الباحث القرآني
* (فصل: في طهارة القلب من أدرانه ونجاساته)
قال الله تعالى: ﴿ياأيُّها المُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأنْذِرْ (٢) ورَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)﴾
وقال تعالى: ﴿أُولئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهم لَهم في الدُّنْيا خِزْىٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٤١].
وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هاهنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق.
قال الواحدي: اختلف المفسرون في معناه، فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "يعني من الإثم، ومما كانت الجاهلية تجيزه" وهذا قول قتادة ومجاهد، قالا: "نفسك فطهرها من الذنب" ونحوه قول الشعبي وإبراهيم والضحاك والزهري. وعلى هذا القول: "الثياب" عبارة عن النفس، والعرب تكنى بالثياب عن النفس ومنه قول الشماخ:
؎رَمَوْها بِأثْوابٍ خِفافٍ، فَلا تَرى ∗∗∗ لَها شَبهًا إلا النَّعامَ المُنَفرا
رموها يعني الركاب بأبدانهم. وقال عنترة:
؎فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الأصَمِّ ثِياَبَهُ ∗∗∗ لَيْسَ الكَرِيمُ عَلى القَنى بِمُحَرَّمِ
يعني نفسه.
وقال في رواية الكلبي: يعني لا تغدر، فتكون غادرا دنس الثياب.
وقال سعيد بن جبير: "كان الرجل إذا كان غادرا قيل: دنس الثياب، وخبيث الثياب"
وقال عكرمة: "لا تلبس ثوبك على معصية، ولا على فُجْرة"
وروى ذلك عن ابن عباس، واحتج بقول الشاعر:
؎وَإنِّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ غادِرٍ ∗∗∗ لَبِسْتُ، ولا مِن خِزْيَةٍ أتَقَنَّعُ
وهذا المعنى أراد من قال في هذه الآية "وعملك فأصلح"
وهو قول أبي رزين ورواية منصور عن مجاهد وأبي رَوْق.
وقال السُّدى: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجرًا: إنه لخبيث الثياب. قال الشاعر:
؎لا هُمَّ إنّ عامِرَ بْنَ جَهْمِ ∗∗∗ أوْ ذَمَ حَجا في ثِيابٍ دُسْمِ
يعني أنه متدنس بالخطايا، وكما وصفوا الغادر الفاجر بدنس الثوب وصفوا الصالح بطهارة الثوب، قال امرؤ القيس:
ثِيابُ بِنى عَوْفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ
يريد أنهم لا يغدرون، بل يفون.
وقال الحسن: "خُلقُك فحسنه"
وهذا قول القرطبي، وعلى هذا: الثياب عبارة عن الخلق؛ لأن خلق الإنسان يشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه.
وروى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية "لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طيب"
والمعنى طهرها من أن تكون مغصوبة، أو من وجه لا يحل اتخاذها منه.
وروي عن سعيد بن جبير: "وقلبك ونيتك فطهر"
وقال أبو العباس: الثياب اللباس. ويقال: القلب، وعلى هذا ينشد:
فَسُلِّي ثِيابِي مِن ثِياَبِكِ تَنْسُلِي
وذهب بعضهم في تفسير هذه الآية إلى ظاهرها، وقال: إنه أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة، وهو قول ابن سيرين، وابن زيد.
وذكر أبو إسحاق: "وثيابك فقصر"
قال: لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة، فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه، وهذا قول طاوس. وقال ابن عرفة "معناه: نساءك طهرهن" وقد يكنى عن النساء بالثياب واللباس.
قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكم هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لباسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧].
ويكنى عنهن بالإزار، ومنه قول الشاعر:
؎ألا أبْلِغْ أبا حَفْصٍ رَسُولًا ∗∗∗ فِدًى لَكَ مِن أخِى ثِقَةٍ: إزارِي
أي أهلي، ومنه قول البراء بن معرور للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة العقبة: "لَنَمْنَعنّكَ مِمّا نَمْنَعُ مِنهُ أُزُرَنا"
أي نساءنا.
قلت: الآية تعم هذا كله، وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظا فإن المأمور به إن كان طهارة القلب، فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك، ولذلك حرم لبس جلود النمور والسباع بنهي النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ذلك في عدة أحاديث صحاح لا معارض لها، لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات، فإن الملابسة الظاهرة تسرى إلى الباطن، ولذلك حرم لبس الحرير والذهب على الذكور لما يكتسب القلب من الهيئة التي تكون لمن ذلك لبسه من النساء وأهل الفخر والخيلاء.
والمقصود: أن طهارة الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها، فإن كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها، فالمقصود لنفسه أولى أن يكون مأمورًا به وإن كان المأمور به طهارة القلب وتزكية النفس، فلا يتم إلا بذلك، فتبين دلالة القرآن على هذا وهذا.
* وقال في (المدارج)
قوله تعالى: ﴿وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)﴾
قال قتادة ومجاهد: نفسك فطهر من الذنب، فكنى عن النفس بالثوب. وهذا قول إبراهيم والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير.
قال ابن عباس: لا تلبسها على معصية ولا قذر، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
؎وإني بحمد الله لا ثوب غادر ∗∗∗ لبست، ولا من غدرة أتقنّع
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء: طاهر الثياب، وتقول للفاجر والغادر: دنس الثياب.
وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم، ولكن البسها وأنت برّ طاهر.
وقال الضحاك: عملك فأصلح. وقال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجرا: إنه لخبيث الثياب.
وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر.
وقال الحسن والقرطبي: وخلقك فحسن. وقال ابن سيرين وابن زيد: أمر بتطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها. لأن المشركين كانوا لا يتطهرون، ولا يطّهرون ثيابهم.
وقال طاوس: وثيابك فقصر. لأن تقصير الثياب طهرة لها.
والقول الأول: أصح الأقوال.
ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها: من جملة التطهير المأمور به، إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق. لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن.
ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها.
* [فَصْلٌ: مَنزِلَةُ الوَرَعِ]
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الوَرَعِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: ٥١]
وَقالَ تَعالى: ﴿وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: ٤]
قالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ: نَفْسَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الذَّنْبِ. فَكَنّى عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ. وهَذا قَوْلُ إبْراهِيمَ، النَّخَعِيِّ والضَّحّاكِ، والشَّعْبِيِّ، والزُّهْرِيِّ، والمُحَقِّقِينَ مِن أهْلِ التَّفْسِيرِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا تَلْبَسْها عَلى مَعْصِيَةٍ ولا غَدْرٍ. ثُمَّ قالَ: أما سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ:
وَإنِّي - بِحَمْدِ اللَّهِ - لا ثَوْبَ غادِرٍ لَبِسْتُ ولا مِن غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ والعَرَبُ تَقُولُ في وصْفِ الرَّجُلِ بِالصِّدْقِ والوَفاءِ: طاهِرُ الثِّيابِ. وتَقُولُ لِلْغادِرِ والفاجِرِ: دَنِسُ الثِّيابِ. وقالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لا تَلْبَسْها عَلى الغَدْرِ، والظُّلْمِ والإثْمِ. ولَكِنِ البِسْها وأنْتَ بَرٌّ طاهِرُ.
وَقالَ الضَّحّاكُ: عَمَلَكَ فَأصْلِحْ. قالَ السَّعْدِيُّ: يُقالُ لِلرَّجُلِ إذا كانَ صالِحًا: إنَّهُ لَطاهِرُ الثِّيابِ. وإذا كانَ فاجِرًا: إنَّهُ لَخَبِيثُ الثِّيابِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وقَلْبَكَ وبَيْتَكَ فَطَهِّرْ. وقالَ الحَسَنُ والقُرَظِيُّ: وخُلُقَكَ فَحَسِّنْ.
وَقالَ ابْنُ سِيرِينَ وابْنُ زَيْدٍ: أمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيابِ مِنَ النَّجاساتِ الَّتِي لا تَجُوزُ الصَّلاةُ مَعَها؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا لا يَتَطَهَّرُونَ، ولا يُطَهِّرُونَ ثِيابَهم.
وَقالَ طاوُسٌ: وثِيابَكَ فَقَصِّرْ؛ لِأنَّ تَقْصِيرَ الثِّيابِ طُهْرَةً لَها.
والقَوْلُ الأوَّلُ أصَحُّ الأقْوالِ.
وَلا رَيْبَ أنَّ تَطْهِيرَها مِنَ النَّجاساتِ وتَقْصِيرَها مِن جُمْلَةِ التَّطْهِيرِ المَأْمُورِ بِهِ، إذْ بِهِ تَمامُ إصْلاحِ الأعْمالِ والأخْلاقِ؛ لِأنَّ نَجاسَةَ الظّاهِرِ تُورِثُ نَجاسَةَ الباطِنِ. ولِذَلِكَ أمَرَ القائِمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِإزالَتِها والبُعْدِ عَنْها.
والمَقْصُودُ أنَّ الوَرِعَ يُطَهِّرُ دَنَسَ القَلْبِ ونَجاسَتَهُ. كَما يُطَهِّرُ الماءُ دَنَسَ الثَّوْبِ ونَجاسَتَهُ. وبَيْنَ الثِّيابِ والقُلُوبِ مُناسِبَةٌ ظاهِرَةٌ وباطِنَةٌ.
وَلِذَلِكَ تَدُلُّ ثِيابُ المَرْءِ في المَنامِ عَلى قَلْبِهِ وحالِهِ. ويُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنهُما في الآخَرِ. ولِهَذا نَهى عَنْ لِباسِ الحَرِيرِ والذَّهَبِ، وجُلُودِ السِّباعِ، لِما تُؤَثِّرُ في القَلْبِ مِنَ الهَيْئَةِ المُنافِيَةِ لِلْعُبُودِيَّةِ والخُشُوعِ.
وَتَأْثِيرُ القَلْبِ والنَّفْسِ في الثِّيابِ أمْرٌ خَفِيٌّ يَعْرِفُهُ أهْلُ البَصائِرِ مِن نَظافَتِها ودَنَسِها ورائِحَتِها، وبَهْجَتِها وكَسْفَتِها، حَتّى إنَّ ثَوْبَ البَرِّ لَيُعْرَفُ مِن ثَوْبِ الفاجِرِ، ولَيْسا عَلَيْهِما.
وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ الوَرَعَ كُلَّهُ في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ. فَقالَ: " «مِن حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ» فَهَذا يَعُمُّ التَّرْكَ لِما لا يَعْنِي مِنَ الكَلامِ، والنَّظَرِ، والِاسْتِماعِ، والبَطْشِ، والمَشْيِ، والفِكْرِ، وسائِرِ الحَرَكاتِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ. فَهَذِهِ الكَلِمَةُ كافِيَةٌ شافِيَةٌ في الوَرَعِ.
قالَ إبْراهِيمُ بْنُ أدْهَمَ: الوَرَعُ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ، وتَرْكُ مالا يَعْنِيكَ هو تَرْكُ الفَضَلاتِ. وفي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ ﷺ: «يا أبا هُرَيْرَةَ كُنْ ورِعًا، تَكُنْ أعْبَدَ النّاسِ».
قالَ الشِّبْلِيُّ: الوَرَعُ أنْ يُتَوَرَّعَ عَنْ كُلِّ ما سِوى اللَّهِ. وقالَ إسْحاقُ بْنُ خَلَفٍ: الوَرَعُ في المَنطِقِ أشَدُّ مِنهُ في الذَّهَبِ والفِضَّةِ، والزُّهْدُ في الرِّياسَةِ أشَدُّ مِنهُ في الذَّهَبِ والفِضَّةِ، لِأنَّهُما يُبْذَلانِ في طَلَبِ الرِّياسَةِ.
وَقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ: الوَرَعُ أوَّلُ الزُّهْدِ، كَما أنَّ القَناعَةَ أوَّلُ الرِّضا.
وَقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: الوَرَعُ الوُقُوفُ عَلى حَدِّ العِلْمِ مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وقالَ: الوَرَعُ عَلى وجْهَيْنِ. ورَعٌ في الظّاهِرِ، ووَرَعٌ في الباطِنِ، فَوَرَعُ الظّاهِرِ أنْ لا يَتَحَرَّكَ إلّا لِلَّهِ، ووَرَعُ الباطِنِ هو أنْ لا تُدْخِلَ قَلْبَكَ سِواهُ. وقالَ: مَن لَمْ يَنْظُرْ في الدَّقِيقِ مِنَ الوَرَعِ لَمْ يَصِلْ إلى الجَلِيلِ مِنَ العَطاءِ.
وَقِيلَ: الوَرَعُ الخُرُوجُ مِنَ الشَّهَواتِ، وتَرَكُ السَّيِّئاتِ.
وَقِيلَ: مَن دَقَّ في الدُّنْيا ورَعُهُ - أوْ نَظَرُهُ - جَلَّ في القِيامَةِ خَطَرُهُ.
وَقالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: الوَرَعُ الخُرُوجُ مِن كُلِّ شُبْهَةِ، ومُحاسَبَةُ النَّفْسِ في كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ.
وَقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: ما رَأيْتُ أسْهَلَ مِنَ الوَرَعِ، ما حاكَ في نَفْسِكَ فاتْرُكْهُ.
وَقالَ سَهْلٌ: الحَلالُ هو الَّذِي لا يُعْصى اللَّهُ فِيهِ، والصّافِي مِنهُ الَّذِي لا يُنْسى اللَّهُ فِيهِ، وسَألَ الحَسَنُ غُلامًا. فَقالَ لَهُ: ما مِلاكُ الدِّينِ؟ قالَ: الوَرَعُ. قالَ: فَما آفَتُهُ؟ قالَ: الطَّمَعُ. فَعَجِبَ الحَسَنُ مِنهُ.
وَقالَ الحَسَنُ: مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنَ الوَرَعِ خَيْرٌ مِن ألْفِ مِثْقالٍ مِنَ الصَّوْمِ والصَّلاةِ.
وَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: جُلَساءُ اللَّهِ غَدًا أهْلُ الوَرَعِ والزُّهْدِ.
وَقالَ بَعْضَ السَّلَفِ: لا يَبْلُغُ العَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوى حَتّى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمّا بِهِ بَأْسٌ.
وَقالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ: كُنّا نَدَعُ سَبْعِينَ بابًا مِنَ الحَلالِ مَخافَةَ أنْ نَقَعَ في بابٍ مِنَ الحَرامِ.
* [فَصْلٌ: تَعْرِيفُ ابْنِ القَيِّمِ لِلْوَرَعِ]
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
الوَرَعُ تَوْقٌ مُسْتَقْصًى عَلى حَذَرٍ. وتَحَرُّجٌ عَلى تَعْظِيمٍ.
يَعْنِي أنْ يَتَوَقّى الحَرامَ والشُّبَهَ، وما يَخافُ أنْ يَضُرَّهُ أقْصى ما يُمْكِنُهُ مِنَ التَّوَقِّي؛ لِأنَّ التَّوَقِّيَ والحَذَرَ مُتَقارِبانِ. إلّا أنَّ التَّوَقِّيَ فِعْلُ الجَوارِحِ. والحَذَرُ فِعْلُ القَلْبِ. فَقَدْ يَتَوَقّى العَبْدُ الشَّيْءَ لا عَلى وجْهِ الحَذَرِ والخَوْفِ. ولَكِنْ لِأُمُورٍ أُخْرى مِن إظْهارِ نَزاهَةٍ، وعِزَّةٍ وتَصَوُّفٍ، أوِ اعْتِراضٍ آخَرَ، كَتَوَقِّي الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِمَعادٍ، ولا جَنَّةٍ ولا نارٍ ما يَتَوَقَّوْنَهُ مِنَ الفَواحِشِ والدَّناءَةِ، تَصَوُّنًا عَنْها، ورَغْبَةً بِنُفُوسِهِمْ عَنْ مُواقَعَتِها، وطَلَبًا لِلْمَحْمَدَةِ، ونَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: " أوْ تَحَرُّجٌ عَلى تَعْظِيمٍ " يَعْنِي أنَّ الباعِثَ عَلى الوَرَعِ عَنِ المَحارِمِ والشُّبَهِ إمّا حَذَرُ حُلُولِ الوَعِيدِ، وإمّا تَعْظِيمُ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ، وإجْلالًا لَهُ أنْ يَتَعَرَّضَ لِما نَهى عَنْهُ.
فالوَرَعُ عَنِ المَعْصِيَةِ: إمّا تَخَوُّفٌ، أوْ تَعْظِيمٌ. واكْتَفى بِذِكْرِ التَّعْظِيمِ عَنْ ذِكْرِ الحُبِّ الباعِثِ عَلى تَرْكِ مَعْصِيَةِ المَحْبُوبِ؛ لِأنَّهُ لا يَكُونُ إلّا مَعَ تَعْظِيمِهِ. وإلّا فَلَوْ خَلا القَلْبُ مِن تَعْظِيمِهِ لَمْ تَسْتَلْزِمْ مَحَبَّتُهُ تَرْكَ مُخالَفَتِهِ؛ كَمَحَبَّةِ الإنْسانِ ولَدَهُ وعَبْدَهُ وأمَتَهُ. فَإذا قارَنَهُ التَّعْظِيمُ أوْجَبَ تَرْكَ المُخالَفَةِ.
قالَ: وهو آخِرُ مَقامِ الزُّهْدِ لِلْعامَّةِ، وأوَّلُ مَقامِ الزُّهْدِ لِلْمُرِيدِ.
يَعْنِي أنَّ هَذا التَّوَقِّيَ والتَّحَرُّجَ - بِوَصْفِ الحَذَرِ والتَّعْظِيمِ - هو نِهايَةٌ لِزُهْدِ العامَّةِ، وبِدايَةٌ لِزُهْدِ المُرِيدِ. وإنَّما كانَ كَذَلِكَ لِأنَّ الوَرَعَ - كَما تَقَدَّمَ - هو أوَّلُ الزُّهْدِ ورُكْنُهُ، وزُهْدُ المُرِيدُ فَوْقَ زُهْدِ العامَّةِ. ونِهايَةُ العامَّةِ هي بِدايَةُ المُرِيدِ. فَنِهايَةُ مَقامِ هَذا هي بِدايَةُ مَقامِ هَذا. فَإذا انْتَهى ورَعُ العامَّةِ صارَ زُهْدًا. وهو أوَّلُ ورَعِ المُرِيدِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ","قُمۡ فَأَنذِرۡ","وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ","وَثِیَابَكَ فَطَهِّرۡ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق