الباحث القرآني
﴿يا بَنِي آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكم رُسُلٌ مِنكم يَقُصُّونَ عَلَيْكم آياتِي فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ يَجِيءُ في مَوْقِعِ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنَ التَّأْوِيلِ ما تَقَدَّمَ مِنَ القَوْلِ في نَظِيرَتِها وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكم لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ﴾ [الأعراف: ٢٦] .
والتَّأْوِيلُ الَّذِي اسْتَظْهَرْنا بِهِ هُنالِكَ يَبْدُو في هَذِهِ النَّظِيرَةِ الرّابِعَةِ أوْضَحَ، وصِيغَةُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ: ”رُسُلٌ“ وقَوْلِهِ ”يَقُصُّونَ“ تَقْتَضِي تَوَقُّعَ مَجِيءِ عِدَّةِ رُسُلٍ، وذَلِكَ مُنْتَفٍ بَعْدَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ الخاتِمِ لِلرُّسُلِ الحاشِرِ العاقِبِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَذَلِكَ يَتَأكَّدُ أنْ يَكُونَ هَذا الخِطابُ لِبَنِي آدَمَ الحاضِرِينَ وقْتَ نُزُولِ القُرْآنِ، ويُرَجِّحُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ النِّداءاتُ الأرْبَعَةُ حِكايَةً لِقَوْلٍ مُوَجَّهٍ إلى بَنِي آدَمَ الأوَّلِينَ الَّذِي أوَّلُهُ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وفِيها تَمُوتُونَ ومِنها تُخْرَجُونَ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكَأنَّ هَذا خِطابٌ لِجَمِيعِ الأُمَمِ قَدِيمِها وحَدِيثِها، هو مُتَمَكِّنٌ لَهم، ومُتَحَصِّلٌ مِنهُ لِحاضِرِي مُحَمَّدٍ ﷺ أنَّ هَذا حُكْمُ اللَّهِ في العالَمِ مُنْذُ أنْشَأهُ يُرِيدُ أنَّ اللَّهَ أبْلَغَ النّاسَ هَذا الخِطابَ عَلى لِسانِ كُلِّ نَبِيءٍ، مِن آدَمَ إلى هَلُمَّ جَرًّا، فَما مِن نَبِيءٍ أوْ رَسُولٍ إلّا وبَلَّغَهُ أُمَّتَهُ، (p-١٠٧)وأمَرَهَمْ بِأنْ يُبَلِّغَ الشّاهِدُ مِنهُمُ الغائِبَ، حَتّى نَزَلَ في القُرْآنِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ فَعَلِمَتْ أُمَّتُهُ أنَّها مَشْمُولَةٌ في عُمُومِ بَنِي آدَمَ.
وإذا كانَ ذَلِكَ مُتَعَيِّنًا في هَذِهِ الآيَةِ أوْ كالمُتَعَيِّنِ تَعَيَّنَ اعْتِبارُ مِثْلِهِ في نَظائِرِها الثَّلاثِ الماضِيَةِ، فَشُدَّ بِهِ يَدَكَ، ولا تَعْبَأْ بِمَن حَرَدَكَ.
فَأمّا إذا جُعِلَ الخِطابُ في هَذِهِ الآيَةِ مُوَجَّهًا إلى المُشْرِكِينَ في زَمَنِ النُّزُولِ، بِعُنْوانِ كَوْنِهِمْ مِن بَنِي آدَمَ، فَهُنالِكَ يَتَعَيَّنُ صَرْفُ مَعْنى الشَّرْطِ إلى ما يَأْتِي مِنَ الزَّمانِ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ لِأنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي الِاسْتِقْبالَ غالِبًا، كَأنَّهُ قِيلَ إنْ فاتَكُمُ اتِّباعُ ما أُنْزِلَ إلَيْكم فِيما مَضى لا يَفُتْكم فِيما بَقِيَ، ويَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ يَأْتِيَنَّكم بِمَعْنى يَدْعُوَنَّكم، ويَتَعَيَّنُ جَعْلُ جَمْعِ الرُّسُلِ عَلى إرادَةِ رَسُولٍ واحِدٍ تَعْظِيمًا لَهُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أغْرَقْناهُمْ﴾ [الفرقان: ٣٧] أيْ كَذَّبُوا رَسُولَهُ نُوحًا، وقَوْلِهِ: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٥] ولَهُ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ.
وهَذِهِ الآيَةُ، والَّتِي بَعْدَها، مُتَّصِلَتا المَعْنى بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعالى في أوَّلِ السُّورَةِ: ﴿وكَمْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها﴾ [الأعراف: ٤] الآيَةَ. اتِّصالَ التَّفْصِيلِ بِإجْمالِهِ.
أكَّدَ بِهِ تَحْذِيرَهم مِن كَيْدِ الشَّيْطانِ وفُتُونِهِ، وأراهم بِهِ مَناهِجَ الرُّشْدِ الَّتِي تُعِينُ عَلى تَجَنُّبِ كَيْدِهِ، بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إيّاهم إلى التَّقْوى والإصْلاحِ، كَما أشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ، في الخِطابِ السّابِقِ: ﴿يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أخْرَجَ أبَوَيْكم مِنَ الجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٢٧] وأنْبَأهم بِأنَّ الشَّيْطانَ تَوَعَّدَ نَوْعَ الإنْسانِ فِيما حَكى اللَّهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قالَ فَبِما أغْوَيْتَنِي لَأقْعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] الآيَةَ فَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ مِن كَيْدِ الشَّيْطانِ، وأشْعَرَهم بِقُوَّةِ الشَّيْطانِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ يَراكم هو وقَبِيلُهُ مِن حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٢٧] عَسى أنْ يَتَّخِذُوا العُدَّةَ لِلنَّجاةِ مِن مَخالِبِ فِتْنَتِهِ، وأرْدَفَ ذَلِكَ بِالتَّحْذِيرِ مِن حِزْبِهِ ودُعاتِهِ الَّذِينَ يَفْتِنُونَ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ عَزَّزَ ذَلِكَ بِإعْلامِهِ إيّاهم أنَّهُ أعانَهم عَلى الِاحْتِرازِ (p-١٠٨)مِنَ الشَّيْطانِ، بِأنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ قَوْمًا مِن حِزْبِ اللَّهِ يُبَلِّغُونَهم عَنِ اللَّهِ ما فِيهِ مَنجاةٌ لَهم مِن كَيْدِ الشَّياطِينِ، بِقَوْلِهِ: ﴿يا بَنِي آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ الآيَةَ فَأوْصاهم بِتَصْدِيقِهِمْ والِامْتِثالِ لَهم.
و(إمّا) مُرَكَّبَةٌ مِن إنِ الشَّرْطِيَّةِ وما الزّائِدَةِ المُؤَكِّدَةِ لِمَعْنى الشَّرْطِيَّةِ، واصْطَلَحَ أيِمَّةُ رَسْمِ الخَطِّ عَلى كِتابَتِها في صُورَةِ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، رَعْيًا لِحالَةِ النُّطْقِ بِها بِإدْغامِ النُّونِ في المِيمِ، والأظْهَرُ أنَّها تُفِيدُ مَعَ التَّأْكِيدِ عُمُومَ الشَّرْطِ مِثْلُ أخَواتِها (مَهْما) و(أيْنَما)، فَإذا اقْتَرَنَتْ بِإنِ الشَّرْطِيَّةِ اقْتَرَنَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ بِفِعْلِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أحَدًا فَقُولِي﴾ [مريم: ٢٦] ”سُورَةَ مَرْيَمَ“ لِأنَّ التَّوْكِيدَ الشَّرْطِيَّ يُشْبِهُ القَسَمَ، وهَذا الِاقْتِرانُ بِالنُّونِ غالِبٌ، ولِأنَّها لَمّا وقَعَتْ تَوْكِيدًا لِلشَّرْطِ تَنَزَّلَتْ مِن أداةِ الشَّرْطِ مَنزِلَةَ جُزْءِ الكَلِمَةِ.
وقَوْلُهُ: (مِنكم) أيْ مِن بَنِي آدَمَ، وهَذا تَنْبِيهٌ لِبَنِي آدَمَ بِأنَّهم لا يَتَرَقَّبُونَ أنْ تَجِيئَهم رُسُلُ اللَّهِ مِنَ المَلائِكَةِ لِأنَّ المُرْسَلَ يَكُونُ مِن جِنْسِ مَن أُرْسِلَ إلَيْهِمْ، وفي هَذا تَعْرِيضٌ بِالجَهَلَةِ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أنْكَرُوا رِسالَةَ الرُّسُلِ لِأنَّهم مِن جِنْسِهِمْ، مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ، إذْ قالُوا: ﴿ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا﴾ [هود: ٢٧] ومِثْلُ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ إذْ كَذَّبُوا رِسالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِأنَّهُ بَشَرٌ قالَ تَعالى: ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى إلّا أنْ قالُوا أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤] ﴿قُلْ لَوْ كانَ في الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٥] .
ومَعْنى ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكم آياتِي﴾ يَتْلُونَها ويَحْكُونَها ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى يُتْبِعُونَ الآيَةَ بِأُخْرى ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى يُظْهِرُونَ، وكُلُّها مَعانٍ مَجازِيَّةٌ لِلْقَصِّ لِأنَّ حَقِيقَةَ القَصِّ هي أنَّ أصْلَ القَصَصِ إتْباعُ الحَدِيثِ مِنَ اقْتِصاصِ أثَرِ الأرْجُلِ واتِّباعِهِ لِتُعْرَفَ جِهَةُ الماشِي، فَعَلى المَعْنى الأوَّلِ فَهو كَقَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى: ﴿ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكم يَتْلُونَ عَلَيْكم آياتِ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: ٧١] وأيًّا ما كانَ فَهو مُحْتَمَلٌ لِلْحَمْلِ عَلى جَمِيعِها مِنَ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في مَجازَيْهِ. (p-١٠٩)الآيَةُ أصْلُها العَلامَةُ الدّالَّةُ عَلى شَيْءٍ، مِن قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ، وآياتُ اللَّهِ الدَّلائِلُ الَّتِي جَعَلَها دالَّةً عَلى وُجُودِهِ، أوْ عَلى صِفاتِهِ، أوْ عَلى صِدْقِ رُسُلِهِ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ [البقرة: ٣٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ [الأنعام: ٣٧] في سُورَةِ الأنْعامِ، ومِنهُ آياتُ القُرْآنِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ دَلالَةً عَلى مُرادِهِ لِلنّاسِ، لِلتَّعْرِيضِ بِالمُشْرِكِينَ مِنَ العَرَبِ، الَّذِينَ أنْكَرُوا رِسالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، ووَجْهُ دَلالَةِ الآياتِ عَلى ذَلِكَ إمّا لِأنَّها جاءَتْ عَلى نَظْمٍ يَعْجِزُ البَشَرُ عَنْ تَأْلِيفِ مِثْلِهِ، وذَلِكَ مِن خَصائِصِ القُرْآنِ، وإمّا لِأنَّها تَشْتَمِلُ عَلى أحْكامٍ ومَعانٍ لا قِبَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ ورَسُولِهِ بِإدْراكِ مِثْلِها، أوْ لِأنَّها تَدْعُو إلى صَلاحٍ لَمْ يَعْهَدْهُ النّاسُ، فَيَدُلُّ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عَلى أنَّهُ مِمّا أرادَهُ اللَّهُ لِلنّاسِ، مِثْلَ بَقِيَّةِ الكُتُبِ الَّتِي جاءَتْ بِها الرُّسُلُ، وإمّا لِأنَّها قارَنَتْها أُمُورٌ خارِقَةٌ لِلْعادَةِ تَحَدّى بِها الرَّسُولُ المُرْسَلُ بِتِلْكَ الأقْوالِ أُمَّتَهُ، فَهَذا مَعْنى تَسْمِيَتِها آياتٍ، ومَعْنى إضافَتِها إلى اللَّهِ تَعالى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالآياتِ ما يَشْمَلُ المُعْجِزاتِ غَيْرَ القَوْلِيَّةِ، مِثْلَ نَبْعِ الماءِ مِن بَيْنِ أصابِعِ مُحَمَّدٍ ﷺ ومِثْلَ قَلْبِ العَصا حَيَّةً لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ، وإبْراءِ الأكْمَهِ لِعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ، ومَعْنى التَّكْذِيبِ بِها العِنادُ بِإنْكارِها وجَحْدِها.
وجُمْلَةُ: ﴿فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ﴾ جَوابُ الشَّرْطِ وبَيْنَها وبَيْنَ جُمْلَةِ: (﴿إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾) مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فاتَّقى مِنكم فَرِيقٌ وكَذَّبَ فَرِيقٌ فَمَنِ اتَّقى إلَخْ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ شَرْطِيَّةٌ أيْضًا، وجَوابُها ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾، أيْ فَمَنِ اتَّبَعَ رُسُلِي فاتَّقانِي وأصْلَحَ نَفْسَهُ وعَمَلَهُ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ، ولَمّا كانَ إتْيانُ الرُّسُلِ فائِدَتُهُ لِإصْلاحِ النّاسِ، لا لِنَفْعِ الرُّسُلِ، عَدَلَ عَنْ جَعْلِ الجَوابِ اتِّباعَ الرُّسُلِ إلى جَعْلِهِ التَّقْوى والصَّلاحَ، إيماءً إلى حِكْمَةِ إرْسالِ الرُّسُلِ، وتَحْرِيضًا عَلى اتِّباعِهِمْ بِأنَّ فائِدَتَهُ لِلْأُمَمِ لا لِلرُّسُلِ، كَما قالَ شُعَيْبٌ: ﴿وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلّا الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: ٨٨]، أيْ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِن عُقُوبَةِ اللَّهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ولا هم يَحْزَنُونَ مِن شَيْءٍ (p-١١٠)مِن ذَلِكَ، فالخَوْفُ والحُزْنُ المَنفِيّانِ هُما ما يُوجِبُهُ العِقابُ، وقَدْ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الخَوْفُ والحُزْنُ مُطْلَقًا بِمِقْدارِ قُوَّةِ التَّقْوى والصَّلاحِ، وهَذا مِنَ الأسْرارِ الَّتِي بَيْنَ اللَّهِ وعِبادِهِ الصّالِحِينَ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا إنَّ أوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: ٦٢] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٦٣] ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [يونس: ٦٤] .
وقَدْ نُفِيَ الخَوْفُ نَفْيَ الجِنْسِ بِلا النّافِيَةِ لَهُ، وجِيءَ بِاسْمِها مَرْفُوعًا لِأنَّ الرَّفْعَ يُساوِي البِناءَ عَلى الفَتْحِ في مِثْلِ هَذا، لِأنَّ الخَوْفَ مِنَ الأجْناسِ المَعْنَوِيَّةِ الَّتِي لا يُتَوَهَّمُ في نَفْيِها أنْ يَكُونَ المُرادُ نَفْيَ الفَرْدِ الواحِدِ، ولَوْ فُتِحَ مِثْلُهُ لَصَحَّ، ومِنهُ قَوْلُ الرّابِعَةِ مِن نِساءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهامَةَ، لا حَرٌّ ولا قَرٌّ ولا مَخافَةُ ولا سَئامَةُ فَقَدْ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وبِالفَتْحِ.
و(عَلى) في قَوْلِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ، وهو المُقارَنَةُ والمُلازَمَةُ، أيْ لا خَوْفٌ يَنالُهم.
وقَوْلُهُ: ولا هم يَحْزَنُونَ جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلى جُمْلَةِ: ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٣٨]، وعَدَلَ عَنْ عَطْفِ المُفْرَدِ، بِأنْ يُقالَ: ولا حُزْنٌ، إلى الجُمْلَةِ: لِيَتَأتّى بِذَلِكَ بِناءُ المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ عَلى ضَمِيرِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلى أنَّ الحُزْنَ واقِعٌ بِغَيْرِهِمْ. وهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَإنَّ بِناءَ الخَبَرِ الفِعْلِيِّ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ المُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ يُفِيدُ تَخْصِيصَ المُسْنَدِ إلَيْهِ بِذَلِكَ الخَبَرِ، نَحْوَ: ما أنا قُلْتُ هَذا، فَإنَّهُ نَفْيُ صُدُورِ القَوْلِ مِنَ المُتَكَلِّمِ مَعَ كَوْنِ القَوْلِ واقِعًا مِن غَيْرِهِ، وعَلَيْهِ بَيْتُ دَلائِلِ الإعْجازِ، وهو لِلْمُتَنَبِّي:
؎وما أنا أسْقَمْتُ جِسْـمِـي بِـهِ ولا أنا أضْرَمْتُ في القَلْبِ نارًا
فَيُفِيدُ أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَحْزَنُونَ إفادَةً بِطَرِيقِ المَفْهُومِ، لِيَكُونَ كالمُقَدِّمَةِ لِلْخَبَرِ عَنْهم بَعْدَ ذَلِكَ بِأنَّهم أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ.
(p-١١١)وجُمْلَةُ: ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ﴾) والرّابِطُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: والَّذِينَ كَفَرُوا مِنكم وكَذَّبُوا.
والِاسْتِكْبارُ مُبالَغَةٌ في التَّكَبُّرِ، فالسِّينُ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ، وهو أنْ يُعِدَّ المَرْءُ نَفْسَهُ كَبِيرًا أيْ عَظِيمًا وما هو بِهِ، فالسِّينُ والتّاءُ لِلْعَدِّ والحُسْبانِ، وكِلا الأمْرَيْنِ يُؤْذِنُ بِإفْراطِهِمْ في ذَلِكَ وأنَّهم عَدَوْا قَدْرَهم.
وضُمِّنَ الِاسْتِكْبارُ مَعْنى الإعْراضِ، فَعُلِّقَ بِهِ ضَمِيرُ الآياتِ، والمَعْنى: واسْتَكْبَرُوا فَأعْرَضُوا عَنْها.
وأفادَ تَحْقِيقُ أنَّهم صائِرُونَ إلى النّارِ بِطَرِيقِ قَصْرِ مُلازَمَةِ النّارِ عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ﴾ لِأنَّ لَفْظَ (أصْحابُ) مُؤْذِنٌ بِالمُلازَمَةِ، وبِما تَدُلُّ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوامِ والثَّباتِ في قَوْلِهِ: هم فِيها خالِدُونَ.
{"ayahs_start":35,"ayahs":["یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ إِمَّا یَأۡتِیَنَّكُمۡ رُسُلࣱ مِّنكُمۡ یَقُصُّونَ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِی فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ","وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق