الباحث القرآني
﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أعْمالُهم كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذَلِكَ هو الضَّلالُ البَعِيدُ﴾ [إبراهيم: ١٨] ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٩] ﴿وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم: ٢٠] ﴿وبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنّا كُنّا لَكم تَبَعًا فَهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِن عَذابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانا اللَّهُ لَهَدَيْناكم سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا ما لَنا مِن مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: ٢١] ﴿وقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللَّهَ وعَدَكم وعْدَ الحَقِّ ووَعَدْتُكم فَأخْلَفْتُكم وما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكم ما أنا بِمُصْرِخِكم وما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِما أشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿وأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ﴾ ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصْلُها ثابِتٌ وفَرْعُها في السَّماءِ﴾ [إبراهيم: ٢٤] ﴿تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّها ويَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: ٢٥] ﴿ومَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ ما لَها مِن قَرارٍ﴾ [إبراهيم: ٢٦] (p-٤١٤)الرَّمادُ: مَعْرُوفٌ، وقالَ ابْنُ عِيسى: هو جِسْمٌ يَسْحَقُهُ الإحْراقُ سَحْقَ الغُبارِ، ويُجْمَعُ عَلى رُمُدٍ في الكَثْرَةِ وأرْمِدَةٍ في القِلَّةِ، وشَذَّ جَمْعُهُ عَلى أفْعِلاءَ، قالُوا: أرْمِداءُ، ورَمادٌ رَمْدَدٌ إذا صارَ هَباءً أرَقَّ ما يَكُونُ. الجَزَعُ: عَدَمُ احْتِمالِ الشِّدَّةِ، وهو نَقِيضُ الصَّبْرِ. قالَ الشّاعِرُ:
؎جَزِعْتُ ولَمْ أجْزَعْ مِنَ البَيْنِ مَجْزَعًا وعَزَّيْتُ قَلْبًا بِالكَواعِبِ مُولَعا
المُصْرِخُ: المُغِيثُ. قالَ الشّاعِرُ:
؎فَلا تَجْزَعُوا إنِّي لَكم غَيْرُ مُصْرِخٍ ∗∗∗ ولَيْسَ لَكم عَنِّي غَناءٌ ولا نَصْرٌ
والصّارِخُ: المُسْتَغِيثُ، صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخًا وصُراخًا وصَرْخَةً. قالَ سَلامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ:
؎كُنّا إذا ما أتانا صارِخٌ فَزِعٌ ∗∗∗ كانَ الصُّراخُ لَهُ قَرْعُ الظَّنابِيبِ
واصْطَرَخَ بِمَعْنى صَرَخَ، وتَصَرَّخَ: تَكَلَّفَ الصُّراخَ، واسْتَصْرَخَ اسْتَغاثَ، فَقالَ: اسْتَصْرَخَنِي فَأصْرَخْتُهُ، والصَّرِيخُ: مَصْدَرٌ كالتَّرِيحِ، ويُوصَفُ بِهِ المُغِيثُ والمُسْتَغِيثُ مِنَ الأضْدادِ. الفَرْعُ: الغُصْنُ مِنَ الشَّجَرَةِ. ويُطْلَقُ عَلى ما يُولَدُ مِنَ الشَّيْءِ، والفَرْعُ: الشَّعْرُ، يُقالُ: رَجُلٌ أفْرَعُ وامْرَأةٌ فَرْعاءُ لِمَن كَثُرَ شَعْرُهُ. وقالَ الشّاعِرُ: وهو امْرُؤُ القَيْسِ بْنُ حُجْرٍ:
؎وفَـرْعٍ يُغَشِّـي المَـتْنَ أسْـوَدَ فَـاحِمِ
اجْتَثَّ الشَّيْءَ: اقْتَلَعَهُ، وجَثَّ الشَّيْءَ: قَلَعَهُ، والجُثَّةُ: شَخْصُ الإنْسانِ قاعِدًا وقائِمًا. وقالَ لَقِيطٌ الإيادِيُّ:
؎هُوَ الجَلاءُ الَّذِي يَجْتَثُّ أصْلَكم ∗∗∗ فَمَن رَأى مِثْلَ ذا آتٍ ومَن سَمِعا
البَوارُ: الهَلاكُ. قالَ الشّاعِرُ:
؎فَلَمْ أرَ مِثْلَهم أبْطالَ حَرْبٍ ∗∗∗ غَداةَ الحَرْبِ إذْ خِيفَ البَوارُ
﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أعْمالُهم كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذَلِكَ هو الضَّلالُ البَعِيدُ﴾ [إبراهيم: ١٨]: ارْتِفاعُ ”مَثَلُ“ عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ فِيما يُتْلى عَلَيْكم، أوْ يُقَصُّ. والمَثَلُ مُسْتَعارٌ لِلصِّفَةِ الَّتِي فِيها غَرابَةٌ، ﴿وأعْمالُهم كَرَمادٍ﴾ [إبراهيم: ١٨] جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلى تَقْدِيرِ سُؤالٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ مَثَلُهم ؟ فَقِيلَ: ﴿أعْمالُهم كَرَمادٍ﴾ [إبراهيم: ١٨]، كَما تَقُولُ: صِفَةُ زَيْدٍ: عِرْضُهُ مَصُونٌ، ومالُهُ مَبْذُولٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومَذْهَبُ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ: أنَّهُ عَلى إلْغاءٍ ”مَثَلُ“، وأنَّ المَعْنى: الَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَرَمادٍ. وقالَ الحَوْفِيُّ: ﴿مَثَلُ﴾ [إبراهيم: ١٨] رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وأعْمالُهم بَدَلٌ مِن ﴿مَثَلُ﴾ [إبراهيم: ١٨] بَدَلَ اشْتِمالٍ. كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎ما لِلْجَمالِ مَشْيُها وئِيدًا ∗∗∗ أجُنْدُلًا يَحْمِلْنَ أمْ حَدِيدًا
وكَرَمادٍ: الخَبَرُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ يَكُونُ أعْمالُهم بَدَلًا مِن مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَلى تَقْدِيرِ: مَثَلُ أعْمالِهِمْ، و﴿كَرَمادٍ﴾ [إبراهيم: ١٨] الخَبَرُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقِيلَ: هو ابْتِداءٌ، و﴿أعْمالُهُمْ﴾ [إبراهيم: ١٨] ابْتِداءٌ ثانٍ، و﴿كَرَمادٍ﴾ [إبراهيم: ١٨] خَبَرٌ لِلثّانِي، والجُمْلَةُ خَبَرُ (p-٤١٥)الأوَّلِ. وهَذا عِنْدِي أرْجَحُ الأقْوالِ، وكَأنَّكَ قُلْتَ: المُتَحَصِّلُ مِثالًا في النَّفْسِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، هَذِهِ الجُمْلَةُ المَذْكُورَةُ، وهي أعْمالُهم في فَسادِها وقْتَ الحاجَةِ، وتَلاشِيها كالرَّمادِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيحُ، وتُفَرِّقُهُ بِشِدَّتِها حَتّى لا يَبْقى لَهُ أثَرٌ، ولا يَجْتَمِعَ مِنهُ شَيْءٌ، انْتَهى. وهَذا القَوْلُ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ قالَهُ الحَوْفِيُّ، وهو لا يَجُوزُ، لِأنَّ الجُمْلَةَ الواقِعَةَ خَبَرًا عَنِ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ، الَّذِي هو ”مَثَلُ“ عارِيَةٌ مِن رابِطٍ يَعُودُ عَلى المَثَلِ، ولَيْسَتْ نَفْسَ المُبْتَدَأِ في المَعْنى، فَلا تَحْتاجُ إلى رابِطٍ. وأعْمالُ الكَفَرَةِ: المَكارِمُ الَّتِي كانَتْ لَهم مِن صِلَةِ الأرْحامِ، وعِتْقِ الرِّقابِ، وفِداءِ الأسارى، وعَقْرِ الإبِل لِلْأضْيافِ، وإغاثَةِ المَلْهُوفِينَ، والإجارَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ؛ شَبَّهَها في حُبُوطِها وذَهابِها هَباءًا مَنثُورًا، لِبِنائِها عَلى غَيْرِ أساسٍ مِن مَعْرِفَةِ اللَّهِ والإيمانِ بِهِ، وكَوْنِها لِوَجْهِهِ بِرَمادٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ العاصِفُ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو جَعْفَرٍ: الرِّياحُ عَلى الجَمْعِ، والجُمْهُورُ عَلى الإفْرادِ. ووَصْفُ اليَوْمِ بِيَوْمٍ عاصِفٍ، وإنْ كانَ مِن صِفَةِ الرِّيحِ، عَلى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، كَما قالُوا: يَوْمَ ما حَلَّ وكِيلٌ نائِمٌ. وقالَ الهَرَوِيُّ: التَّقْدِيرُ في يَوْمٍ عاصِفِ الرِّيحِ، فَحُذِفَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِها، كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎إذا جاءَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كاسِفُ
يُرِيدُ كاسِفُ الشَّمْسِ. وقِيلَ: عاصِفٌ مِن صِفَةِ الرِّيحِ، إلّا أنَّهُ لَمّا جاءَ بَعْدَ اليَوْمِ أُتْبِعَ إعْرابَهُ، كَما قِيلَ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، يَعْنِي: أنَّهُ خُفِضَ عَلى الجِوارِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ، وإبْراهِيمُ بْنُ أبِي بَكْرٍ عَنِ الحَسَنِ: ﴿فِي يَوْمٍ عاصِفٍ﴾ [إبراهيم: ١٨]، عَلى إضافَةِ اليَوْمِ لِعاصِفٍ، وهو عَلى حَذْفِ المَوْصُوفِ، وإقامَةِ الصِّفَةِ مَقامَهُ، تَقْدِيرُهُ: في يَوْمِ رِيحٍ عاصِفٍ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ (العُصُوفِ) في يُونُسَ في قَوْلِهِ: ﴿جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ﴾ [يونس: ٢٢]، وعَلى قَوْلِ مَن أجازَ إضافَةَ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ القِراءَةُ مِنهُ: لا يَقْدِرُونَ يَوْمَ القِيامَةِ مِمّا كَسَبُوا مِن أعْمالِهِمْ عَلى شَيْءٍ، أيْ: لا يَرَوْنَ لَهُ أثَرًا مِن ثَوابٍ، كَما لا يُقْدَرُ مِنَ الرَّمادِ المَطِيرِ بِالرِّيحِ عَلى شَيْءٍ. وقِيلَ: لا يَقْدِرُونَ مِن ثَوابِ ما كَسَبُوا، هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ. وفي الصَّحِيحِ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ: «يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنَ جُدْعانَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المِسْكِينَ، هَلْ ذَلِكَ نافِعُهُ ؟ قالَ: لا يَنْفَعُهُ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)»، وفي الصَّحِيحِ أيْضًا: «إنَّ الكافِرَ لَيُطْعَمُ بِحَسَناتِهِ في الدُّنْيا ما عَمِلَ لِلَّهِ مِنها»، ذَلِكَ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِمْ بِهَذِهِ الحالِ. وعَلى مِثْلِ هَذا الغَرَرِ البَعِيدِ الَّذِي يُعْمِقُ فِيهِ صاحِبُهُ، وأُبْعِدَ عَنْ طَرِيقِ النَّجاةِ، والبَعِيدُ عَنِ الحَقِّ، أوِ الثَّوابِ. وفي البَقَرَةِ: ﴿لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا﴾ [إبراهيم: ١٨] عَلى شَيْءٍ مِنَ التَّفَنُّنِ في الفَصاحَةِ، والمُغايَرَةِ في التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والمَعْنى واحِدٌ.
﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٩] ﴿وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم: ٢٠] .
﴿وبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينِ اسْتَكْبَرُوا إنّا كُنّا لَكم تَبَعًا فَهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِن عَذابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانا اللَّهُ لَهَدَيْناكم سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا ما لَنا مِن مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: ٢١]: قَرَأ السُّلَمِيُّ (ألَمْ تَرْ) بِسُكُونِ الرّاءِ، ووَجْهُهُ: أنَّهُ أجْرى الوَصْلَ مُجْرى الوَقْفِ. وتَوْجِيهٌ آخَرُ، وهو أنَّ تَرى (p-٤١٦)حَذَفَتِ العَرَبُ ألِفَها في قَوْلِهِمْ: قامَ القَوْمُ ولَوْ تَرَ ما زَيْدٌ، كَما حُذِفَتْ ياءُ (لا أُبالِي) في لا أُبالِ، فَلَمّا دَخَلَ الجازِمُ تُخُيِّلَ أنَّ الرّاءَ هي آخِرُ الكَلِمَةِ، فَسُكِّنَتْ لِلْجازِمِ، كَما قالُوا في: (لا أُبالِي) لَمْ أُبَلْ، تَخَيَّلُوا اللّامَ آخِرَ الكَلِمَةِ. والرُّؤْيَةُ هُنا بِمَعْنى العِلْمِ، فَهي مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ. وقَرَأ الأخَوانِ: (خالِقُ) اسْمَ فاعِلٍ، و(الأرْضِ) بِالخَفْضِ. قَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: (خَلَقَ) فِعْلًا ماضِيًا، و(الأرْضَ) بِالفَتْحِ. ومَعْنى بِالحَقِّ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالحِكْمَةِ، والغَرَضِ الصَّحِيحِ، والأمْرِ العَظِيمِ، ولَمْ يَخْلُقْها عَبَثًا ولا شَهْوَةً. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِالحَقِّ أيْ بِما يَحِقُّ مِن جِهَةِ مَصالِحِ عِبادِهِ، وإنْفاذِ سابِقِ قَضائِهِ، ولِيَدُلَّ عَلَيْهِ وعَلى قُدْرَتِهِ. وقِيلَ: بِقَوْلِهِ وكَلامِهِ. وقِيلَ: ﴿بِالحَقِّ﴾ [إبراهيم: ١٩] حالٌ أيْ مُحِقًّا، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ [إبراهيم: ١٩]، خِطابٌ عامٌّ لِلنّاسِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: خِطابٌ لِلْكُفّارِ. ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيُّها النّاسُ ويَأْتِ بِناسٍ آخَرِينَ مِن جِنْسِكم آدَمِيِّينَ، ويَحْتَمِلْ مِن غَيْرِ جِنْسِكم. والأوَّلُ: قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، وتَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَيْنِ الِاحْتِمالَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ في قَوْلِهِ في النِّساءِ: ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيُّها النّاسُ ويَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ [النساء: ١٣٣] وبَيَّنّا في ذَلِكَ أنَّهُ لا يَحْتَمِلُ إلّا الوَجْهَ الأوَّلَ. وما ذَلِكَ، أيْ: وما ذَهابُكم والإتْيانُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بِمُمْتَنِعٍ ولا مُتَعَذِّرٍ عَلَيْهِ تَعالى، لِأنَّهُ تَعالى هو القادِرُ عَلى ما يَشاءُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأنَّهُ قادِرُ الذّاتِ لا اخْتِصاصَ لَهُ بِمَقْدُورٍ دُون مَقْدُورٍ، فَإذا خَلَصَ لَهُ الدّاعِي إلى شَيْءٍ، وانْتَفى الصّارِفُ، تَكُونُ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ كَتَحْرِيكِ أُصْبُعِكَ. وإذا دَعا إلَيْهِ داعٍ ولَمْ يَعْتَرِضْ مِن دُونِهِ صارِفٌ، انْتَهى. وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ لِقَوْلِهِ: القادِرُ، لِأنَّهم يُثْبِتُونَ القادِرِيَّةَ ويَنْفُونَ القُدْرَةَ، ولِتَشْبِيهِ فِعْلِهِ تَعالى بِفِعْلِ العَبْدِ في قَوْلِهِ: كَتَحْرِيكِ أُصْبُعِكَ. وعِنْدَنا أنَّ تَحْرِيكَ أُصْبُعِنا لَيْسَ إلّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، وأنَّ ما نُسِبَ إلَيْنا مِنَ القُدْرَةِ لَيْسَ مُؤَثِّرًا في إيجادِ شَيْءٍ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا: وهَذِهِ الآيَةُ بَيانٌ لِإبْعادِهِمْ في الضَّلالِ، وعَظِيمِ خَطْبِهِمْ في الكُفْرِ بِاللَّهِ، لِوُضُوحِ آياتِهِ الشّاهِدَةِ لَهُ الدّالَّةِ عَلى قُدْرَتِهِ الباهِرَةِ، وحِكْمَتِهِ البالِغَةِ، وأنَّهُ هو الحَقِيقُ بِأنْ يُعْبَدَ ويُخافَ عِقابُهُ، ويُرْجى ثَوابُهُ في دارِ الجَزاءِ، انْتَهى.
﴿وبَرَزُوا﴾ [إبراهيم: ٢١]: أيْ ظَهَرُوا مِن قُبُورِهِمْ إلى جَزاءِ اللَّهِ وحِسابِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْنى بُرُوزِهِمْ لِلَّهِ، واللَّهُ تَعالى لا يَتَوارى عَنْهُ شَيْءٌ حَتّى يُبْرِزَ أنَّهم كانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنَ العُيُونِ عِنْدَ ارْتِكابِ الفَواحِشِ، ويَظُنُّونَ أنَّ ذَلِكَ خافٍ عَلى اللَّهِ، فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ انْكَشَفُوا لِلَّهِ عِنْدَ أنْفُسِهِمْ، وعَلِمُوا أنَّ اللَّهَ لا تَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وبَرَزُوا: مَعْناهُ صارُوا بِالبَرازِ، وهي الأرْضُ المُتَّسِعَةُ، فاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِجَمْعِ يَوْمِ القِيامَةِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: تَأْوِيلُ الحُكَماءِ: أنَّ النَّفْسَ إذا فارَقَتِ الجَسَدَ فَكَأنَّهُ زالَ الغِطاءُ وبَقِيَتْ مُتَجَرِّدَةً بِذاتِها عارِيَةً عَنْ كُلِّ ما سِواها، وذَلِكَ هو البُرُوزُ لِلَّهِ تَعالى. وهَذا الرَّجُلُ كَثِيرًا ما يُورِدُ كَلامَ الفَلاسِفَةِ، وهم مُبايِنُونَ لِأهْلِ الشَّرائِعِ في تَفْسِيرِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى المُنَزَّلِ بِلُغَةِ العَرَبِ، والعَرَبُ لا تَفْهَمُ شَيْئًا مِن مَفاهِيمِ أهْلِ الفَلْسَفَةِ، فَتَفْسِيرُهم كاللُّغَزِ والأحاجِيَّ، ويُسَمِّيهِمْ هَذا الرَّجُلُ حُكَماءَ، وهم مِن أجْهَلِ الكَفَرَةِ بِاللَّهِ تَعالى وبِأنْبِيائِهِ. والضَّمِيرُ في ﴿وبَرَزُوا﴾ [إبراهيم: ٢١] عائِدٌ عَلى الخَلْقِ المُحاسَبِينَ، وعَبَّرَ بِلَفْظِ الماضِي لِصِدْقِ المُخْبِرِ بِهِ، فَكَأنَّهُ قَدْ وقَعَ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (وبَرَزُوا) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وبِتَشْدِيدِ الرّاءِ. والضُّعَفاءُ: الأتْباعُ، والعَوامُّ. وكُتِبَ بِواوٍ في المُصْحَفِ قَبْلَ الهَمْزَةِ عَلى لَفْظِ مَن يُفَخِّمُ الألِفَ قَبْلَ الهَمْزَةِ فَيُمِيلُها إلى الواوِ، ومِثْلُهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ. والَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: هم رُؤَساؤُهم وقاداتُهم، اسْتَغْفَرُوا الضُّعَفاءَ واسْتَتْبَعُوهم. واسْتَكْبَرُوا وتَكَبَّرُوا، وأظْهَرُوا تَعْظِيمَ أنْفُسِهِمْ. أوِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّباعِ الرُّسُلِ وعِبادَةِ اللَّهِ. وتَبَعًا: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ لِتابِعٍ، كَخادِمٍ وخُدَّمٍ، وغائِبٍ وغُيَّبٍ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَقَوْلِهِ: عَدْلٌ ورِضًا. وهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ ؟ اسْتِفْهامٌ: مَعْناهُ تَوْبِيخُهم إيّاهم وتَقْرِيعُهم، وقَدْ عَلِمُوا أنَّهم لَنْ يُغْنُوا، والمَعْنى: إنّا اتَّبَعْناكم فِيما كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلالِ كَما أمَرْتُمُونا وما أغْنَيْتُمْ عَنّا شَيْئًا، فَلِذَلِكَ جاءَ (p-٤١٧)جَوابُهم: لَوْ هَدانا اللَّهُ لَهَدَيْناكم، أجابُوا بِذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاعْتِذارِ والخَجَلِ ورَدِّ الهِدايَةِ لِلَّهِ تَعالى، وهو كَلامٌ حَقٌّ في نَفْسِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (مِن) الأُولى لِلتَّبْيِينِ، والثّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، كَأنَّهُ قِيلَ: هَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا بَعْضَ الشَّيْءِ الَّذِي هو عَذابُ اللَّهِ ؟ ويَجُوزُ أنْ يَكُونا لِلتَّبْعِيضِ مَعًا بِمَعْنى: هَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا بَعْضَ شَيْءٍ، هو بَعْضُ عَذابِ اللَّهِ، أيْ: بَعْضُ بَعْضِ عَذابِ اللَّهِ، انْتَهى. وهَذانِ التَّوْجِيهانِ اللَّذانِ وجَّهَهُما الزَّمَخْشَرِيُّ في (مِن) في المَكانَيْنِ يَقْتَضِي أوَّلُهُما التَّقْدِيمَ في قَوْلِهِ: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ [إبراهيم: ٢١] عَلى قَوْلِهِ: ﴿مِن عَذابِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: ٢١]، لِأنَّهُ جَعَلَ ﴿مِن شَيْءٍ﴾ [إبراهيم: ٢١] هو المُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن عَذابِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: ٢١] . و(مِن) التَّبْيِينِيَّةُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْها ما تُبَيِّنُهُ، ولا يَتَأخَّرُ والتَّوْجِيهُ الثّانِي، وهو بَعْضُ شَيْءٍ، هو بَعْضُ العَذابِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ بَدَلًا، فَيَكُونُ بَدَلَ عامٍّ مِن خاصٍّ، لِأنَّ مِن شَيْءٍ أعَمُّ مِن قَوْلِهِ: مِن عَذابِ اللَّهِ، وإنْ عَنى بِشَيْءٍ شَيْئًا مِنَ العَذابِ فَيَئُولُ المَعْنى إلى ما قُدِّرَ، وهو بَعْضُ بَعْضِ عَذابِ اللَّهِ. وهَذا لا يُقالُ، لِأنَّ بَعْضِيَّةَ الشَّيْءِ مُطْلَقَةٌ، فَلا يَكُونُ لَها بَعْضٌ. ونَصَّ الحَوْفِيُّ، وأبُو البَقاءِ: عَلى أنَّ (مِن) في قَوْلِهِ: مِن شَيْءٍ، زائِدَةٌ. قالَ الحَوْفِيُّ: ﴿مِن عَذابِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: ٢١] مُتَعَلِّقٌ بِـ ﴿مُغْنُونَ﴾ [إبراهيم: ٢١]، و(مِن) في ﴿مِن شَيْءٍ﴾ [إبراهيم: ٢١] لِاسْتِغْراقِ الجِنْسِ، زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وقالَ أبُو البَقاءِ: و(مِن) زائِدَةٌ أيْ: شَيْئًا كائِنًا مِن عَذابِ اللَّهِ، ويَكُونُ مَحْمُولًا عَلى المَعْنى تَقْدِيرُهُ: هَلْ تَمْنَعُونَ عَنّا شَيْئًا ؟ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ واقِعًا مَوْقِعَ المَصْدَرِ، أيْ: غِنًى فَيَكُونُ مِن عَذابِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِـ ﴿مُغْنُونَ﴾ [إبراهيم: ٢١]؛ انْتَهى. ومُسَوِّغُ الزِّيادَةِ: كَوْنُ الخَبَرِ في سِياقِ الِاسْتِفْهامِ، فَكَأنَ الِاسْتِفْهامَ دَخَلَ عَلَيْهِ وباشَرَهُ، وصارَتِ الزِّيادَةُ هُنا كالزِّيادَةِ في تَرْكِيبِ: فَهَلْ تُغْنُونَ ؟ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أجابُوهم مُعْتَذِرِينَ عَمّا كانَ مِنهم إلَيْهِمْ بِأنَّ اللَّهَ لَوْ هَداهم إلى الإيمانِ لَهَدَوْهم، ولَمْ يُضِلُّوهم إمّا مُدْرِكِينَ الذَّنْبَ في ضَلالِهِمْ، وإضْلالِهِمْ عَلى اللَّهِ كَما حَكى الله عَنْهم. وقالُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا، ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ، يَقُولُونَ ذَلِكَ في الآخِرَةِ كَما كانُوا يَقُولُونَهُ في الدُّنْيا، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ حِكايَةً عَنِ المُنافِقِينَ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكم ويَحْسَبُونَ أنَّهم عَلى شَيْءٍ﴾ [المجادلة: ١٨]؛ انْتَهى. وحَكى أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّهم قالُوا ذَلِكَ مَعَ أنَّهم كَذَبُوا فِيهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنِ المُنافِقِينَ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكم ويَحْسَبُونَ أنَّهم عَلى شَيْءٍ﴾ [المجادلة: ١٨] . قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: واعْلَمْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ لا يُجَوِّزُونَ صُدُورَ الكَذِبِ عَلى أهْلِ القِيامَةِ، فَكانَ هَذا القَوْلُ مِنهُ مُخالِفًا لِأُصُولِ مَشايِخِهِ، فَلا يُقْبَلُ مِنهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لَوْ كُنّا مِن أهْلِ اللُّطْفِ فَلَطَفَ بِنا رَبُّنا. واهْتَدَيْنا لَهَدَيْناكم إلى الإيمانِ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وذَكَرَ القاضِي هَذا الوَجْهَ وزَيَّفَهُ بِأنْ قالَ: لا يَجُوزُ حَمْلُ هَذا عَلى اللُّطْفِ، لِأنَّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَهُ اللَّهُ. وقِيلَ: لَوْ خَلَّصَنا اللَّهُ مِنَ العَذابِ، وهَدانا إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ لَهَدَيْناكم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في بَسْطِ هَذا القَوْلِ: لَوْ هَدانا اللَّهُ طَرِيقَ النَّجاةِ مِنَ العَذابِ لَهَدَيْناكم أيْ: لَأغْنَيْنا عَنْكم وسَلَكْنا بِكم طَرِيقَ النَّجاةِ، كَما سَلَكْنا بِكم سَبِيلَ الهَلَكَةِ؛ انْتَهى. وقِيلَ: ويَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالهُدى: الهُدى إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ، أنَّهُ هو الَّذِي التَمَسُوهُ وطَلَبُوهُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَوْ أرْشَدَنا اللَّهُ لَأرْشَدْناكم. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا﴾ [إبراهيم: ٢١] إلى آخِرِهِ، داخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ المُسْتَكْبِرِينَ، وجاءَتْ جُمَلُهُ بِلا واوِ عَطْفٍ، كَأنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ أنُشِئَتْ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، وإنْ كانَتْ مُرْتَبِطًا بَعْضُها بِبَعْضٍ مِن جِهَةِ المَعْنى، لِأنَّ سُؤالَهم: هَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا ؟ إنَّما كانَ لِجَزَعِهِمْ مِمّا هم فِيهِ؛ فَقالُوا ذَلِكَ: سَوَّوْا بَيْنَهم وبَيْنَهم في ذَلِكَ لِاجْتِماعِهِمْ في عِقابِ الضَّلالَةِ الَّتِي كانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيها، يَقُولُونَ: ما هَذا الجَزَعُ والتَّوْبِيخُ، ولا فائِدَةَ في الجَزَعِ، كَما لا فائِدَةَ في الصَّبْرِ. ولَمّا قالُوا: لَوْ هَدانا اللَّهُ، أتْبَعُوا ذَلِكَ بِالإقْناطِ مِنَ النَّجاةِ؛ فَقالُوا: ما لَنا مِن مَحِيصٍ: أيْ مَنجًى ومَهْرَبٍ، جَزِعْنا أمْ صَبَرْنا. وقِيلَ: سَواءٌ عَلَيْنا مِن كَلامِ الضُّعَفاءِ والَّذِينَ (p-٤١٨)اسْتَكْبَرُوا، والتَّقْدِيرُ: قالُوا جَمِيعًا سَواءٌ عَلَيْنا يُخْبِرُونَ عَنْ حالِهِمْ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في مِثْلِ هَذِهِ التَّسْوِيَةِ في أوَّلِ البَقَرَةِ، والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ المُحاوَرَةَ بَيْنَ الضُّعَفاءِ والرُّؤَساءِ هي في مَوْضِعِ العَرْضِ وقْتَ البُرُوزِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وابْنِ زَيْدٍ: أنَّ قَوْلَهم: ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا﴾ [إبراهيم: ٢١]، بَعْدَ صَبْرِهِمْ في النّارِ خَمْسَمِائَةِ عامٍ، وبَعْدَ جَزَعِهِمْ مِثْلَها.
﴿وقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللَّهَ وعَدَكم وعْدَ الحَقِّ ووَعَدْتُكم فَأخْلَفْتُكم وما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكم ما أنا بِمُصْرِخِكم وما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِما أشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إنَّ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾: مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ مُحاوَرَةَ الأتْباعِ لِرُؤَسائِهِمُ الكَفَرَةِ، ذَكَرَ مُحاوَرَةَ الشَّيْطانِ وأتْباعِهِ مِنَ الإنْسِ، وذَلِكَ لِاشْتِراكِ الرُّؤَساءِ والشَّياطِينِ في التَّلَبُّسِ بِالإضْلالِ. والشَّيْطانُ هُنا: إبْلِيسُ، وهو رَأْسُ الشَّياطِينِ. وفي حَدِيثِ الشَّفاعَةِ مِن حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ: «أنَّ الكافِرِينَ يَقُولُونَ: وجَدَ المُؤْمِنُونَ مَن يَشْفَعُ لَهم فَمَن يَشْفَعُ لَنا ؟ فَيَقُولُونَ: ما هو غَيْرُ إبْلِيسَ هو الَّذِي أضَلَّنا، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: قَدْ وجَدَ المُؤْمِنُونَ مَن يَشْفَعُ لَهم، فَقُمْ أنْتَ فاشْفَعْ لَنا، فَإنَّكَ أضْلَلْتَنا، فَيَقُومُ فَيَثُورُ مِن مَجْلِسِهِ أنْتَنُ رِيحٍ شَمَّهُ أحَدٌ؛ ويَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: (إنَّ اللَّهَ قَدْ وعَدَكم) الآيَةَ»، وعَنِ الحَسَنِ: يَقِفُ إبْلِيسُ خَطِيبًا في جَهَنَّمَ عَلى مِنبَرٍ مِن نارٍ يَسْمَعُهُ الخَلائِقُ جَمِيعًا فَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ وعَدَكم وعْدَ الحَقِّ، يَعْنِي: البَعْثَ، والجَنَّةَ، والنّارَ، وثَوابَ المُطِيعِ، وعِقابَ العاصِي، فَصَدَقَكم وعْدَهُ، ووَعَدْتُكم أنْ لا بَعْثٌ ولا جَنَّةٌ ولا نارٌ، ولا ثَوابٌ ولا عِقابٌ، فَأخْلَفْتُكم. قُضِيَ الأمْرُ، تَعَيَّنَ قَوْمٌ لِلْجَنَّةِ وقَوْمٌ لِلنّارِ، وذَلِكَ كُلُّهُ في المَوْقِفِ، وعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ الشَّفاعَةِ أوْ بَعْدَ حُصُولِ أهْلِ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ وأهْلِ النّارِ في النّارِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما ذَكَرْناهُ عَنِ الحَسَنِ، وهو تَأْوِيلُ الطَّبَرِيِّ. وقِيلَ: قُضِيَ الأمْرُ: قُطِعَ، وفُرِعَ مِنهُ؛ وهو الحِسابُ، وتَصادَرَ الفَرِيقَيْنِ إلى مَقَرَّيْهِما. ووَعْدُ الحَقِّ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ؛ أيْ: الوَعْدِ الحَقِّ، وأنْ يَكُونَ الحَقُّ: صِفَةَ اللَّهِ؛ أيْ: وعْدَهُ، وأنْ يَكُونَ الحَقُّ: الشَّيْءَ الثّابِتَ، وهو البَعْثُ والجَزاءُ عَلى الأعْمالِ؛ أيْ: فَوَفّى لَكم بِما وعَدَكم ووَعَدْتُكم خِلافَ ذَلِكَ فَأخْلَفْتُكم، وإلّا أنْ دَعَوْتُكُمُ الظّاهِرُ أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأنَّ دُعاءَهُ إيّاهم إلى الضَّلالَةِ ووَسْوَسَتَهُ لَيْسَ مِن جِنْسِ السُّلْطانِ، وهو الحُجَّةُ البَيِّنَةُ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالسُّلْطانِ (p-٤١٩)الغَلَبَةَ والتَّسْلِيطَ والقُدْرَةَ؛ أيْ: ما اضْطَرَرْتُكم ولا خَوَّفْتُكم بِقُوَّةٍ، بَلْ عَرَضْتُ عَلَيْكم شَيْئًا فَأتى رَأْيُكم عَلَيْهِ. وقِيلَ: هو اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، لِأنَّ القُدْرَةَ عَلى حَمْلِ الإنْسانِ عَلى الشَّيْءِ تارَةً يَكُونُ بِالقَهْرِ مِنَ الحامِلِ، وتارَةً يَكُونُ بِتَقْوِيَةِ الدّاعِيَةِ في قَلْبِهِ، وذَلِكَ بِإلْقاءِ الوَسْواسِ إلَيْهِ، فَهَذا نَوْعٌ مِن أنْواعِ التَّسْلِيطِ. وقِيلَ: وظاهِرُ هَذا الكَلامِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الشَّيْطانَ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى صَرْعِ الإنْسانِ وتَعْوِيجِ أعْضائِهِ وجَوارِحِهِ، وإزالَةِ عَقْلِهِ، فَلا تَلُومُونِي. وقُرِئَ: (فَلا يَلُومُونِي) بِالياءِ، عَلى الغَيْبَةِ، وهو التِفاتٌ يُرِيدُ في ما آتَيْتُمُوهُ مِنَ الضَّلالِ، ولُومُوا أنْفُسَكم في سُوءِ نَظَرِكم واسْتِجابَتِكم لِدُعائِي مِن غَيْرِ تَثَبُّتٍ ولا حُجَّةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولُومُوا أنْفُسَكم حَيْثُ اغْتَرَرْتُمْ، وأطَعْتُمُونِي إذْ دَعَوْتُكم، ولَمْ تُطِيعُوا رَبَّكم إذْ دَعاكم، وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإنْسانَ هو الَّذِي يَخْتارُ الشَّقاوَةَ والسَّعادَةَ ويُحَصِّلُها لِنَفْسِهِ، ولَيْسَ مِنَ اللَّهِ إلّا التَّمْكِينُ، ولا مِنَ الشَّيْطانِ إلّا التَّزْيِينُ، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَما يَزْعُمُ المُجْبِرَةُ لَقالَ: فَلا تَلُومُونِي ولا أنْفُسَكم، فَإنَّ اللَّهَ قَدْ قَضى عَلَيْكُمِ الكُفْرَ وأجْبَرَكم عَلَيْهِ؛ انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقِ الِاعْتِزالِ.
﴿ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بِنافِعِكم. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِمُنْقِذِكم، وقالَ الرَّبِيعُ: بِمُنْجِيكم، وقالَ مُجاهِدٌ: بِمُغِيثِكم، وكُلُّها أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ. وقَرَأ يَحْيَـى بْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وحَمْزَةُ: بِمُصْرِخِيِّ، بِكَسْرِ الياءِ، وطَعَنَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحاةِ في هَذِهِ القِراءَةِ. قالَ الفَرّاءُ: لَعَلَّها مِن وهْمِ القُرّاءِ، فَإنَّهُ قَلَّ مَن سَلِمَ مِنهم مَنِ الوَهْمِ، ولَعَلَّهُ ظَنَّ أنَّ الباءَ في ﴿بِمُصْرِخِيِّ﴾ خافِضَةٌ لِلَّفْظِ كُلِّهِ، والباءُ لِلْمُتَكَلِّمِ خارِجَةٌ مِن ذَلِكَ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: نَراهم غَلِطُوا، ظَنُّوا أنَّ الباءَ تُكْسَرُ لِما بَعْدَها. وقالَ الأخْفَشُ: ما سَمِعْتُ هَذا مِن أحَدٍ مِنَ العَرَبِ، ولا مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وقالَ الزَّجّاجُ: هَذِهِ القِراءَةُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ رَدِيئَةٌ مَرْذُولَةٌ، ولا وجْهَ لَها إلّا وجْهٌ ضَعِيفٌ. وقالَ النَّحّاسُ: صارَ هَذا إجْماعًا، ولا يَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ كِتابُ اللَّهِ عَلى الشُّذُوذِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هي ضَعِيفَةٌ، واسْتَشْهَدُوا لَها بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ:
؎قالَ لَها هَلْ لَكِ يا تافِيِّ ∗∗∗ قالَتْ لَهُ ما أنْتَ بِالمَرَضِيِّ
وكَأنَّهُ قَدَّرَ ياءَ الإضافَةِ ساكِنَةً، وقَبْلَها ياءٌ ساكِنَةٌ فَحَرَّكَها بِالكَسْرِ لِما عَلَيْهِ أصْلُ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، ولَكِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأنَّ ياءَ الإضافَةِ لا تَكُونُ إلّا مَفْتُوحَةً حَيْثُ قَبْلَها ألِفٌ، نَحْوَ: عَصايَ فَما بالُها، وقَبْلَها ياءٌ. (فَإنْ قُلْتَ): جَرَتِ الياءُ الأُولى مَجْرى الحُرِّ الصَّحِيحِ لِأجْلِ الإدْغامِ، كَأنَّها ياءٌ وقَعَتْ ساكِنَةً بَعْدَ حَرْفٍ صَحِيحٍ ساكِنٍ، فَحُرِّكَتْ بِالكَسْرِ عَلى الأصْلِ. (قُلْتُ): هَذا قِياسٌ حَسَنٌ، ولَكِنَّ الِاسْتِعْمالَ المُسْتَفِيضَ الَّذِي هو بِمَنزِلَةِ الخَبَرِ المُتَواتِرِ تَتَضاءَلُ إلَيْهِ القِياساتُ؛ انْتَهى. أمّا قَوْلُهُ: واسْتَشْهَدُوا لَها بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ، قَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أنَّهُ لِلْأغْلَبِ العِجْلِيِّ، وهي لُغَةٌ باقِيَةٌ في أفْواهِ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ إلى اليَوْمِ، يَقُولُ القائِلُ: ما فِيِّ أفْعَلُ كَذا، بِكَسْرِ الياءِ. وأمّا التَّقْدِيرُ الَّذِي قالَ: فَهو تَوْجِيهُ الفَرّاءِ، ذَكَرَهُ عَنْهُ الزَّجّاجُ. وأمّا (p-٤٢٠)قَوْلُهُ، في غُضُونِ كَلامِهِ حَيْثُ قَبْلَها ألِفٌ، فَلا أعْلَمُ حَيْثُ يُضافُ إلى الجُمْلَةِ المُصَدَّرَةِ بِالظَّرْفِ، نَحْوَ: قَعَدَ زَيْدٌ حَيْثُ أمامَ عُمَرَ وبَكْرٍ، فَيَحْتاجُ هَذا التَّرْكِيبُ إلى سَماعٍ. وأمّا قَوْلُهُ: لِأنَّ ياءَ الإضافَةِ إلى آخِرِهِ، قَدْ رَوى سُكُونَ الياءِ بَعْدَ الألِفِ. وقَرَأ بِذَلِكَ القُرّاءُ نَحْوَ: مَحْيايَ، وما ذَهَبَ إلَيْهِ مَن ذَكَرْنا مِنَ النُّحاةِ لا يَنْبَغِي أنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِ. واقْتَفى آثارَهم فِيها الخَلَفُ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُقالَ فِيها: إنَّها خَطَأٌ، أوْ قَبِيحَةٌ، أوْ رَدِيئَةٌ، وقَدْ نَقَلَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ اللُّغَة أنَّها لُغَةٌ، لَكِنَّهُ قَلَّ اسْتِعْمالُها. ونَصَّ قُطْرُبٌ عَلى أنَّها لُغَةٌ في بَنِي يَرْبُوعٍ. وقالَ القاسِمُ بْنُ مَعْنٍ، وهو مِن رُؤَساءِ النَّحْوِيِّينَ الكُوفِيِّينَ: هي صَوابٌ، وسَألَ حُسَيْنٌ الجُعْفِيُّ أبا عَمْرِو بْنَ العَلاءِ، وذَكَرَ تَلْحِينَ أهْلِ النَّحْوِ فَقالَ: هي جائِزَةٌ. وقالَ أيْضًا: لا تُبالِي إلى أسْفَلِ حَرَكَتِها، أوْ إلى فَوْقُ. وعَنْهُ أنَّهُ قالَ: هي بِالخَفْضِ حَسَنَةٌ. وعَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: هي جائِزَةٌ. ولَيْسَتْ عِنْدَ الإعْرابِ بِذَلِكَ، ولا التِفاتَ إلى إنْكارِ أبِي حاتِمٍ عَلى أبِي عَمْرٍو تَحْسِينَها، فَأبُو عَمْرٍو إمامُ لُغَةٍ، وإمامُ نَحْوٍ، وإمامُ قِراءَةٍ، وعَرَبِيٌّ صَرِيحٌ، وقَدْ أجازَها وحَسَّنَها، وقَدْ رَوَوْا بَيْتَ النّابِغَةِ:
(
؎عَلَيِّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ∗∗∗ لِوالِدِهِ لَيْسَتْ بِذاتِ عَقارِبَ
بِخَفْض الياء مِن عَلَيِّ. و(ما) في ﴿بِما أشْرَكْتُمُونِي﴾: مَصْدَرِيَّةٌ، و﴿مِن قَبْلُ﴾ مُتَعَلِّقٌ (بِأشْرَكْتُمُونِي) أيْ: كَفَرْتُ اليَوْمَ بِإشْراكِكم إيّايَ مِن قَبْلِ هَذا اليَوْمِ، أيْ: في الدُّنْيا، كَقَوْلِهِ: ﴿إنّا بُرَآءُ مِنكم ومِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ﴾ [الممتحنة: ٤] وقالَ: ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطر: ١٤] . وقِيلَ: مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي، والتَّقْدِيرُ: كَفَرْتُ بِالصَّنَمِ الَّذِي أشْرَكْتُمُونِيهِ، فَحَذَفَ العائِدَ. وقِيلَ: (مِن قَبْلُ) مُتَعَلِّق بِـ ﴿كَفَرْتُ﴾، و(ما) بِمَعْنى الَّذِي، أيْ: كَفَرْتُ مِن قَبْلُ حِينِ أبَيْتُ السُّجُودَ لِآدَمَ، بِالَّذِي أشْرَكْتُمُونِيهِ؛ وهو اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - . تَقُولُ: شَرَكْتُ زَيْدًا، فَإذا أُدْخِلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ قُلْتُ: أشْرَكْتُ زَيْدًا عَمْرًا، أيْ جَعَلْتُهُ لَهُ شَرِيكًا. إلّا أنَّ في هَذا القَوْلِ إطْلاقَ (ما) عَلى اللَّهِ تَعالى، و(ما) الأصَحُّ فِيها أنَّها لا تُطْلَقُ عَلى آحادٍ مِن يَعْلَمُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ونَحْوُ (ما) هَذِهِ يَعْنِي: في إطْلاقِها عَلى اللَّهِ، (ما) في قَوْلِهِمْ: سُبْحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لَنا؛ انْتَهى. ومَن مَنَعَ ذَلِكَ جَعَلَ سُبْحانَ عَلَمًا عَلى مَعْنى التَّسْبِيحِ، كَما جَعَلَ بَرَّةً عَلَمًا لِلْمَبَرَّةِ. و(ما): مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِن إبْلِيسَ إقْرارًا عَلى نَفْسِهِ بِكُفْرِهِ الأقْدَمِ؛ أيْ: خَطِيئَتِي قَبْلَ خَطِيئَتِكم. فَلا إصْراخَ عِنْدِي أنَّ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ، الظّاهِرُ أنَّهُ مِن تَمامِ كَلامِ إبْلِيسَ، حَكى اللَّهُ عَنْهُ ما سَيَقُولُهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ لِيَكُونَ تَنْبِيهًا لِلسّامِعِينَ عَلَيَّ النَّظَرُ في عاقِبَتِهِمْ، والِاسْتِعْدادُ لِما لا بُدَّ مِنهُ. وأنْ يَتَصَوَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ذَلِكَ المَقامَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّيْطانُ ما يَقُولُ، فَيَخافُوا، ويَعْمَلُوا ما يُخَلِّصُهم مِنهُ، ويُنْجِيهِمْ. وقِيلَ: هو مِن كَلامِ الخَزَنَةِ يَوْمَ ذاكَ. وقِيلَ: مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى. ولِأبِي عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيِّ كَلامٌ هُنا في الشَّيْطانِ والمَلائِكَةِ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِن تَفْسِيرِهِ.
﴿وأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ﴾: لَمّا جَمَعَ الفَرِيقَيْنِ، في قَوْلِهِ: ﴿وبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [إبراهيم: ٢١] وذَكَرَ شَيْئًا مِن أحْوالِ الكُفّارِ، ذَكَرَ ما آلَ إلَيْهِ أمْرُ المُؤْمِنِينَ مِن إدْخالِهِمُ الجَنَّةَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وأُدْخِلَ ماضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وأُدْخِلُ بِهَمْزَةِ المُتَكَلِّمِ مُضارِعُ أدْخَلَ؛ أيْ: وأُدْخِلُ أنا. وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ المَلائِكَةَ، والظّاهِرُ تَعَلَّقَ بِإذْنِ رَبِّهِمْ بِأُدْخِلَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَبِمَ يَتَعَلَّقُ - يَعْنِي بِإذْنِ رَبِّهِمْ - في القِراءَةِ الأُخْرى، وقَوْلِكَ وأُدْخِلُهم أنا بِإذْنِ رَبِّهِمْ، كَلامٌ غَيْرُ مُلْئَتِمٍ؛ (قُلْتُ): الوَجْهُ في هَذِهِ القِراءَةِ: أنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ بِإذْنِ رَبِّهِمْ بِما بَعْدَهُ، أيْ: تَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ بِإذْنِ رَبِّهِمْ؛ يَعْنِي: أنَّ المَلائِكَةَ يُحَيُّونَهم بِإذْنِ رَبِّهِمْ؛ انْتَهى. فَظاهِرُ كَلامِهِ أنَّ بِإذْنِ رَبِّهِمْ مَعْمُولٌ، لِقَوْلِهِ: (p-٤٢١)تَحِيَّتُهم، ولِذَلِكَ قالَ: يَعْنِي أنَّ المَلائِكَةَ يُحَيُّونَهم بِإذْنِ رَبِّهِمْ، وهَذا لا يَجُوزُ، لِأنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ المَصْدَرِ المُنْحَلِّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلُ عَلَيْهِ، وهو غَيْرُ جائِزٍ. وقالَ أبُو الفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أحْمَدَ الرّازِيُّ الحَسَنُ: أُدْخِلُ، بِرَفْعِ اللّامِ عَلى الِاسْتِقْبالِ، بِإخْبارِ اللَّهِ تَعالى عَنْ نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ بِإذْنِ رَبِّهِمْ ألْطَفَ لَهم وأحْنى عَلَيْهِمْ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿تَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ﴾ في أوائِلِ سُورَةِ يُونُسَ.
{"ayahs_start":22,"ayahs":["وَقَالَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَمَّا قُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ فَلَا تَلُومُونِی وَلُومُوۤا۟ أَنفُسَكُمۖ مَّاۤ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَاۤ أَنتُم بِمُصۡرِخِیَّ إِنِّی كَفَرۡتُ بِمَاۤ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","وَأُدۡخِلَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِیَّتُهُمۡ فِیهَا سَلَـٰمٌ"],"ayah":"وَأُدۡخِلَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِیَّتُهُمۡ فِیهَا سَلَـٰمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق