﴿۞ وَمَاۤ أَعۡجَلَكَ عَن قَوۡمِكَ یَـٰمُوسَىٰ ٨٣ قَالَ هُمۡ أُو۟لَاۤءِ عَلَىٰۤ أَثَرِی وَعَجِلۡتُ إِلَیۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ ٨٤﴾ [طه ٨٣-٨٤]
قالَ الدَّقّاقُ - في قَوْلِ مُوسى
﴿وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾قالَ: مَعْناهُ شَوْقًا إلَيْكَ. فَسَتَرَهُ بِلَفْظِ الرِّضا.
وقيل: إن شعيبًا بكى حتى عمى بصره، فأوحى الله إليه: إن كان هذا لأجل الجنة فقد أبحتها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها. فقال: لا بل شوقًا إليك، وقال بعض العارفين: من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء.
وقال بعضهم: قلوب المشتاقين منوّرة بنور الله - عز وجل - فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض، فيعرضهم الله على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إليَّ، أشهدكم أني إليهم أشوق، وإذا كان الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه ونزوعه إليه فهو من أشرف مقامات العبيد وأجلها وأعلاها، ومن أنكر شوق العبد إلى ربه فقد أنكر محبته له، لأن المحبة تستلزم الشوق فالمحب دائمًا مشتاق إلى لقاء حبيبه: لا يهدأُ قلبه ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه.
* (فصل)
ولو قلت طأ في النار أعلم أنه ∗∗∗ رضا لك أو مدن لنا من وصالك
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها ∗∗∗ هدى منك لي أو ضلة من ضلالك
ليهنك إمساكي بكفي على الحشا ∗∗∗ ورقراق عيني خشية من زيالك
وإن ساءني أن نلتني بمساءة ∗∗∗ لقد سرني أني خطرت ببالك
من علامات المحبة الصادقة أن المحب لا يتم له سرور إلا بمحبوبه وما دام غائبا عنه فعيشه كله منغص
نحن في أكمل السرور ولكن ∗∗∗ ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ∗∗∗ أنكم غيب ونحن حضور
وقال آخر
من سره العيد الجديد ∗∗∗ فقد عدمت به السرورا
كان السرور يتم لي ∗∗∗ لو كان أحبابي حضورا
لو قيل للمحب على الدوام ما تتمنى لقال لقاء المحبوب
ولما نزلنا منزلا طله الندى ∗∗∗ أنيقا وبستانا من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه ∗∗∗ منى فتمنينا فكنت الأمانيا
وقال الجنيد سمعت السري يقول: الشوق أجل مقام العارف إذا تحقق فيه وإذا تحقق بالشوق لها عن كل ما يشغله عمن يشتاق إليه وقيل أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قال لشبان بني إسرائيل لم تشغلون نفوسكم بغيري وأنا مشتاق إليكم ما هذا الجفاء ولو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم ومحبتي لترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وانقطعت أوصالهم من محبتي هذه إرادتي للمدبرين عني فكيف إرادتي للمقبلين علي.
وسئل الجنيد من أي شيء بكاء المحب إذا لقي المحبوب فقال إنما يكون ذلك سرورا به ووجدا من شدة الشوق إليه.
قال: ولقد بلغني أن أخوين تعانقا فقال أحدهما واشوقاه وقال الآخر وواجداه.
* (فصل)
قالَ القُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ الأُسْتاذَ أبا عَلِيٍّ الدَّقّاقَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْقِ والِاشْتِياقِ. ويَقُولُ: الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقاءِ. والِاشْتِياقُ لا يَزُولُ بِاللِّقاءِ. قالَ: وفي مَعْناهُ أنْشَدُوا:
ما يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ∗∗∗ حَتّى يَعُودَ إلَيْهِالطَّرْفُ مُشْتاقا
وَقالَ النَّصْراباذِيُّ: لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ مَقامُ الشَّوْقِ. ولَيْسَ لَهم مَقامُ الِاشْتِياقِ. ومَن دَخَلَ في حالِ الِاشْتِياقِ هامَ فِيهِ حَتّى لا يُرى لَهُ فِيهِ أثَرٌ ولا قَرارٌ.
قالَ الدَّقّاقُ - في قَوْلِ مُوسى
﴿وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ [طه: ٨٤]قالَ: مَعْناهُ شَوْقًا إلَيْكَ. فَسَتَرَهُ بِلَفْظِ الرِّضا.
وَقِيلَ: إنَّ أهْلَ الشَّوْقِ إلى لِقاءِ اللَّهِ يَتَحَسَّوْنَ حَلاوَةَ القُرْبِ عِنْدَ وُرُودِهِ - لِما قَدْ كُشِفَ لَهم مِن رُوحِ الوُصُولِ - أحْلى مِنَ الشَّهْدِ. فَهم في سَكَراتِهِ في أعْظَمِ لَذَّةٍ وحَلاوَةٍ.
وَقِيلَ: مَنِ اشْتاقَ إلى اللَّهِ اشْتاقَ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ. كَما قالَ بَعْضُهُمْ: أنا أدْخُلُ في الشَّوْقِ والأشْياءُ تَشْتاقُ إلَيَّ. وأتَأخَّرُ عَنْ جَمِيعِها.
وَفِي مِثْلِ هَذا قِيلَ:
إذا اشْتاقَتِ الخَيْلُ المَناهِلَ أعْرَضَتْ ∗∗∗ عَنِ الماءِ فاشْتاقَتْ إلَيْها المَناهِلُ
وَكانَتْ عَجُوزٌ مُغَيَّبَةٌ. فَقَدِمَ غائِبُها مِنَ السَّفَرِ. فَفَرِحَ بِهِ أهْلُهُ وأقارِبُهُ، وقَعَدَتْ هي تَبْكِي. فَقِيلَ لَها: ما يُبْكِيكَ؟
فَقالَتْ: ذَكَّرَنِي قُدُومُ هَذا الفَتى يَوْمَ القُدُومِ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
يا مَن شَكا شَوْقُهُ مِن طُولِ فُرْقَتِهِ ∗∗∗ اصْبِرْ لَعَلَّكَ تَلْقى مَن تُحِبُّ غَدا
وَقِيلَ: خَرَجَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمًا إلى الصَّحْراءِ مُنْفَرِدًا. فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: ما لِي أراكَ مُنْفَرِدًا؟ فَقالَ: إلَهِي اسْتَأْثَرَ شَوْقِي إلى لِقائِكَ عَلى قَلْبِي. فَحالَ بَيْنِي وبَيْنَ صُحْبَةِ الخَلْقِ. فَقالَ: ارْجِعْ إلَيْهِمْ. فَإنَّكَ إنْ أتَيْتَنِي بِعَبْدٍ آبِقٍ أُثْبِتْكَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ جَهْبَذًا.
* (فائدة)
قال في طريق الهجرتين:
قد تقدم الكلام في الشوق مستوفى، وليس الهرب من الغير والضد هو الشوق، بل هنا مهروب منه ومهروب إليه، فالشوق هو سفر القلب نحو المحبوب، وهذا لا يتم إلا بالهرب من ضده، فليس الشوق هو نفس الهرب من الرسوم والسمات.
* (موعظة)
الشوق إلى الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عَنهُ وهج الدُّنْيا من وطّن قلبه عند ربه سكن واستراح ومن أرْسلهُ في النّاس اضْطربَ واشْتَدَّ بِهِ القلق لا تدخل محبَّة الله في قلب فِيهِ حب الدُّنْيا إلّا كَما يدْخل الجمل في سم الإبرة.
إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنَفسِهِ واجتباه لمحبته واستخلصه لعبادته فشغل همه بِهِ، ولسانه بِذكرِهِ وجوارحه بخدمته والقلب يمرض كَما يمرض البدن وشفاؤه في التَّوْبَة والحمية ويصدأ كَما تصدأ المرْآة وجلاؤه بِالذكر ويعرى كَما يعرى الجِسْم وزينته التَّقْوى ويجوع ويظمأ كَما يجوع البدن وطَعامه وشَرابه المعرفَة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة إياك والغفلة عَمَّن جعل لحياتك أجَلًا ولأيامك وأنفاسك أمدا ومن كل ما سواهُ بُد ولا بذلك مِنهُ من ترك الِاخْتِيار والتَّدْبِير في طلب زِيادَة دنيا أو جاه أو في خوف نُقْصان أو في التَّخَلُّص من عَدو توكلا على الله وثقة بتدبيره لَهُ وحسن اخْتِياره لَهُ فَألْقى كنفه بَين يَدَيْهِ وسلم الأمر إلَيْهِ ورَضي بِما يَقْضِيه لَهُ استراح من الهموم والغموم والأحْزان.
وَمن أبى إلّا تَدْبيره لنَفسِهِ وقع في النكد والنّصب وسُوء الحال والتعب فَلا عَيْش يصفو ولا قلب يفرح ولا عمل يزكو ولا أمل يقوم ولا راحَة تدوم والله سُبْحانَهُ سهّل لخلقه السَّبِيل إلَيْهِ وحجبهم عَنهُ بِالتَّدْبِيرِ فَمن رَضِي بتدبير الله لَهُ وسكن إلى اخْتِياره وسلّم لحكمه أزال ذَلِك الحجاب فأفضى القلب إلى ربه واطْمَأنَّ إلَيْهِ وسكن المتَوَكل لا يسْأل غير الله، ولا يرد على الله ولا يدّخر مَعَ الله من شغل بِنَفسِهِ شغل عَن غَيره، ومن شغل بربه شغل عَن نَفسه.
* [فَصْلٌ: القَلَقُ]
وَقَدْ يَقْوى هَذا الشَّوْقُ، ويَتَجَرَّدُ عَنِ الصَّبْرِ. فَيُسَمّى قَلَقًا وبِذَلِكَ سَمّاهُ صاحِبُ المَنازِلِ، واسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى - حاكِيًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسى ﷺ
﴿وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾فَكَأنَّهُ فَهِمَ: أنَّ عَجَلَتَهُ إنَّما حَمَلَهُ عَلَيْها القَلَقُ. وهو تَجْرِيدُ الشَّوْقِ لِلِقائِهِ ومِيعادِهِ.
وَظاهِرُ الآيَةِ: أنَّ الحامِلَ لِمُوسى عَلى العَجَلَةِ: هو طَلَبُ رِضا رَبِّهِ، وأنَّ رِضاهُ في المُبادَرَةِ إلى أوامِرِهِ، والعَجَلَةِ إلَيْها.
وَلِهَذا احْتَجَّ السَّلَفُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الصَّلاةَ في أوَّلِ الوَقْتِ أفْضَلُ. سَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَذْكُرُ ذَلِكَ.
قالَ: إنَّ رِضا الرَّبِّ في العَجَلَةِ إلى أوامِرِهِ.
ثُمَّ حَدَّهُ صاحِبُ المَنازِلِ بِأنَّهُ تَجْرِيدُ الشَّوْقِ بِإسْقاطِ الصَّبْرِ أيْ تَخَلُّصِهِ مِن كُلِّ شائِبَةٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ مَعَهُ الصَّبْرُ، فَإنْ قارَنَهُ اصْطِبارٌ فَهو شَوْقٌ.