الباحث القرآني
قال الله تعالى: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ إنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُمْ مِن دِيارِكُمْ وظاهَرُوا عَلى إخْراجِكُمْ أنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَن يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: ٨ ـ ٩].
جعَلَ اللهُ الكفارَ على نوعَيْنِ: مُحارِبِينَ ومُسالِمِينَ، فلم يَنْهَ اللهُ عن صِلةِ المُسالِمِينَ والإحسانِ إليهم، وأنّ هذا لا يَقتضي مُخالَفةَ أمرِ اللهِ بالبراءةِ مِن المشرِكِينَ، وقد ثبَتَ في «المسنَدِ»، و«الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قالتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إذْ عاهَدُوا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وهِيَ راغِبَةٌ، أفَأَصِلُها؟ قالَ: (نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ) [[أخرجه أحمد (٦ /٣٤٧)، والبخاري (٢٦٢٠)، ومسلم (١٠٠٣).]].
وهذه الآيةُ في كلِّ مشرِكٍ غيرِ مُحارِبٍ، والسلفُ إنّما يَختلِفونَ في سببِ نزولِها والمقصودِ فيها، فقد صحَّ عن مجاهدٍ، أنّ المقصودينَ هم الذين آمَنوا بمَكَّةَ ولم يُهاجِروا ولم يُقاتِلوا[[«تفسير الطبري» (٢٢ /٥٧٢).]].
وقال غيرُهُ: إنّها في غيرِ مُشرِكِي مكةَ ممَّن لم يُعادِ مِن العربِ، وهي في كلِّ مشرِكٍ مسالِمٍ سواءٌ.
وقال ابنُ عبّاسٍ بنَسْخِ هذه الآيةِ بسورةِ براءةَ[[«تفسير ابن المنذر» (٢ /٨٢٢ ـ ٨٢٣).]]، قال تعالى: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: ١]، ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥]، وبالنَّسْخِ قال عِكْرِمةُ والحسنُ وقتادةُ وابنُ زَيْدٍ وغيرُهم[[«تفسير الطبري» (٧ /٢٩٨ ـ ٣٠٠) و(٢٢ /٥٧٣).]].
وثبَتَ النَّسْخُ في حالِ النبيِّ ﷺ وأصحابِهِ، لمّا قَوِيَ أمرُهم وكَمُلَ إتيانُ مَن أراد الحقَّ مِن المشرِكِينَ، فآمَنوا ولَحِقوا بالمؤمِنِينَ، ثمَّ أمَرَ اللهُ بقتالِ مَن تبقّى، والحكمُ باقٍ يُعمَلُ به لمَن كانتْ حالُهُ كحالِهم عندَ نزولِ النصِّ الأولِ، ويُؤخَذُ بالثاني الناسخِ إنْ كانتْ حالُهم كحالِ المُسلِمِينَ حينَها، وذلك أنّ الصحابةَ ما زالوا يَعمَلونَ بالحُكْمَيْنِ جميعًا لا يَختلِفونَ في جوازِ البِرِّ بالكافِرِ المُسالِمِ وتأليفِه.
وقد ترجَمَ البخاريُّ في كتابِه الصحيحِ على هذه الآيةِ: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ﴾، وذكَرَ فيه أنّ عمرَ بنَ الخطّابِ أرسَلَ بهديَّةٍ إلى أخيهِ بمَكَّةَ قبلَ أنْ يُسلِمَ، كما في البخاريِّ، عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، قال: رَأى عُمَرُ حُلَّةً عَلى رَجُلٍ تُباعُ، فَقالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ابْتَعْ هَذِهِ الحُلَّةَ تَلْبَسْها يَوْمَ الجُمُعَةِ وإذا جاءَكَ الوَفْدُ، فَقالَ: (إنَّما يَلْبَسُ هَذا مَن لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ)، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنها بِحُلَلٍ، فَأَرْسَلَ إلى عُمَرَ مِنها بِحُلَّةٍ، فَقالَ عُمَرُ: كَيْفَ ألْبَسُها وقَدْ قُلْتَ فِيها ما قُلْتَ؟ قالَ: (إنِّي لَمْ أكْسُكَها لِتَلْبَسَها، تَبِيعُها، أوْ تَكْسُوها)، فَأَرْسَلَ بِها عُمَرُ إلى أخٍ لَهُ مِن أهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ[[أخرجه البخاري (٢٦١٩).]].
الإحسانُ إلى الكافرِ بالهديَّةِ وقَبولُ شفاعتِه:
والمشرِكونَ في بابِ الإحسانِ إليهم، والهَدِيَّةِ لهم، والنفقةِ عليهم، على نوعَيْنِ:
النوعُ الأول: مشرِكونَ مُحارِبونَ، فالأصلُ: عدمُ جوازِ الإحسانِ إليهم، والإغلاظُ عليهم، والشِّدَّةُ معهم، وعدمُ اللِّينِ في ذلك، لعمومِ قولِهِ تعالى: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣، والتحريم: ٩]، وقولِه تعالى: ﴿ولْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: ١٢٣].
ومَن كان مِن الكفارِ شَرُّهُ لا يَندفِعُ لقوَّتِه وسُوئِه، وعجَز المُسلِمونَ عنه إلاَّ بتأليفِه بالمالِ، فهذا يجوزُ في المُحارِبِ على الاستثناءِ لا على الأصلِ، كما كان النبيُّ ﷺ عزَمَ على إعطاءِ غطَفانَ بعضَ ثمرِ المدينةِ كفايةً لشرِّها، وكما كان يفعلُهُ مع المُنافِقينَ في المدينةِ مع ظهورِ بَغْيِهم وشَرِّهم.
النوعُ الثاني: مشرِكونَ مُسالِمونَ كأهلِ الذِّمَّةِ والعهدِ، فالأصلُ جوازُ الإحسانِ إليهم، وقد يُستحَبُّ ويُؤجَرُ عليه فاعلُهُ إنْ قصَدَ خيرًا مِن تأليفِ قلبِهِ وتقريبِهِ مِن الإسلامِ، وقد كان جماعةٌ مِن الصحابةِ يُهْدُونَ بعضَ الكافِرِينَ مِن جِيرانٍ ونحوِهم، كابنِ عبّاسٍ، وعبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، وعائشةَ، وغيرِهم.
وصحَّ عن عائشةَ رضي الله عنها: أنّ امرأةً يهوديَّةً سأَلَتْها فأَعْطَتْها[[أخرجه أحمد (٦ /٢٣٨)، والبخاري (١٠٤٩)، ومسلم (٩٠٣).]].
وكان النبيُّ ﷺ يَقبَلُ الهديَّةَ منهم ويُجازِيهم عليها، وكان يَقبَلُ مِن بعضِ المُنافِقينَ، ككساءِ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ للعبّاسِ، ومُجازاةِ النبيِّ ﷺ له بعدَ ذلك، وقد ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»، عن أبي حُمَيْدٍ الساعديِّ، قال: «أهْدى مَلِكُ أيْلَةَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَغْلَةً بَيْضاءَ، وكَساهُ بُرْدًا، وكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ»[[أخرجه البخاري (١٤٨١)، ومسلم (١٣٩٢).]]، يعني: بَلَدَهم.
وقد أهْدى ملكُ كِسْرى وأُكَيْدِرُ دُومَةِ الجَنْدَلِ للنبيِّ ﷺ، فقَبِلَ منهما.
وأمّا الإهداءُ للكافِرِينَ المُسالِمينَ وقَبُولُ ذلك منهم في يومِ عيدِهم الدنيويِّ، فجائزٌ، وأمّا أعيادُهم التي يتقرَّبونَ بها لغيرِ اللهِ، فلا يجوزُ قَبُولُ ما يتقرَّبونَ به لآلهتِهم مِن مذبوحٍ وغيرِه، وما لم يكنْ قُرْبةً فالأظهَرُ جوازُه.
وقد كان النبيُّ ﷺ يُبيحُ قَبُولَ شفاعةِ الكافرِ المُحارِبِ، كما في «الصحيحِ»، أنّه قال في أُسارى بَدْرٍ: (لَوْ كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاءِ النَّتْنى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ)[[أخرجه البخاري (٣١٣٩)، من حديث جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه.]].
قال الله تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أعْلَمُ بِإيمانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وآتُوهُمْ ما أنْفَقُوا ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ واسْأَلُوا ما أنْفَقْتُمْ ولْيَسْأَلُوا ما أنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وإنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِن أزْواجِكُمْ إلى الكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أنْفَقُوا واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [الممتحنة: ١٠ ـ ١١].
لمّا صالَحَ النبيُّ ﷺ قريشًا في الحُدَيِبيَةِ، وكان مِن شروطِ صُلْحِهِ: أنّ مَن أسلَمَ مِن قريشٍ، رَدَّهُ إليهم، ومَن ارتَدَّ مِن المُسلِمِينَ أنّهم لا يَرُدُّونَه، استثنى اللهُ بعدَ ذلك على نبيِّه النِّساءَ المُهاجِراتِ أنّه لا يَحِلُّ له رَجْعُهُنَّ إليهم.
وقد أمَر اللهُ نبيَّه أنْ يَختبِرَ النِّساءَ وصِدْقَهُنَّ في الهجرةِ أنّهنَّ لم يُهاجِرْنَ لدُنْيا وطمعٍ، وتحوُّلًا مِن بلدٍ إلى بلدٍ، ولا بُغْضًا لأزواجِهِنَّ وفرارًا منهم، فكانوا يَستحلفونَهُنَّ على ذلك.
وجعَلَ بعضُ السلفِ الآيةَ مُخصِّصةً للسُّنَّةِ أو ناسخةً لها.
قولُه تعالى: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾: ذكَر فيها سببَ عَدَمِ رَجْعِهِنَّ: أنّ اللهَ لا يُحِلُّهنَّ لأزواجِهنَّ بشِركِهم، وقد تقدَّم الكلامُ على تزويجِ المُسلِمةِ المُشركَ عندَ قولِه تعالى: ﴿ولا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا﴾ [البقرة: ٢٢١].
إسلامُ الزوجَيْنِ أو أحدِهما:
إذا أسلَمَ الزوجانِ جميعًا في وقتٍ واحدٍ، فيَمْضي نكاحُهما السابقُ بلا خلافٍ، وإنْ تقدَّم أحدُهما الآخَرَ، لكنْ كان إسلامُهما في زمنِ العِدَّةِ، فيَمضي زواجُهما بعقدِهما السابقِ بلا شهودٍ ولا صداقٍ عندَ أكثرِ العلماءِ، وهو قولُ الشافعيِّ وأحمدَ والأوزاعيِّ، وذلك لِما رَوى مالكٌ في «الموطَّأِ»: أنّ زوجةَ صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ أسلَمَتْ قبلَ زوجِها بنحوِ شهرٍ، ثمَّ أسلَمَ زَوْجُها، فلم يُفرِّقِ النبيُّ ﷺ بينَهما[[أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ /٥٤٣).]].
وقد أسلَمَتْ أمُّ حَكِيمِ بنتُ الحارثِ بنِ هشامٍ، ولم يُسلِمْ زوجُها عِكْرِمةُ بنُ أبي جهلٍ، ثمَّ أسلَمَ بعدُ، فرَدَّهما النبيُّ ﷺ، ولم يُذكَرْ عقدٌ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ /٥٤٥).]].
ولم يكنِ النبيُّ ﷺ ولا أصحابُهُ يَطْلُبونَ ممَّن يدخُلُ الإسلامَ مِن الأزواجِ تجديدَ عَقْدِهما مع إسلامِهما، وإنْ أسلَمَ أحدُهما، وبَقِيَ الآخَرُ مشرِكًا، فهما أجنبيّانِ عن بعضِهما، لا يَحِلُّ استمتاعُ بعضِهما ببعضٍ، إلاَّ إنْ أسلَمَ الزوجُ وبقِيَتِ الزوجةُ كتابيَّةً أو نصرانيَّةً، فيَبقى الزواجُ صحيحًا، لصحةِ زواجِ المسلمِ مِن الكتابيَّةِ خاصَّةً.
وقد اختلَفَ العلماءُ في اشتراطِ العَقْدِ الجديدِ لعودةِ أحدِ الزوجَيْنِ إلى الآخَرِ بعدَ انقضاءِ العِدَّةِ على تأخُّرِ إسلامٍ، على أقوالٍ عِدَّةٍ، أشهرُها:
الأولُ ـ وهو قولُ أكثرِ الفقهاءِ ـ: أنّها إنِ انتهَتْ، خرَجَتْ مِن عِصْمَتِه، ويُشترَطُ أن يكونَ ذلك في زمنِ عِدَّتِها، فإنّ للمُسلِمةِ مِن الزوجِ الكافرِ عِدَّةً كعِدَّةِ المطلَّقةِ، فالمطلَّقةُ تَبْدَأُ عِدَّتُها مِن طلاقِ زوجِها، والزوجةُ تَبدأُ عِدَّتُها بإسلامِها.
الثاني: ذهَبَ بعضُ الأئمَّةِ: إلى أنّ إسلامَ أحدِ الزوجَيْنِ وتأخُّرَ الآخَرِ لا يَلزَمُ معه عودتُهما بعقدٍ جديدٍ مهما طالتِ المُدَّةُ، ما لم تتزوَّجِ المرأةُ بعدَ زوجِها ثمَّ تُطلَّقْ، وقد رَجَعَ النبيُّ ﷺ ابنتَهُ زينبَ إلى زوجِها أبي العاصِ بنِ الربيعِ بنكاحِها الأولِ[[أخرجه أحمد (١ /٢١٧)، وأبو داود (٢٢٤٠)، والترمذي (١١٤٣)، وابن ماجه (٢٠٠٩).]]، وبينَ إسلامِهما سِنُونَ، فقد تَبِعَها بإسلامِهِ سنةَ ثمانٍ.
واحتَجَّ به أحمدُ، قيل له: أليس يُروى أنّه ردَّها بنكاحٍ مستأنَفٍ؟ قال: ليس له أصلٌ[[«المغني» لابن قدامة (١٠/١٠).]].
ويكثُرُ في الصدرِ الأولِ إسلامُ أحدِ الزوجَيْنِ وتأخُّرُ الآخَرِ، ولم يثبُتْ أنّ النبيَّ ﷺ أمَرَ بعقدٍ جديدٍ.
وأمّا ما رواهُ عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه مرفوعًا: (أنّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ ابْنَتَهُ عَلى أبِي العاصِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ ونِكاحٍ جَدِيدٍ)، فقد أعَلَّه أحمدُ والبخاريُّ والترمذيُّ[[«مسند أحمد» (٢ /٢٠٧)، و«سنن الترمذي» (١١٤٢)، و«السنن الكبرى» للبيهقي (٧ /١٨٨).]].
وقد صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ: أنّ النكاحَ باقٍ ما لم تتزوَّجْ بعدَ انقضاءِ عِدَّتِها، كما روى البخاريُّ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: كانَ المُشْرِكُونَ عَلى مَنزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ والمُؤْمِنِينَ: كانُوا مُشْرِكِي أهْلِ حَرْبٍ، يُقاتِلُهُمْ ويُقاتِلُونَهُ، ومُشْرِكِي أهْلِ عَهْدٍ، لا يُقاتِلُهُمْ ولا يُقاتِلُونَهُ، وكانَ إذا هاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِن أهْلِ الحَرْبِ، لَمْ تُخْطَبْ حَتّى تَحِيضَ وتَطْهُرَ، فَإذا طَهُرَتْ، حَلَّ لَها النِّكاحُ، فَإنْ هاجَرَ زَوْجُها ـ يعني: أسلَمَ وهاجَرَ ـ قَبْلَ أنْ تَنْكِحَ، رُدَّتْ إلَيْهِ[[أخرجه البخاري (٥٢٨٦).]].
وهذا قولُ عمرَ بنِ الخطّابِ والنَّخَعِيِّ وجماعةٍ، وقد روى محمدُ بنُ سِيرينَ، عن عبدِ اللهِ بنِ يَزيدَ الخَطْمِيِّ: أنّ نصرانيًّا أسلَمَتِ امرأتُهُ، فخيَّرها عمرُ بنُ الخطابِ: إنْ شاءتْ فارقَتْهُ، وإنْ شاءَتْ أقامَتْ عليه[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٠٠٨٣) و(١٢٦٦٠)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٨٣٠٩).]].
ويَذهَبُ بعضُ العلماءِ: إلى أنّ إسلامَ أحدِ الزوجَيْنِ وتأخُّرَ الآخَرِ يَفسَخُ النكاحَ ولو كان تأخُّرُه يسيرًا، وهذا لم يَقُلْ به ـ فيما أعلَمُ ـ أحدٌ مِن الصحابةِ، ولا أحدٌ مِن متقدِّمي فقهاءِ الحجازِ، وهم العمدةُ في الفتوى في مِثلِ هذه الأبوابِ.
ويَفهَمُ بعضُ المعاصرينَ ما يُروى في ذلك عن عمرَ وعليٍّ في الزوجةِ التي أسلَمَتْ عن زوجٍ كافرٍ: أنّ زَوْجَها أمْلَكُ ببُضْعِها[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٨٣٠٧) عن عليٍّ.]]، وأنّه أحَقُّ بها ما لم تخرُجْ مِن مِصْرِها[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٠٠٨٤) و(١٢٦٦١) عن عليٍّ.]] ـ وحملوا ذلك على أنّه يَحِلُّ له وطؤُها وهو كافرٌ.
وهذا غلطٌ وتحميلٌ لقولِهما ما لا يَحتمِلُه، ولا يَحِلُّ وطءُ المُشرِكِ للمُسلِمةِ، ومرادُهما: أنّه أولى بها مِن غيرِهِ إنْ أرادَها بعدَ إسلامِه، ويَبقى على عقدِه الأولِ ما لم تتزوَّجْ بعدَ عِدَّتِها، ولم يكنِ الصحابةُ يبحثونَ مسألةَ وطءِ الكافرِ لمسلِمةٍ، ولكنْ لمّا بَعُدَتِ الأفهامُ عن مقاصدِهم ورَقَّ الدِّينُ، حَمَلَ هؤلاءِ كثيرًا مِن محتمِلاتِ ألفاظِهم على غيرِ مُرادِهم.
وقولُه تعالى: ﴿وآتُوهُمْ ما أنْفَقُوا﴾، يعني: أزواجَهُنَّ المشرِكينَ يُرسِلُ المُسلِمونَ إليهم مُهُورَهُمُ التي سلَّموها لأزواجِهم، وهذا مِن عدلِ الإسلامِ في الوفاءِ بما عليه الصلحُ، فلمّا استثنى اللهُ النساءَ مِن التسليمِ وهُنَّ في شروطِه، لم يُسقِطْ حقَّهم في المالِ بذلك.
وقولُه: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، فيه: جوازُ نكاحِ المُهاجِراتِ اللاتي أزواجُهُنَّ مشركونَ بعدَ إعطائِهنَّ مهورَهُنَّ، وقد تقدَّم في صدرِ سورةِ النِّساءِ الكلامُ على الصَّداقِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [٤].
وقولُه تعالى: ﴿ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ﴾، فيه: تحريمُ نكاحِ المسلِمِ للمُشرِكةِ، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ [٢٢١]، وتقدَّم الكلامُ على حِلِّ النكاحِ مِن الكتابيَّةِ خاصَّةً، عندَ قولِهِ تعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥].
وقولُه تعالى: ﴿واسْأَلُوا ما أنْفَقْتُمْ ولْيَسْأَلُوا ما أنْفَقُوا﴾ فيه المُماثَلةُ، فكما أنّ المُهورَ تُدفَعُ للمُشرِكِينَ، فكذلك يُدفَعُ للمؤمِنِينَ مهورُ نسائِهِمْ عندَ لَحاقِهِنَّ بأهلِهِنَّ مِن المشرِكِين.
وفي قولِه تعالى: ﴿وإنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِن أزْواجِكُمْ إلى الكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أنْفَقُوا واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ جوازُ إعطاءِ المؤمنِ الذي لَحِقَتْ زوجتُهُ بأهلِها المشرِكِينَ مِن مهورِ أزواجِ المشرِكِينَ اللاتي هاجَرْنَ، فبدلًا مِن إرسالِ المَهْرِ للمُشرِكِ، يُعطى المسلِمُ الذي رجَعَتْ زوجتُهُ مِن مهورِهم.
وقال بعضُهم: إنّ العقابَ في قولِه: ﴿فَعاقَبْتُمْ﴾، يعني: غَنِمْتُمْ مِن المشرِكِينَ مالًا، فأصبتُمْ منهم عُقْبى، فيُعطى المسلمُ مهرَ زوجتِهِ الخارجةِ ممّا أصابُوهُ منهم، رُوِيَ هذا عن ابنِ عبّاسٍ ومسروقٍ والزُّهْريِّ وجماعةٍ[[«تفسير الطبري» (٢٢/٥٩١ ـ ٥٩٣)، و«تفسير ابن كثير» (٨/٩٥).]].
{"ayahs_start":8,"ayahs":["لَّا یَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِینَ لَمۡ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَلَمۡ یُخۡرِجُوكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ","إِنَّمَا یَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِینَ قَـٰتَلُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ وَظَـٰهَرُوا۟ عَلَىٰۤ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن یَتَوَلَّهُمۡ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"],"ayah":"لَّا یَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِینَ لَمۡ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَلَمۡ یُخۡرِجُوكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق