الباحث القرآني

(p-٤٠)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ لُقْمانَ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ غَيْرُ آيَتَيْنِ، قالَ قَتادَةُ: أوَّلُهُما ﴿وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ [لقمان: ٢٧]. قوله عزّ وجلّ: ﴿الم﴾ ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ ﴿هُدًى ورَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَلاةَ ويُؤْتُونَ الزَكاةَ وهم بِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ ﴿وَمِنَ الناسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَها هُزُوًا أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في الحُرُوفِ الَّتِي في أوائِلِ السُوَرِ، وفي تَرْتِيبِ "تِلْكَ" مَعَ كُلِّ قَوْلٍ مِنها. و"الحَكِيمُ" يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مِنَ الحِكْمَةِ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مِنَ الحُكْمِ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: ﴿ "هُدًى ورَحْمَةً"﴾ بِالنَصْبِ عَلى الحالِ مِنَ المُبْهَمِ، ولا يَصِحُّ أنْ تَكُونَ مِنَ "الكِتابِ"؛ لِأنَّهُ مُضافٌ إلَيْهِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِالرَفْعِ عَلى تَقْدِيرِ: هو هُدًى، وخَصَّصَهُ لِلْمُحْسِنِينَ مِن حَيْثُ لَهم نَفْعُهُ، وهم نَظَرُوهُ بِعَيْنِ الحَقِيقَةِ، وإلّا فَهو هُدًى في نَفْسِهِ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "هُدًى وبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ". ثُمَّ وصَفَ تَعالى المُحْسِنِينَ بِأنَّهُمُ الَّذِينَ عِنْدَهُمُ اليَقِينُ بِالبَعْثِ وبِكُلِّ ما جاءَ بِهِ الرَسُولُ ﷺ، وعِنْدَهم إقامَةُ الصَلاةِ وإيتاءُ الزَكاةِ، ومِن صِفَتِهِمْ ما «قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ سَألَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ عَنِ الإحْسانِ، قالَ: "أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ"» الحَدِيثُ. (p-٤١)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنَ الناسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾، رُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ في قِرْشِيٍّ اشْتَرى جارِيَةً مُغَنِّيَةً تُغَنِّي بِهِجاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وسَبِّهِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ، ورُوِيَ «عن أبِي أُمُامَةَ الباهِلِيِّ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: "شِراءُ المُغَنِّياتِ وبَيْعُهُنَّ حَرامٌ"، وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ،» وقالَ: "فِي هَذا المَعْنى أُنْزِلَتْ عَلَيَّ هَذِهِ الآيَةُ"، وبِهَذا فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، ومُجاهِدٌ، وقالَ الحَسَنُ: لَهْوُ الحَدِيثِ: المَعازِفُ والغِناءُ. وقالَ بَعْضُ الناسِ: نَزَلَتْ في النَضْرِ بْنِ الحارِثِ لِأنَّهُ اشْتَرى كُتُبَ رُسْتُمَ واسْفِنْدِيارَ، وكانَ يَخْلُفُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَيُحَدِّثُهم بِتِلْكَ الأباطِيلِ، ويَقُولُ: أنا أحْسَنُ حَدِيثًا مِن مُحَمَّدٍ، وقالَ قَتادَةَ: الشِراءُ في هَذِهِ الآيَةِ مُسْتَعارٌ، وإنَّما نَزَلَتْ في أحادِيثِ قُرَيْشٍ، وتَلَهِّيهِمْ بِأمْرِ الإسْلامِ، وخَوْضِهِمْ في الأباطِيلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَكَأنَّ تَرْكَ ما يَجِبُ فِعْلُهُ، وامْتِثالَ هَذِهِ المُنْكَراتِ شِراءٌ لَها، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَلالَةَ بِالهُدى﴾ [البقرة: ١٦]. وقَدْ قالَ مُطَرِّفٌ: شِراءُ لَهْوِ الحَدِيثِ (p-٤٢)اسْتِحْبابُهُ، قالَ قَتادَةُ: ولَعَلَّهُ لا يُنْفِقُ فِيهِ مالًا، ولَكِنَّ سَماعَهُ هو شِراؤُهُ، وقالَ الضَحّاكُ: لَهْوُ الحَدِيثِ الشِرْكُ، وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: لَهْوُ الحَدِيثِ الطَبْلُ، وهَذا ضَرْبٌ مِنَ الغِناءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والَّذِي يَتَرَجَّحُ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في لَهْوِ حَدِيثٍ مُضافٍ إلى كُفْرٍ، فَلِذَلِكَ اشْتَدَّتْ ألْفاظُ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيُضِلَّ عن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَها هُزُوًا﴾ والتَوَعُّدِ بِالعَذابِ المُهِينِ. وأمّا لَفْظَةُ الشِراءِ فَمُحْتَمِلَةٌ لِلْحَقِيقَةِ والمَجازِ عَلى ما بَيَّنّا، و"لَهْوُ الحَدِيثِ" كُلُّ ما يُلْهِي مِن غِناءٍ وخَنا ونَحْوِهِ، والآيَةُ باقِيَةُ المَعْنى في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولَكِنْ لَيْسَ لِيَضِلُّوا عن سَبِيلِ اللهِ بِكُفْرٍ، ولا لِيَتَّخِذُوا الآياتِ هَزُّوًا، ولا عَلَيْهِمْ هَذا الوَعِيدُ، بَلْ لِيُعَطِّلَ عِبادَةً، ويُقَطَعُهم زَمَنًا بِمَكْرُوهٍ، ولِكَوْنِهِمْ مِن جُمْلَةِ العُصاةِ، والنُفُوسُ الناقِصَةُ تَرُومُ تَتْمِيمَ ذَلِكَ النَقْصِ بِالأحادِيثِ، وقَدْ جَعَلُوا الحَدِيثَ مِنَ القِرى، وقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: أتَمَلُّ الحَدِيثَ؟ فَقالَ: إنَّما يُمَلُّ العَتِيقُ القَدِيمُ المُعادُ؛ لِأنَّ الحَدِيثَ مِنَ الأحادِيثِ فِيهِ الطَرافَةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ المَلَلِ. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ، والحُسْنُ: "لِيُضِلَّ" بِضَمِّ الياءِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو بِفَتْحِها، وفي حَرْفِ أُبَيٍّ: "لِيُضِلَّ الناسَ عن سَبِيلِ اللهِ". وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفَصٌ عن عاصِمٍ: "وَيَتَّخِذَها" بِالنَصْبِ عَطْفًا عَلى "لِيُضِلَّ"، وقَرَأ الباقُونَ: ﴿ "وَيَتَّخِذَها"﴾ بِالرَفْعِ عَطْفًا عَلى ﴿ "يَشْتَرِي".﴾ والضَمِيرُ في "وَيَتَّخِذَها" يُحْتَمَلُ أنْ يُعُودَ عَلى "الكِتابِ الحَكِيمِ" المَذْكُورِ أوَّلًا، ويُحْتَمَلَ أنْ يَعُودَ عَلى "السَبِيلِ"، ويُحْتَمَلَ أنْ يَعُودَ عَلى "الأحادِيثِ"؛ لِأنَّ "الحَدِيثَ" اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنى الأحادِيثِ، وكَذَلِكَ "سَبِيلِ اللهِ" اسْمُ جِنْسٍ، ولِكُلِّ وجْهٍ مِنَ الحَدِيثِ وجْهٌ يَلِيقُ بِهِ مِنَ السَبِيلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب