الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَقالَ الشَيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللهَ وعَدَكم وعْدَ الحَقِّ ووَعَدْتُكم فَأخْلَفْتُكم وما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكم ما أنا بِمُصْرِخِكم وما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِما أشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إنَّ الظالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ﴾
المُرادُ ها هُنا "بِالشَيْطانِ" إبْلِيسُ الأقْدَمُ نَفْسُهُ، ورُوِيَ في حَدِيثٍ عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ مِن طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ أنَّهُ قالَ: « "يَقُومُ يَوْمَ القِيامَةِ خَطِيبانِ: أحَدُهُما إبْلِيسُ، يَقُومُ في الكَفَرَةِ بِهَذِهِ الألْفاظِ، والثانِي عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَلامُ، يَقُومُ (p-٢٣٩)بِقَوْلِهِ: ﴿ما قُلْتُ لَهم إلا ما أمَرْتَنِي بِهِ﴾ [المائدة: ١١٧]» وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: يَقُومُ إبْلِيسُ خَطِيبُ السُوءِ، الصادِقُ بِهَذِهِ الآيَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَعَلى مَعْنى هَذِهِ الرِواياتِ يَكُونُ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾ أيْ: تَعَيَّنَ قَوْمٌ لِدُخُولٍ النارِ، وقَوْمٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ، وذَلِكَ كُلُّهُ في المَوْقِفِ.
ورُوِيَ في حَدِيثٍ أنَّ إبْلِيسَ إنَّما يَقُومُ بِهَذِهِ الألْفاظِ في النارِ عَلى أهْلِها عِنْدَ قَوْلِهِمْ: ﴿ما لَنا مِن مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: ٢١] في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحْمَهُ اللهُ:
فَعَلى هَذِهِ الرِوايَةِ يَكُونُ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾، أيْ: حَصَلَ أهْلُ النارِ في النارِ، وأهْلُ الجَنَّةِ، وهو تَأْوِيلُ الطَبَرِيُّ. و"قُضِيَ" قَدْ يُعَبَّرُ بِها في الأُمُورِ عن فِعْلٍ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقُضِيَ الأمْرُ واسْتَوَتْ عَلى الجُودِيِّ﴾ [هود: ٤٤]، وقَدْ يُعَبَّرُ بِها عن عَزْمٍ عَلى أنْ يَفْعَلَ كَقَوْلُهُ: ﴿قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ [يوسف: ٤١].
و"الوَعْدُ" في هَذِهِ الآيَةِ عَلى بابِهِ في الخَيْرِ، أيْ إنَّ اللهَ وعَدَهُمُ النَعِيمَ إنْ آمَنُوا، ووَعَدَهم إبْلِيسُ الظَفَرَ والأمَلَ إنْ كَذَّبُوا، ومَعْلُومٌ اقْتِرانُ وعْدِ اللهِ بِوَعِيدِهِ، واتَّفَقَ أنْ لَمْ يَتَّبِعُوا طَلَبَ وعْدِ اللهِ فَوَقَعُوا في وعِيدِهِ، وجاءَ مِن ذَلِكَ كَأنَّ إبْلِيسَ أخْلَفَهم.
والسُلْطانُ: الحُجَّةُ البَيِّنَةُ، وقَوْلُهُ: ﴿إلا أنْ دَعَوْتُكُمْ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، و"أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى مَعْنى: إلّا أنَّ النائِبَ عَنِ السُلْطانِ (p-٢٤٠)أنْ دَعْوَتُكُمْ، فَيَكُونُ هَذا في المَعْنى كَقَوْلِ الشاعِرِ:
.....................
؎ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعُ
ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ أيْ: رَأيْتُمْ ما دَعَوْتُكم إلَيْهِ بِبَصِيرَتِكُمْ، واعْتَقَدْتُمُوهُ الرَأْيَ، وأتى نَظَرُكم عَلَيْهِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وذَكَرَ بَعْضُ الناسِ أنَّ هَذا المَكانَ يَبْطُلُ مِنهُ التَقْلِيدُ، وفي هَذِهِ المَقالَةِ ضَعْفٌ عَلى احْتِمالِها، والتَقْلِيدُ وإنَّ كانَ باطِلًا فَفَسادُهُ مِن غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالسُلْطانِ في هَذِهِ الآيَةِ الغَلَبَةَ والقُدْرَةَ والمُلْكَ، أيْ: ما اضْطَرَرْتُكم ولا خَوَّفْتُكم بِقُوَّةٍ مِنِّي، بَلْ عَرَضْتُ عَلَيْكم شَيْئًا فَأتى رَأْيُكم عَلَيْهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿فَلا تَلُومُونِي﴾ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ: إذْ لا ذَنْبَ لِي، ﴿وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ﴾ في سُوءِ نَظَرِكم وقِلَّةِ تَثَبُّتِكُمْ، فَإنَّكم إنَّما أتَيْتُمُ اتِّباعِي عن بَصِيرَةٍ مِنكم وتَكَسُّبٍ. و"المُصْرِخُ": المُغِيثُ، والصارِخُ: المُسْتَغِيثُ. ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ كُنّا إذا ما أتانا صارِخٌ فَزِعٌ ∗∗∗ ∗∗∗ كانَ الصُراخُ لَهُ قَطْعُ الظَنابِيبِ
فَيُقالُ: "صَرَخَ الرَجُلُ وأصْرَخَ غَيْرَهُ"، وأمّا "الصَرِيخُ" فَهو مَصْدَرٌ بِمَنزِلَةِ البَرِيحِ، (p-٢٤١)وَيُوصَفُ بِهِ كَما يُقالُ: "رَجُلٌ عَدْلٌ" ونَحْوِهِ.
وقَرَأ حَمْزَةُ، والأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ: "بِمُصْرِخِيِّ" بِكَسْرِ الياءِ تَشْبِيهًا بِياءِ الإضْمارِ في قَوْلِهِ: بِمُصْرِخِيِّهِ، ورَّدَ الزَجّاجُ هَذِهِ القِراءَةَ وقالَ: هي رَدِيئَةٌ مَرْذُولَةٌ، وقالَ فِيها القاسِمُ بْنُ مَعْنٍ: إنَّها صَوابٌ، ووَجَّهَها أبُو عَلِيٍّ، وحَكى أبُو حاتِمٍ أنَّ أبا عَمْرٍو حَسَّنَها، وأنْكَرَ أبُو حاتِمٍ عَلى أبِي عَمْرٍو.
وقَوْلُهُ: ﴿بِما أشْرَكْتُمُونِ﴾ أيْ: مَعَ اللهِ تَعالى في الطاعَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أنْ يُفْرَدَ اللهُ بِها، فَـ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، وكَأنَّهُ يَقُولُ: إنِّي الآنَ كافِرٌ بِإشْراكِكم إيّايَ مَعَ اللهِ قَبْلَ هَذا الوَقْتِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَهَذا تَبِرٍّ مِنهُ، وقَدْ قالَ اللهُ تَعالى: ﴿وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطر: ١٤]، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اللَفْظُ إقْرارًا عَلى نَفْسِهِ بِكُفْرِهِ الأقْدَمِ، فَتَكُونُ "ما" بِمَعْنى الَّذِي، يُرِيدُ "اللهَ" (p-٢٤٢)تَعالى، أيْ: خَطِيئَتِي قَبْلَ خَطِيئَتِكم فَلا إصْراخَ عِنْدِي، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَأُدْخِلَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "وَأُدْخِلُ" عَلى فِعْلِ المُتَكَلِّمِ، أيْ: يَقُولُها اللهُ تَعالى، وقَوْلُهُ: ﴿مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ أيْ: مِن تَحْتِ ما عَلا مِنها كالغُرَفِ والمَبانِي والأشْجارِ وغَيْرِهِ، و"الخُلُودُ" في هَذِهِ الآيَةِ عَلى بابِهِ في الدَوامِ، و"الإذْنُ" هُنا عِبارَةٌ عَنِ القَضاءِ والإمْضاءِ. وقَوْلُهُ: "تَحِيَّتُهُمْ" مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى الضَمِيرِ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ لِلْمَفْعُولِ، أيْ تُحَيِّيهِمُ المَلائِكَةُ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ لِلْفاعِلِ، أيْ: يُحَيِّي بَعْضُهم بَعْضًا، و"تَحِيَّتُهُمْ" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، و"سَلامٌ" ابْتِداءٌ ثانٍ وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَلَيْكُمْ، والجُمْلَةُ خَبَرُ الأوَّلِ، والجَمِيعُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَمِيرِ في "خالِدِينَ"، أو يَكُونُ صِفَةً لِـ "جَنّاتٍ".
{"ayahs_start":22,"ayahs":["وَقَالَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَمَّا قُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ فَلَا تَلُومُونِی وَلُومُوۤا۟ أَنفُسَكُمۖ مَّاۤ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَاۤ أَنتُم بِمُصۡرِخِیَّ إِنِّی كَفَرۡتُ بِمَاۤ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","وَأُدۡخِلَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِیَّتُهُمۡ فِیهَا سَلَـٰمٌ"],"ayah":"وَأُدۡخِلَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِیَّتُهُمۡ فِیهَا سَلَـٰمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق