوابُ. ثُمَّ بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى هَذا الأصْلِ، اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِهِ عَلى ثَلاثَةِ تَفاسِيرَ: أحَدُها: قَوْلُ أبِي الحَسَنِ: أنَّ القُدْرَةَ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالمَقْدُورِ مِن غَيْرِ تَأْثِيرٍ في المَقْدُورِ، بَلِ القُدْرَةُ والمَقْدُورُ حَصَلا بِخَلْقِ اللَّهِ، لَكِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ، وهو مُتَعَلِّقُ القُدْرَةِ الحادِثَةِ، هو الكَسْبُ. والثّانِي: قَوْلُ الباقِلّانِيُّ: أنَّ ذاتَ الفِعْلِ لَمْ تُحَصِّلْ لَهُ صِفَةَ كَوْنِهِ طاعَةً ومَعْصِيَةً، بَلْ هَذِهِ الصِّفَةُ حَصَلَتْ لَهُ بِالقُدْرَةِ الحادِثَةِ. والثّالِثُ: قَوْلُ أبِي إسْحاقَ الإسْفِرايِينِيِّ: أنَّ القُدْرَتَيْنِ، القَدِيمَةَ والحَدِيثَةَ إذا تَعَلَّقَتا بِمَقْدُورٍ وقَعَ بِهِما، فَكَأنَّ فِعْلَ العَبْدِ يُوقَعُ بِإعانَةٍ، فَهَذا هو الكَسْبُ.
﴿ولا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾: جُمْلَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ لِما قَبْلَها؛ لِأنَّهُ قَدْ أخْبَرَ بِأنَّ كُلَّ أحَدٍ مُخْتَصٌّ بِكَسْبِهِ مِن خَيْرٍ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَلا يُسْألُ أحَدٌ عَنْ عَمَلِ أحَدٍ. فَكَما أنَّهُ لا يَنْفَعُكم حَسَناتُهم، فَكَذَلِكَ لا تُسْألُونَ ولا تُؤاخَذُونَ بِسَيِّئاتِ مَنِ اكْتَسَبَها.
﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، كُلُّ شاةٍ بِرِجْلِها تُناطُ. قالُوا: وفي هَذِهِ الآيَةِ وما قَبْلَها، دَلِيلٌ عَلى أنَّ لِلْإنْسانِ أنْ يَحْتَجَّ عَلى غَيْرِهِ بِما يَجْرِي مَجْرى المُناقَضَةِ لِقَوْلِهِ، إفْحامًا لَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً في نَفْسِهِ؛ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لَمْ يَحْتَجَّ عَلى نُبُوَّتِهِ بِأمْثالِ هَذِهِ الكَلِماتِ، بَلْ كانَ يَحْتَجُّ بِالمُعْجِزاتِ الباهِرَةِ. لَكِنَّهُ لَمّا أقامَ الحُجَّةَ بِها وأزاحَ العِلَّةَ وجَدَهم مُعانِدِينَ مُسْتَمِرِّينَ عَلى باطِلِهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أوْرَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الحُجَّةِ ما يُجانِسُ ما كانُوا عَلَيْهِ، فَقالَ: إنْ كانَ الدِّينُ بِالِاتِّباعِ، فالمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أوْلى. وفي قَوْلِهِ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ إلى آخِرِهِ، دَلالَةٌ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يَقُولُ بِجَوازِ تَعْذِيبِ أوْلادِ المُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ آبائِهِمْ. وفي الآيَةِ قَبْلَها دَلالَةٌ عَلى أنَّ الأبْناءَ يُثابُونَ عَلى طاعَةِ الآباءِ.
{"ayah":"تِلۡكَ أُمَّةࣱ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق