الباحث القرآني
فَأخْبر سُبْحانَهُ أن محلهم غير قابل لنعمته ومَعَ عدم القبُول ففيهم مانع آخر يمْنَع وصولها إلَيْهِم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها.
وَمِمّا يَنْبَغِي أن يعلم أن أسباب الخذلان من بَقاء النَّفس على ما خلقت عَلَيْهِ في الأصْل وإهمالها وتخليتها فأسباب الخذلان مِنها وفيها وأسْباب التَّوْفِيق من جعل الله سُبْحانَهُ لَها قابِلَة للنعمة فأسباب التَّوْفِيق مِنهُ ومن فَضله وهو الخالِق لهَذِهِ وهَذِه كَما خلق أجزاء الأرْض هَذِه قابِلَة للنبات وهَذِه غير قابِلَة لَهُ وخلق الشّجر هَذِه تقبل الثَّمَرَة وهَذِه لا تقبلها وخلق النحلة قابِلَة لِأن يخرج من بطونها شراب مُخْتَلف ألوانه والزنبور غير قابل لذَلِك وخلق الأرْواح الطّيبَة قابِلَة لذكره وشكره وحجته وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده وخلق الأرْواح الخبيثة غير قابِلَة لذَلِك بل لضده وهو الحَكِيم العَلِيم.
* (فائدة)
أخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء، وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظفر به، وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك، فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية، والتي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلاء، فلا هي قابلة للماء ولا للنبات، فالماء في نفسه رحمة وحياة، ولكن ليس فيها قبول له.
ثم أكد الله هذا المعنى في حقهم بقوله: ﴿وَلَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣].
فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى، وهي الكبر والإعراض، وفساد القصد، فلو فهموا لم ينقادوا، ولم يتبعوا الحق. ولم يعملوا به، فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة حجة، لا هدى توفيق وإرشاد، فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة.
فإن قيل فقد قال سبحانه: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ﴾ وهذا يقتضي أنه لا قابلية فيهم ولا خير عندهم ألبتة ولو كان عندهم لخرجوا به من النار مع الموحدين فإنه سبحانه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من خير فعلم أن هؤلاء ليس معهم هذا القدر اليسير من الخير؟
قيل الخير في هذا الحديث هو الإيمان بالله ورسله كما في اللفظ الآخر أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان وهو تصديق رسله والانقياد لهم بالقلب والجوارح وأما الخير في الآية فالمراد به القبول والزكاة ومعرفة قدر النعمة وشكر المنعم عليها فلو علم الله سبحانه ذلك فيهم لأسمعهم إسماعا ينتفعون به فإنهم قد سمعوا سماعا تقوم به عليهم الحجة فتلك القابلية ذهب أثرها وتعطلت بالكفر والجحود وعادت كالشيء المعدوم الذي لا ينتفع به وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة عليهم ولم يظهر أثرها في انتفاعهم بما عملوه وتيقنوه.
* (فصل)
النوع الحادي والعشرون إخباره سبحانه عن تركه بعض مقدوره لما يستلزمه من المفسدة وأن المصلحة في تركه ولو كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم يكن ذلك علة للحكم كقوله تعالى: ﴿إنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهم ولَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ فعلل سبحانه عدم إسماعهم السماع الذي ينتفعون بهو وهو سماع الفهم بأنهم لا خير فيهم يحسن معه أن يسمعهم وبأن فيهم مانعا آخر يمنع من الانتفاع بالمسموع لو سمعوه وهو الكبر والإعراض فالأول من باب تعليل عدم الحكم بعدم ما يقتضيه والثاني من باب تعليله بوجود مانعه وهذا إنما يصح ممن يأمر وينهى ويفعل للحكم والمصالح وأما من يجرد فعله عن ذلك فإنه لا يضاف عدم الحكم إلا إلى مجرد مسببه فقط ومن هذا تنزيه نفسه عن كثير مما يقدر عليه فلا يفعله لمنافاته لحكمته وحمده كقوله تعالى: ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ﴾ وقوله: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وقوله: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وقوله: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ وقوله: ﴿ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنا وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ﴾ فنزه نفسه عن هذه الأفعال لأنه لا يليق بكماله وينافي حكمته وحمده وعند النفاة أنها ليست مما ينزه الرب عنه لأنها مقدورة له وهو إنما ينزه عما لا يقدر عليه ولكن علمنا أنها لا تقع لعدم مسببه لها لا لقبحها في نفسها.
* [فَصْلٌ المَرْتَبَةُ الثّامِنَةُ مَرْتَبَةُ الإسْماعِ]
قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهم ولَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣]
وَقَدْ قالَ تَعالى ﴿وَما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ ولا الظُّلُماتُ ولا النُّورُ ولا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ وما يَسْتَوِي الأحْياءُ ولا الأمْواتُ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ إنْ أنْتَ إلّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ١٩] وهَذا الإسْماعُ أخَصُّ مِن إسْماعِ الحُجَّةِ والتَّبْلِيغِ، فَإنَّ ذَلِكَ حاصِلٌ لَهُمْ، وبِهِ قامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، لَكِنَّ ذاكَ إسْماعُ الآذانِ، وهَذا إسْماعُ القُلُوبِ، فَإنَّ الكَلامَ لَهُ لَفْظٌ ومَعْنًى، ولَهُ نِسْبَةٌ إلى الأُذُنِ والقَلْبِ وتَعَلُّقٌ بِهِما، فَسَماعُ لَفْظِهِ حَظُّ الأُذُنِ، وسَماعُ حَقِيقَةِ مَعْناهُ ومَقْصُودِهِ حَظُّ القَلْبِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ نَفى عَنِ الكُفّارِ سَماعَ المَقْصُودِ والمُرادِ الَّذِي هو حَظُّ القَلْبِ، وأثْبَتَ لَهم سَماعَ الألْفاظِ الَّذِي هو حَظُّ الأُذُنِ في قَوْلِهِ ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِن رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلّا اسْتَمَعُوهُ وهم يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٢] وهَذا السَّماعُ لا يُفِيدُ السّامِعَ إلّا قِيامَ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، أوْ تُمَكِّنُهُ مِنها، وأمّا مَقْصُودُ السَّماعِ وثَمَرَتُهُ، والمَطْلُوبُ مِنهُ فَلا يَحْصُلُ مَعَ لَهْوِ القَلْبِ وغَفْلَتِهِ وإعْراضِهِ، بَلْ يَخْرُجُ السّامِعُ قائِلًا لِلْحاضِرِ مَعَهُ ﴿ماذا قالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [محمد: ١٦].
والفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ المَرْتَبَةِ ومَرْتَبَةِ الإفْهامِ أنَّ هَذِهِ المَرْتَبَةَ إنَّما تَحْصُلُ بِواسِطَةِ الأُذُنِ، ومَرْتَبَةُ الإفْهامِ أعَمُّ، فَهي أخَصُّ مِن مَرْتَبَةِ الفَهْمِ مِن هَذا الوَجْهِ، ومَرْتَبَةُ الفَهْمِ أخَصُّ مِن وجْهٍ آخَرَ، وهي أنَّها تَتَعَلَّقُ بِالمَعْنى المُرادِ ولَوازِمِهِ ومُتَعَلَّقاتِهِ وإشاراتِهِ، ومَرْتَبَةُ السَّماعِ مَدارُها عَلى إيصالِ المَقْصُودِ بِالخِطابِ إلى القَلْبِ، ويَتَرَتَّبُ عَلى هَذا السَّماعِ سَماعُ القَبُولِ.
فَهُوَ إذَنْ ثَلاثُ مَراتِبَ: سَماعُ الأُذُنِ، وسَماعُ القَلْبِ، وسَماعُ القَبُولِ والإجابَةِ.
{"ayahs_start":22,"ayahs":["۞ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَاۤبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلۡبُكۡمُ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡقِلُونَ","وَلَوۡ عَلِمَ ٱللَّهُ فِیهِمۡ خَیۡرࣰا لَّأَسۡمَعَهُمۡۖ وَلَوۡ أَسۡمَعَهُمۡ لَتَوَلَّوا۟ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ"],"ayah":"۞ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَاۤبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلۡبُكۡمُ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق