الباحث القرآني
﴿ولَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ﴾ ﴿ونَجَّيْناهُ وأهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ﴾ ﴿وجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقِينَ﴾ ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ ﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ في العالَمِينَ﴾ ﴿إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ثُمَّ أغْرَقْنا الأخَرِينَ﴾ أتْبَعَ التَّذْكِيرَ والتَّسْلِيَةَ مِن جانِبِ النَّظَرِ في آثارِ ما حَلَّ بِالأُمَمِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ، وما أخْبَرَ عَنْهُ مِن عاقِبَتِهِمْ في الآخِرَةِ، بِتَذْكِيرٍ وتَسْلِيَةٍ مِن جانِبِ الإخْبارِ عَنِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَذَّبَهم قَوْمُهم وآذَوْهم، وكَيْفَ انْتَصَرَ اللَّهُ لَهم لِيَزِيدَ رَسُولَهُ ﷺ تَثْبِيتًا ويُلْقِمَ المُشْرِكِينَ تَبْكِيتًا.
وذَكَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ قَصَصَ الرُّسُلِ مَعَ أقْوامِهِمْ لِأنَّ في كُلِّ قِصَّةٍ مِنها خاصِّيَّةً لَها شَبَهٌ بِحالِ الرَّسُولِ ﷺ مَعَ قَوْمِهِ وبِحالِهِ الأكْمَلِ في دَعْوَتِهِ، فَفي القَصَصِ كُلِّها عِبْرَةٌ وأُسْوَةٌ وتَحْذِيرٌ كَما سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ كُلِّ قِصَّةٍ مِنها، ويَجْمَعُها كُلَّها مُقاوَمَةُ الشِّرْكِ ومُقاوَمَةُ أهْلِها.
(p-١٣٠)واخْتِيرَ هَؤُلاءِ الرُّسُلُ السِّتَّةُ: لِأنَّ نُوحًا القُدْوَةُ الأُولى، وإبْراهِيمَ هو رَسُولُ المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ الَّتِي هي نَواةُ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ شَجَرَةِ الإسْلامِ، ومُوسى لِشِبْهِ شَرِيعَتِهِ بِالشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ في التَّفْصِيلِ والجَمْعِ بَيْنَ الدِّينِ والسُّلْطانِ، فَهَؤُلاءِ الرُّسُلُ الثَّلاثَةُ أُصُولٌ. ثُمَّ ذَكَرَ ثَلاثَةَ رُسُلٍ تَفَرَّعُوا عَنْهم وثَلاثَةً عَلى مِلَّةِ رُسُلِ مَن قَبْلَهم. فَأمّا لُوطٌ فَهو عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ، وأمّا إلْياسُ ويُونُسُ فَعَلى مِلَّةِ مُوسى.
وابْتَدى بِقِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فَإنَّهُ أوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلى النّاسِ وهو الأُسْوَةُ الأُولى والقُدْوَةُ المُثْلى.
وابْتِداءُ القِصَّةِ بِذِكْرِ نِداءِ نُوحٍ رَبَّهُ مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ لِيَحْذَرُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ﷺ رَبَّهُ تَعالى بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ كَما دَعا نُوحٌ عَلى قَوْمِهِ، وهَذا النِّداءُ هو المَحْكِيُّ في قَوْلِهِ ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ﴾ [المؤمنون: ٢٦] في سُورَةِ المُؤْمِنُونَ، وقَوْلِهِ ﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إلّا خَسارًا﴾ [نوح: ٢١] الآياتُ مِن سُورَةِ نُوحٍ.
والفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى ”نادانا“، أيْ نادانا فَأجَبْناهُ، فَحَذَفَ المُفَرَّعَ لِدَلالَةِ ”﴿فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ﴾“ عَلَيْهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى فَأجَبْناهُ جَوابَ مَن يُقالُ فِيهِ: نِعْمَ المُجِيبُ.
والمَخْصُوصُ بِالمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أيْ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ نَحْنُ. وضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ المُشارِكِ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْظِيمِ كَما هو مَعْلُومٌ.
وتَأْكِيدُ الخَبَرِ وتَأْكِيدُ ما فُرِّعَ عَلَيْهِ بِلامِ القَسَمِ لِتَحْقِيقِ الأمْرَيْنِ تَحْذِيرًا لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ تَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ مَن يُنْكِرُ أنَّ نُوحًا دَعا فاسْتُجِيبَ لَهُ.
والتَّنْجِيَةُ: الإنْجاءُ وهو جَعْلُ الغَيْرِ ناجِيًا. والنَّجاةُ: الخَلاصُ مِن ضُرٍّ واقِعٍ. وأُطْلِقَتْ هُنا عَلى السَّلامَةِ مِن ذَلِكَ قَبْلَ الوُقُوعِ فِيهِ لِأنَّهُ لَمّا حَصَلَتْ سَلامَتُهُ في حِينِ إحاطَةِ الضُّرِّ بِقَوْمِهِ نَزَلَتْ سَلامَتُهُ مِنهُ مَعَ قُرْبِهِ مِنهُ بِمَنزِلَةِ الخَلاصِ مِنهُ بَعْدَ الوُقُوعِ فِيهِ، تَنْزِيلًا لِمُقارَبَةِ وُقُوعِ الفِعْلِ مَنزِلَةَ وُقُوعِهِ، وهَذا إطْلاقٌ كَثِيرٌ لِلَفْظِ النَّجاةِ بِحَيْثُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: النَّجاةُ خَلاصٌ مِن ضُرٍّ واقِعٍ أوْ مُتَوَقَّعٍ.
والمُرادُ بِأهْلِهِ: عائِلَتُهُ إلّا مَن حَقَّ عَلَيْهِ القَوْلُ مِنهم، وكَذَلِكَ المُؤْمِنُونَ مِن قَومِهِ، قالَ تَعالى: ﴿قُلْنا احْمِلْ فِيها مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ (p-١٣١)القَوْلُ ومَن آمَنَ وما آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] . فالِاقْتِصارُ عَلى أهْلِهِ هُنا لِقِلَّةِ مَن آمَنَ بِهِ مِن غَيْرِهِمْ، أوْ أُرِيدَ بِالأهْلِ أهْلَ دِينِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ أوْلى النّاسِ بِإبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ [آل عمران: ٦٨] .
وأشْعَرَ قَوْلُهُ ﴿ونَجَّيْناهُ وأهْلَهُ﴾ أنَّ اسْتِجابَةَ دُعاءِ نُوحٍ كانَتْ بِأنْ أهْلَكَ قَوْمَهَ.
والكَرْبُ: الحُزْنُ الشَّدِيدُ والغَمُّ. ووَصَفَهُ بِ ”العَظِيمِ“ لِإفادَةِ أنَّهُ عَظِيمٌ في نَوْعِهِ فَهو غَمٌّ عَلى غَمٍّ. والمَعْنِيُّ بِهِ الطُّوفانُ، وهو كَرْبٌ عَظِيمٌ عَلى الَّذِينَ وقَعُوا فِيهِ، فَإنْجاءُ نُوحٍ مِنهُ هو سَلامَتُهُ مِنَ الوُقُوعِ فِيهِ كَما عَلِمْتَ لِأنَّهُ هَوْلٌ في المَنظَرِ، وخَوْفٌ في العاقِبَةِ، والوُقُوعُ فِيهِ مُوقِنٌ بِالهَلاكِ. ولا يَزالُ الخَوْفُ بِهِ حَتّى يَغْمُرَهُ الماءُ ثُمَّ لا يَزالُ في آلامٍ مِن ضِيقِ النَّفَسِ ورِعْدَةِ القَرِّ والخَوْفِ وتَحْقِيقِ الهَلاكِ حَتّى يَغْرَقَ في الماءِ.
وإنْجاءُ اللَّهِ إيّاهُ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ، وإنْجاءُ أهْلِهِ نِعْمَةٌ أُخْرى، وهَلاكُ ظالِمِيهِ نِعْمَةٌ كُبْرى، وجَعْلُ عُمْرانِ الأرْضِ بِذُرِّيَّتِهِ نِعْمَةً دايِمَةً لِأنَّهم يَدْعُونَ لَهُ ويُذْكَرُ بَيْنَهم مَصالِحُ أعْمالِهِ وذَلِكَ مِمّا يَرْحَمُهُ اللَّهُ لِأجْلِهِ، وسَتَأْتِي نِعَمٌ أُخْرى تَبْلُغُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.
وضَمِيرُ الفَصْلِ في قَوْلِهِ ”﴿هُمُ الباقِينَ﴾“ لِلْحَصْرِ، أيْ لَمْ يَبْقَ أحَدٌ مِنَ النّاسِ إلّا مَن نَجّاهُ اللَّهُ مَعَ نُوحٍ في السَّفِينَةِ مِن ذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ مَن تَناسَلَ مِنهم، فَلَمْ يَبْقَ مِن أبْناءِ آدَمَ غَيْرُ ذَرِّيَّةِ نُوحٍ فَجَمِيعُ الأُمَمِ مِن ذُرِّيَّةِ أوْلادِ نُوحٍ الثَّلاثَةِ.
وظاهِرُ هَذا أنَّ مَن آمَنَ مَعَ نُوحٍ مِن غَيْرِ أبْنائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهم نَسْلٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ ماتَ مَن مَعَهُ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ إلّا ولَدَهُ ونِساءَهُ. وبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ التَّعارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ في سُورَةِ هُودٍ ﴿قُلْنا احْمِلْ فِيها مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ ومَن آمَنَ وما آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠]، وهَذا جارٍ عَلى أنَّ الطُّوفانَ قَدْ عَمَّ الأرْضَ كُلَّها واسْتَأْصَلَ جَمِيعَ البَشَرِ إلّا مَن حَمَلَهم نُوحٌ في السَّفِينَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ في سُورَةِ هُودٍ.
وعُمُومُ الطُّوفانِ هو مُقْتَضى ظَواهِرِ الكِتابِ والسَّنَةِ، ومَن قالُوا: إنَّ الطُّوفانَ لَمْ يَعُمَّ الأرْضَ فَإنَّما أقْدَمُوا عَلى إنْكارِهِ مِن جِهَةِ قِصَرِ المُدَّةِ الَّتِي حَدَّدَتْ بِها كُتُبُ الإسْرائِيلِيِّينَ، ولَيْسَ يَلْزَمُ الِاطْمِئْنانُ لَها في ضَبْطِ عُمْرِ الأرْضِ وأحْداثِها، وذَلِكَ لَيْسَ (p-١٣٢)مِنَ القَواطِعِ، ويَكُونُ القَصْرُ إضافِيًّا أيْ لَمْ يَبْقَ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ. وقَدْ يُقالُ: نُسَلِّمُ أنَّ الطُّوفانَ لَمْ يَعُمَّ الأرْضَ ولَكِنَّهُ عَمَّ البَشَرَ لِأنَّهم كانُوا مُنْحَصِرِينَ في البِلادِ الَّتِي أصابَها الطُّوفانُ، ولَئِنْ كانَتْ أدِلَّةُ عُمُومِ الطُّوفانِ غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ فَإنَّ مُسْتَنَداتِ الَّذِينَ أنْكَرُوهُ غَيْرُ ناهِضَةٍ فَلا تُتْرَكُ ظَواهِرُ الأخْبارِ لِأجْلِها.
وزادَ اللَّهُ في عِدادِ كَرامَةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَوْلَهُ ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾، فَتِلْكَ نِعْمَةٌ خامِسَةٌ.
والتَّرْكُ: حَقِيقَتُهُ تَخْلِيفُ شَيءٍ والتَّخَلِّي عَنْهُ. وهو هَنا مُرادٌ بِهِ الدَّوامُ عَلى وجْهِ المَجازِ المُرْسَلِ أوِ الِاسْتِعارَةِ؛ لِأنَّ شَأْنَ النِّعَمِ في الدُّنْيا أنَّها مَتاعٌ زائِلٌ بَعْدُ، طالَ مَكْثُها أوْ قَصُرَ، فَكَأنَّ زَوالَها اسْتِرْجاعٌ مِن مُعْطِيها كَما جاءَ في الحَدِيثِ «لِلَّهِ ما أخَذَ ولَهُ ما أعْطى» فَشَرَّفَ اللَّهُ نُوحًا بِأنْ أبْقى نِعَمَهُ عَلَيْهِ في أُمَمٍ بَعْدَهُ.
وظاهِرُ ”الآخِرِينَ“ أنَّها باقِيَةٌ في جَمِيعِ الأُمَمِ إلى انْقِضاءِ العالَمِ، وقَرِينَةُ المَجازِ تَعْلِيقُ ”عَلَيْهِ“ بِ ”تَرَكْنا“ لِأنَّهُ يُناسِبُ الإبْقاءَ، يُقالُ: أبْقى عَلى كَذا، أيْ حافَظَ عَلَيْهِ لِيَبْقى ولا يَنْدَثِرَ، وعَلى هَذا يَكُونُ لِ ”تَرَكْنا“ مَفْعُولٌ، وبَعْضُهم قَدَّرَ لَهُ مَفْعُولًا يَدُلُّ عَلَيْهِ المَقامُ، أيْ تَرَكْنا ثَناءًا عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهَذا الإبْقاءِ تَعْمِيرُهُ ألْفَ سَنَةٍ، فَهو إبْقاءُ أقْصى ما يُمْكِنُ إبْقاءُ الحَيِّ إلَيْهِ فَوْقَ ما هو مُتَعارَفٌ.
ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بَقاءُ حُسْنِ ذِكْرِهِ بَيْنَ الأُمَمِ كَما قالَ إبْراهِيمُ ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤] فَكانَ نُوحٌ مَذْكُورًا بِمَحامِدِ الخِصالِ حَتّى قِيلَ: لا تَجْهَلُ أُمَّةٌ مِن أُمَمِ الأرْضِ نُوحًا وفَضْلَهُ وتَمْجِيدَهُ، وإنِ اخْتَلَفَتِ الأسْماءُ الَّتِي يُسَمُّونَهُ بِها بِاخْتِلافِ لُغاتِهِمْ. فَجاءَ في سِفْرِ التَّكْوِينِ الإصْحاحِ التّاسِعِ: كانَ نُوحٌ رَجُلًا بارًّا كامِلًا في أجْيالِهِ، وسارَ نُوحٌ مَعَ اللَّهِ.
ووَرَدَ ذِكْرُهُ قَبْلَ الإسْلامِ في قَوْلِ النّابِغَةِ:
؎فَألْفَيْتَ الأمانَةَ لَمْ تَخُنْها كَذَلِكَ كانَ نُوحٌ لا يَخُونُ
وذِكْرُهُ لِبَنِي إسْرائِيلَ في مَعْرِضِ الِاقْتِداءِ بِهِ في قَوْلِهِ ﴿ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣] .
(p-١٣٣)وذَكَرَ ابْنُ خَلْدُونَ: أنَّ بَعْضَهم يَزْعُمُ أنَّ نُوحًا هو (أفْرِيدُونْ) مَلِكُ بِلادِ الفُرْسِ، وبَعْضَهم يَزْعُمُ أنَّ نُوحًا هو (أُوشْهَنْكُ) مَلِكُ الفُرْسِ الَّذِي كانَ بَعْدَ (كُيُومَرْثَ) بِمِائَتَيْ سَنَةٍ، وهو يُوافِقُ أنَّ نُوحًا كانَ بَعْدَ آدَمَ وهو كُيُومَرْثُ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ حَسَبَ كُتُبِ الإسْرائِيلِيِّينَ. عَلى أنَّ كُيُومَرْثَ يُقالُ: إنَّهُ آدَمَ كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
ومُتَعَلَّقُ ”عَلَيْهِ“ مِن قَوْلِهِ ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ﴾ لَمْ يَحُمْ أحَدٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ حَوْلَهُ فِيما اطَّلَعْتُ، والوَجْهُ أنْ يَتَعَلَّقَ ”عَلَيْهِ“ بِفِعْلِ ”تَرَكْنا“ بِتَضْمِينِ هَذا الفِعْلِ مَعْنى أنْعَمْنا، فَكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُعَدّى هَذا الفِعْلُ بِاللّامِ، فَلَمّا ضُمِّنَ مَعْنى أنْعَمْنا أفادَ بِمادَّتِهِ مَعْنى الإبْقاءِ لَهُ، أيْ إعْطاءِ شَيءٍ مِنَ الفَضائِلِ المُدَّخَرَةِ الَّتِي يُشْبِهُ إعْطاؤُها تَرْكَ أحَدٍ مَتاعًا نَفِيسًا لِمَن يُخَلِّيهِ هو لَهُ ويَخْلُفُهُ فِيهِ. وأفادَ بِتَعْلِيقِ حَرْفِ (عَلى) بِهِ أنَّ هَذا التَّرْكَ مِن قَبِيلِ الإنْعامِ والتَّفْضِيلِ، وكَذَلِكَ شَأْنُ التَّضْمِينِ أنْ يُفِيدَ المُضَمَّنُ مُفادَ كَلِمَتَيْنِ فَهو مِن ألْطَفِ الإيجازِ.
ثُمَّ إنَّ مَفْعُولَ ”تَرَكْنا“ لَمّا كانَ مَحْذُوفًا، وكانَ فِعْلُ (أنْعَمْنا) الَّذِي ضُمِّنَهُ فِعْلُ ”تَرَكْنا“ مِمّا يَحْتاجُ إلى مُتَعَلِّقِ مَعْنى المَفْعُولِ، كانَ مَحْذُوفًا أيْضًا مَعَ عامِلِهِ فَكانَ التَّقْدِيرُ: وتَرَكْنا لَهُ ثَناءًا وأنْعَمْنا عَلَيْهِ، فَحَصَلَ في قَوْلِهِ ”تَرَكْنا عَلَيْهِ“ حَذْفُ خَمْسِ كَلِماتٍ وهو إيجازٌ بَدِيعٌ.
ولِذَلِكَ قَدَّرَ جُمْهُورُ المُتَقَدِّمِينَ مِنَ المُفَسِّرِينَ ”وتَرَكْنا“ ثَناءًا حَسَنًا عَلَيْهِ.
وجُمْلَةُ ﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ في العالَمِينَ﴾ إنْشاءُ ثَناءِ اللَّهِ عَلى نُوحٍ وتَحِيَّةٌ لَهُ، ومَعْناهُ لازِمُ التَّحِيَّةِ وهو الرِّضى والتَّقْرِيبُ، وهو نِعْمَةٌ سادِسَةٌ. وتَنْوِينُ سَلامٍ لِلتَّعْظِيمِ، ولِذَلِكَ شاعَ الِابْتِداءُ بِالنَّكِرَةِ لِأنَّها كالمَوْصُوفِ.
والمُرادُ بِالعالَمِينَ: الأُمَمُ والقُرُونُ، وهو كِنايَةٌ عَنْ دَوامِ السَّلامِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ١٥] في حَقِّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وكَقَوْلِهِ ”﴿سَلامٌ عَلى آلِ ياسِينَ﴾ [الصافات: ١٣٠]“ ”﴿سَلامٌ عَلى إبْراهِيمَ﴾ [الصافات: ١٠٩]“ .
و”في العالَمِينَ“ حالٌ فَهو ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ أوْ خَبَرٌ ثانٍ عَنْ ”سَلامٌ“ .
وذَهَبَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ والمُبَرِّدُ والزَّمَخْشَرِيُّ إلى أنَّ قَوْلَهُ ﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ في (p-١٣٤)العالَمِينَ﴾ في مَحَلِّ مَفْعُولِ ”تَرَكْنا“، أيْ تَرَكْنا عَلَيْهِ هَذِهِ الكَلِمَةَ وهي ﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ في العالَمِينَ﴾ وهو مِنَ الكَلامِ الَّذِي قُصِدَتْ حِكايَتُهُ كَما تَقُولُ: قَرَأْتُ ﴿سُورَةٌ أنْزَلْناها وفَرَضْناها﴾ [النور: ١]، أيْ جَعَلْنا النّاسَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ في جَمِيعِ الأجْيالِ، فَما ذَكَرُوهُ إلّا قالُوا: عَلَيْهِ السَّلامُ. ومِثْلُ ذَلِكَ قالُوا في نَظائِرِها في هَذِهِ الآياتِ المُتَعاقِبَةِ.
وزِيدَ في سَلامِ نُوحٍ في هَذِهِ السُّورَةِ وصْفُهُ بِأنَّهُ في العالَمِينَ دُونَ السَّلامِ عَلى غَيْرِهِ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ ومُوسى وهارُونَ وإلْياسَ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ التَّنْوِيهَ بِنُوحٍ كانَ سائِرًا في جَمِيعِ الأُمَمِ لِأنَّهم كُلَّهم يَنْتَمُونَ إلَيْهِ ويَذْكُرُونَهُ ذِكْرَ صِدْقٍ كَما قَدَّمْناهُ آنِفًا.
وجُمْلَةُ ﴿إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ تَذْيِيلٌ لِما سَبَقَ مِن كَرامَةِ اللَّهِ نُوحًا. و(إنَّ) تُفِيدُ تَعْلِيلًا لِمُجازاةِ اللَّهِ نُوحًا بِما عَدَّهُ مِنَ النِّعَمِ لِأنَّهُ كانَ مُحْسِنًا، أيْ مُتَخَلِّقًا بِالإحْسانِ وهو الإيمانُ الخالِصُ المُفَسَّرُ في قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «الإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ»، وأيُّ دَلِيلٍ عَلى إحْسانِهِ أجْلى مِن مُصابَرَتِهِ في الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ والتَّقْوى وما نالَهُ مِنَ الأذى مِن قَوْمِهِ طُولَ مُدَّةِ دَعْوَتِهِ.
والمَعْنى: إنّا مِثْلَ ذَلِكَ الجَزاءِ نَجْزِي المُحْسِنِينَ. وفي هَذا تَنْوِيهٌ بِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأنَّ جَزاءَهُ كانَ هو المِثالَ والإمامَ لِجَزاءِ المُحْسِنِينَ عَلى مَراتِبِ إحْسانِهِمْ وتَفاوُتِ تَقارُبِها مِن إحْسانِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وقُوَّتِهِ في تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ. فَهو أوَّلُ مَن أُوذِيَ في اللَّهِ فَسَنَّ الجَزاءَ لِمَن أُوذِيَ في اللَّهِ، وكانَ عَلى قالَبِ جَزائِهِ، فَلَعَلَّهُ أنْ يَكُونَ لَهُ كِفْلٌ مِن كُلِّ جَزاءٍ يُجْزاهُ أحَدٌ عَلى صَبْرِهِ إذا أُوذِيَ في اللَّهِ، فَثَبَتَ لِنُوحٍ بِهَذا وصْفُ الإحْسانِ، وهو النِّعْمَةُ السّابِعَةُ. وثَبَتَ لَهُ أنَّهُ مَثَلٌ لِلْمُحْسِنِينَ في جَزائِهِمْ عَلى إحْسانِهِمْ، وهي النِّعْمَةُ الثّامِنَةُ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾ تَعْلِيلٌ لِاسْتِحْقاقِهِ المُجازَةَ المَوْصُوفَةَ بِقَوْلِهِ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ فاخْتَلَفَ مَعْلُولُ هَذِهِ العِلَّةِ ومَعْلُولُ العِلَّةِ الَّتِي قَبْلَها.
وأفادَ وصْفُهُ بِ ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا﴾ أنَّهُ مِمَّنِ اسْتَحَقَّ هَذا الوَصْفَ، وقَدْ عَلِمْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ أنَّ وصْفَ (عَبْدٍ) إذا أُضِيفَ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ أشْعَرَ بِالتَّقْرِيبِ ورَفْعِ (p-١٣٥)الدَّرَجَةِ، اقْتَصَرَ عَلى وصْفِ العِبادِ بِالمُؤْمِنِينَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الإيمانِ لِيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانًا ويُقْلِعَ المُشْرِكُونَ عَنِ الشِّرْكِ. وهَذِهِ نِعْمَةٌ تاسِعَةٌ.
وأُقْحِمَ مَعَها ”مِن عِبادِنا“ لِتَشْرِيفِهِ بِتِلْكَ الإضافَةِ، عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ آنِفًا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ٤٠]، وهَذِهِ نِعْمَةٌ عاشِرَةٌ، وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى عَظِيمِ قَدْرِ الإيمانِ.
وفِي هَذِهِ القِصَّةِ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِما حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ وجَعْلُ نُوحٍ قُدْوَةً لَهُ، وإيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَما نَصَرَ نُوحًا عَلى قَوْمِهِ ويُنْجِيهِ مِن أذاهم، وتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ المُؤْمِنِينَ.
و(ثُمَّ) الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ أغْرَقْنا الآخَرِينَ﴾ لِلتَّرْتِيبِ والتَّراخِي الرَّتْبِيَّيْنِ لِأنَّ بَعْضَ ما ذُكِرَ قَبْلَها في الكَلامِ هو مِمّا حَصَلَ بَعْدَ مَضْمُونِ جُمْلَتِها في نَفْسِ الأمْرِ كَما هو بَيِّنٌ، ومَعْنى التَّراخِي الرَّتْبِيِّ هُنا أنَّ إغْراقَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ مَعَ نَجاتِهِ ونَجاةِ أهْلِهِ، أعْظَمُ رُتْبَةً في الِانْتِصارِ لَهُ والدَّلالَةِ عَلى وجاهَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وعَلى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى ولُطْفِهِ.
ومَعْنى ”الآخَرِينَ“ مَن عَداهُ وعَدا أهْلَهَ، أيْ بَقِيَّةُ قَوْمِهِ، وفي التَّعْبِيرِ عَنْهم بِالآخَرِينَ ضَرْبٌ مِنَ الِاحْتِقارِ. ومِمّا في الحَدِيثِ أنَّهُ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: إنَّ الآخَرَ قَدْ زَنى، يَعْنِي نَفْسَهَ عَلى رِوايَةِ الآخَرِ بِمَدِّ الهَمْزَةِ وهي إحْدى رِوايَتَيْنِ في الحَدِيثِ.
وتَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ وقِصَّتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا﴾ [آل عمران: ٣٣] في آلِ عِمْرانَ، وفي الأعْرافِ، وفي سُورَةِ هُودٍ، وذِكْرُ سَفِينَتِهِ في أوَّلِ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ.
* * *
”﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإبْراهِيمَ﴾ ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿أإفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ ﴿فَما ظَنُّكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾“ تَخَلَّصَ إلى حِكايَةِ مَوْقِفِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن قَوْمِهِ في دَعْوَتِهِمْ إلى التَّوْحِيدِ (p-١٣٦)وما لاقاهُ مِنهم وكَيْفَ أيَّدَهُ اللَّهُ ونَجّاهُ مِنهم، وقَعَ هَذا التَّخَلُّصُ إلَيْهِ بِوَصْفِهِ مِن شِيعَةِ نُوحٍ لِيُفِيدَ بِهَذا الأُسْلُوبِ الواحِدِ تَأْكِيدَ الثَّناءِ عَلى نُوحٍ وابْتِداءَ الثَّناءِ عَلى إبْراهِيمَ وتَخْلِيدَ مَنقَبَةٍ لِنُوحٍ أنْ كانَ إبْراهِيمُ الرَّسُولُ العَظِيمُ مِن شِيعَتِهِ وناهِيكَ بِهِ.
وكَذَلِكَ جَمَعَ مَحامِدَ لِ إبْراهِيمَ في كَلِمَةِ كَوْنِهِ مِن شِيعَةِ نُوحٍ المُقْتَضِي مُشارَكَتَهُ لَهُ في صِفاتِهِ كَما سَيَأْتِي، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣] .
والشِّيعَةُ: اسْمٌ لِمَن يُناصِرُ الرَّجُلَ وأتْباعَهُ ويَتَعَصَّبُ لَهُ، فَيَقَعُ لَفْظُ شِيعَةٍ عَلى الواحِدِ والجَمْعِ.
وقَدْ يُجْمَعُ عَلى شِيَعٍ وأشْياعٍ إذا أُرِيدَ جَماعاتٌ، كُلُّ جَماعَةٍ هي شِيعَةٌ لِأحَدٍ.
وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في شِيَعِ الأوَّلِينَ﴾ [الحجر: ١٠] في سُورَةِ الحِجْرِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وجَعَلَ أهْلَها شِيَعًا﴾ [القصص: ٤] في سُورَةِ القَصَصِ.
وكانَ إبْراهِيمُ مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وكانَ دِينُهُ مُوافِقًا لِدِينِ نُوحٍ في أصْلِهِ وهو نَبْذُ الشِّرْكِ.
وجَعَلَ إبْراهِيمَ مِن شِيعَةِ نُوحٍ لِأنَّ نُوحًا قَدْ جاءَتْ رُسُلٌ عَلى دِينِهِ قَبْلَ إبْراهِيمَ، مِنهم هُودٌ وصالِحٌ فَقَدْ كانا قَبْلَ إبْراهِيمَ لِأنَّ القُرْآنَ ذَكَرَهُما غَيْرَ مَرَّةٍ عَقِبَ ذِكْرِ نُوحٍ وقَبْلَ ذِكْرِ لُوطٍ مُعاصِرِ إبْراهِيمَ. ولِقَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ: ”﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [الأعراف: ٦٩]“، ولِقَوْلِ صالِحٍ لِقَوْمِهِ: ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ عادٍ﴾ [الأعراف: ٧٤]، وقَوْلِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: ﴿ويا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكم شِقاقِي أنْ يُصِيبَكم مِثْلُ ما أصابَ قَوْمَ نُوحٍ أوْ قَوْمَ هُودٍ أوْ قَوْمَ صالِحٍ وما قَوْمُ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ﴾ [هود: ٨٩] . فَجَعَلَ قَوْمَ لُوطٍ أقْرَبَ زَمَنًا لِقَوْمِهِ دُونَ قَوْمِ هُودٍ وقَوْمِ صالِحٍ. وكانَ لُوطٌ مُعاصِرَ إبْراهِيمَ، فَهَؤُلاءِ كُلُّهم شِيعَةٌ لِنُوحٍ، وإبْراهِيمُ مِن تِلْكَ الشِّيعَةِ، وهَذِهِ نِعْمَةٌ حادِيَةَ عَشْرَةَ.
وتَوْكِيدُ الخَبَرِ ”بِإنَّ“ ولامِ الِابْتِداءِ لِلرَّدِّ عَلى المُشْرِكِينَ لِأنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّهم عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٣٥] .
و(إذْ) ظَرْفٌ لِلْماضِي وهو مُتَعَلِّقٌ بِالكَوْنِ المُقَدَّرِ لِلْجارِّ والمَجْرُورِ الواقِعَيْنِ خَبَرًا عَنْ (إنَّ) في قَوْلِهِ ﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإبْراهِيمَ﴾، أوْ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ شِيعَةٍ لِما فِيهِ مِن (p-١٣٧)مَعْنى المُشايَعَةِ والمُتابَعَةِ، أيْ كانَ مِن شِيعَتِهِ حِينَ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ كَما جاءَ نُوحٌ، فَلِذَلِكَ وقَتُ كَوْنِهِ مِن شِيعَتِهِ، أيْ لِأنَّ نُوحًا جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وفي (إذْ) مَعْنى التَّعْلِيلِ لِكَوْنِهِ مِن شِيعَتِهِ، فَإنَّ مَعْنى التَّعْلِيلِ كَثِيرُ العُرُوضِ لِ (إذْ) كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أنَّكم في العَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف: ٣٩]، وهَذِهِ نِعْمَةٌ عَلى نُوحٍ وهي ثانِيَةَ عَشْرَةَ.
والباءُ في ”﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾“ لِلْمُصاحَبَةِ، أيْ جاءَ مَعَهُ قَلَبٌ صِفَتُهُ السَّلامَةُ، فَيُئَوَّلُ إلى مَعْنى: إذْ جاءَ رَبَّهُ بِسَلامَةِ قَلْبٍ، وإنَّما ذُكِرَ القَلْبُ ابْتِداءً ثُمَّ وُصِفَ بِـ ”سَلِيمٍ“ لِما في ذِكْرِ القَلْبِ مِن إحْضارِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ القَلْبِ النَّزِيهِ، ولِذَلِكَ أُوثِرَ تَنْكِيرُ ”قَلْبٍ“ دُونَ تَعْرِيفٍ.
و”سَلِيمٍ“: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السَّلامَةِ وهي الخَلاصُ مِنَ العِلَلِ والأدْواءِ؛ لِأنَّهُ لَمّا ذُكِرَ القَلْبُ ظَهَرَ أنَّ السَّلامَةَ سَلامَتُهُ مِمّا تُصابُ بِهِ القُلُوبُ مِن أدْوائِها، فَلا جائِزَ أنْ تَعْنِيَ الأدْواءَ الجَسَدِيَّةَ لِأنَّهم ما كانُوا يُرِيدُونَ بِالقَلْبِ إلّا مَقَرَّ الإدْراكِ والأخْلاقِ. فَتَعَيَّنَ أنَّ المُرادَ: صاحِبُ القَلْبِ مَعَ نَفْسِهِ بِمِثْلِ طاعَةِ الهَوى والعَجَبِ والغُرُورِ، ومَعَ النّاسِ بِمِثْلِ الكِبْرِ والحِقْدِ والحَسَدِ والرِّياءِ والِاسْتِخْفافِ.
وأطْلَقَ المَجِيءَ عَلى مُعامَلَتِهِ بِهِ في نَفْسِهِ بِما يُرْضِي رَبَّهُ عَلى وجْهِ التَّمْثِيلِ بِحالِ مَن يَجِيءُ أحَدًا مُلْقِيًا إلَيْهِ ما طَلَبَهُ مِن سِلاحٍ أوْ تُحَفٍ أوْ ألْطافٍ، فَإنَّ اللَّهَ أمَرَهُ بِتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ فامْتَثَلَ، فَأشْبَهَ حالَ مَن دَعاهُ فَجاءَهُ. وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٣١] .
وقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ جَوامِعَ كَمالِ النَّفْسِ وهي مَصْدَرُ مَحامِدِ الأعْمالِ. وفي الحَدِيثِ «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلْبُ» .
وقَدْ حُكِيَ عَنْ إبْراهِيمَ قَوْلُهُ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٨]، فَكانَ عِمادُ مِلَّةِ إبْراهِيمَ هو المُتَفَرِّعَ عَنْ قَوْلِهِ ”﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾“ وذَلِكَ جِماعُ مَكارِمِ الأخْلاقِ؛ ولِذَلِكَ وصَفَ إبْراهِيمَ بِقَوْلِهِ تَعالى ”﴿إنَّ إبْراهِيمَ لِحَلِيمٌ أواهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: ٧٥]“، فَكانَ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ واعْتِقادٍ باطِلٍ.
(p-١٣٨)ثُمَّ إنَّ مَكارِمَ الأخْلاقِ قابِلَةٌ لِلِازْدِيادِ فَكانَ حَظُّ إبْراهِيمَ مِنها حَظًّا كامِلًا لَعَلَّهُ أكْمَلُ مِن حَظِّ نُوحٍ بُناءًا عَلى أنَّ إبْراهِيمَ أفْضَلُ الرُّسُلِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ﷺ وادَّخَرَ اللَّهُ مُنْتَهى كَمالِها لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلِذَلِكَ قالَ: «إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ»، ولِذَلِكَ أيْضًا وُصِفَتْ مِلَّةُ إبْراهِيمَ بِالحَنِيفِيَّةِ ووُصِفَ الإسْلامُ بِزِيادَةِ ذَلِكَ في قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» .
وتَعْلِيقُ كَوْنِهِ مِن شِيعَةِ نُوحٍ بِهَذا الحِينِ المُضافِ إلى تِلْكَ الحالَةِ كِنايَةٌ عَنْ وصْفِ نُوحٍ بِسَلامَةِ القَلْبِ، أيْضًا يَحْصُلُ مِن قَوْلِهِ ﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإبْراهِيمَ﴾ إثْباتُ مِثْلِ صِفاتِ نُوحٍ لِإبْراهِيمَ ومِن قَوْلِهِ ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ إثْباتُ صِفَةٍ مِثْلِ صِفَةِ إبْراهِيمَ لِنُوحٍ عَلى طَرِيقِ الكِنايَةِ في الإثْباتَيْنِ، إلّا أنَّ ذَلِكَ أُثْبِتَ لِإبْراهِيمَ بِالصَّرِيحِ ويَثْبُتُ لِنُوحٍ بِاللُّزُومِ فَيَكُونُ أضْعَفَ فِيهِ مِن إبْراهِيمَ.
و”﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ﴾“ بَدَلٌ مِن ”﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾“ بَدَلَ اشْتِمالٍ، فَإنَّ قَوْلَهُ هَذا لَمّا نَشَأ عَنِ امْتِلاءِ قَلْبِهِ بِالتَّوْحِيدِ والغَضَبِ لِلَّهِ عَلى المُشْرِكِينَ كانَ كالشَّيءِ المُشْتَمِلِ عَلَيْهِ قَلْبُهُ السَّلِيمُ فَصَدَرَ عَنْهُ.
و﴿ماذا تَعْبُدُونَ﴾ اسْتِفْهامٌ إنْكارِيٌّ عَلى أنْ تَعْبُدُوا ما يَعْبُدُونَهُ؛ ولِذَلِكَ أتْبَعَهُ بِاسْتِفْهامٍ آخَرَ إنْكارِيٍّ وهو ”﴿أئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾“ . وهَذا الَّذِي اقْتَضى الإتْيانَ بِاسْمِ الإشارَةِ بَعْدَ (ما) الِاسْتِفْهامِيَّةِ الَّذِي هو مُشْرَبٌ مَعْنى المَوْصُولِ المُشارِ إلَيْهِ، فاقْتَضى أنَّ ما يَعْبُدُونَهُ مُشاهَدٌ لِإبْراهِيمَ فانْصَرَفَ الِاسْتِفْهامُ بِذَلِكَ إلى مَعْنًى دُونَ الحَقِيقِيِّ وهو مَعْنى الإنْكارِ، بِخِلافِ قَوْلِهِ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ﴾ [الشعراء: ٧٠] في سُورَةِ الشُّعَراءِ، فَإنَّهُ اسْتِفْهامٌ عَلى مَعْبُوداتِهِمْ، ولِذَلِكَ أجابُوا عَنْهُ ﴿قالُوا نَعْبُدُ أصْنامًا فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ﴾ [الشعراء: ٧١]، وإنَّما أرادَ بِالِاسْتِفْهامِ هُنالِكَ التَّمْهِيدَ إلى المُحاجَّةِ، فَصَوَّرَهُ في صُورَةِ الِاسْتِفْهامِ لِسَماعِ جَوابِهِمْ فَيَنْتَقِلُ إلى إبْطالِهِ، كَما هو ظاهِرٌ مِن تَرْتِيبِ حِجاجِهِ هُنالِكَ، فَذَلِكَ حِكايَةٌ لِقَوْلِ إبْراهِيمَ في ابْتِداءِ دَعْوَتِهِ قَوْمَهُ، وأمّا ما هُنا فَحِكايَةٌ لِبَعْضِ أقْوالِهِ في إعادَةِ الدَّعْوَةِ وتَأْكِيدِها.
وجُمْلَةُ ﴿أئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ بَيانٌ لِجُمْلَةِ ”ماذا تَعْبُدُونَ“ بَيَّنَ بِهِ مَصَبَّ الإنْكارِ في قَوْلِهِ ”ماذا تَعْبُدُونَ“ وإيضاحَهُ، أيْ كَيْفَ تُرِيدُونَ آلِهَةً إفْكًا.
(p-١٣٩)وإرادَةُ الشَّيْءِ: ابْتِغاؤُهُ والعَزْمُ عَلى حُصُولِهِ، وحَقُّ فِعْلِها أنْ يَتَعَدّى إلى المَعانِي، قالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ:
تُرِيدِينَ قَتْلِي قَدْ ظَفِرْتِ بِذَلِكَ فَإذا عُدِّيَ إلى الذَّواتِ كانَ عَلى مَعْنى يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الذَّواتِ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ شاسٍ الأسَدِيِّ:
؎أرادَتْ عِرارًا بِالهَوانِ ومَن يُرِدْ ∗∗∗ عِرارًا لَعَمْرِي بِالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمَ
فَلِذَلِكَ كانَتْ تَعْدِيَةُ فِعْلِ ”تُرِيدُونَ“ إلى ”آلِهَةً“ عَلى مَعْنى: تُرِيدُونَها بِالعِبادَةِ أوْ بِالتَّأْلِيهِ، فَكانَ مَعْنى ”آلِهَةً“ دَلِيلًا عَلى جانِبِ إرادَتِها.
فانْتَصَبَ ”آلِهَةً“ عَلى المَفْعُولِ بِهِ، وقَدَّمَ المَفْعُولَ عَلى الفِعْلِ لِلِاهْتِمامِ بِهِ ولِأنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلى جِهَةِ تَجاوُزِ مَعْنى الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ.
وانْتَصَبَ ”إفْكًا“ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ ”تُرِيدُونَ“ أيْ آفِكِينَ. والإفْكُ: الكَذِبُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن آلِهَةٍ، أيْ آلِهَةٍ مَكْذُوبَةٍ، أيْ مَكْذُوبٌ تَأْلِيهُها.
والوَصْفُ بِالمَصْدَرِ صالِحٌ لِاعْتِبارِ مَعْنى الفاعِلِ أوْ مَعْنى المَفْعُولِ.
وقُدِّمَتِ الحالُ عَلى صاحِبِها لِلِاهْتِمامِ بِالتَّعْجِيلِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ كَذِبِهِمْ وضَلالِهِمْ.
وقَوْلُهُ ”دُونَ اللَّهِ“ أيْ خِلافَ اللَّهِ وغَيْرَهُ، وهَذا صالِحٌ لِاعْتِبارِ قَوْمِهِ عَبَدَةَ أوْثانٍ غَيْرَ مُعْتَرِفِينَ بِإلَهٍ غَيْرِ أصْنامِهِمْ، ولِاعْتِبارِهِمْ مُشْرِكِينَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى مِثْلَ المُشْرِكِينَ مِنَ العَرَبِ؛ لِأنَّ العَرَبَ بَقِيَتْ فِيهِمْ أثارَةٌ مِنَ الحَنِيفِيَّةِ فَلَمْ يَنْسَوْا وصْفَ اللَّهِ بِالإلَهِيَّةِ، وكانَ قَوْمُ إبْراهِيمَ وهُمُ الكِلْدانُ يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ نَظِيرَ ما كانَ عَلَيْهِ اليُونانُ والقِبْطُ.
وفَرَّعَ عَلى اسْتِفْهامِ الإنْكارِ اسْتِفْهامٌ آخَرُ وهو قَوْلُهُ ﴿فَما ظَنُّكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ وهو اسْتِفْهامٌ أُرِيدَ بِهِ الإنْكارُ والتَّوْقِيفُ عَلى الخَطَأِ، وأُرِيدَ بِالظَّنِّ الِاعْتِقادُ الخَطَأُ.
وسُمِّيَ ظَنًّا لِأنَّهُ غَيْرُ مُطابِقٍ لِلْواقِعِ ولَمْ يُسَمِّهِ عِلْمًا لِأنَّ العِلْمَ لا يُطْلَقُ إلّا عَلى (p-١٤٠)الِاعْتِقادِ المُطابِقِ لِلْواقِعِ؛ ولِذَلِكَ عَرَّفُوهُ بِأنَّهُ: ”صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ“ ولا يَنْتَفِي احْتِمالُ النَّقِيضِ إلّا مَتى كانَ مُوافِقًا لِلْواقِعِ.
وكَثُرَ إطْلاقُ الظَّنِّ عَلى التَّصْدِيقِ المُخْطِئِ والجَهْلِ المُرَكَّبِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وإنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: ١١٦] في سُورَةِ الأنْعامِ، وقَوْلِهِ ﴿وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: ٢٨] .
وقَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ «إيّاكم والظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ» .
والمَعْنى: أنَّ اعْتِقادَكم في جانِبِ رَبِّ العالَمِينَ جَهْلٌ مُنْكَرٌ.
وفِعْلُ الظَّنِّ إذا عُدِّيَ بِالباءِ أشْعَرَ غالِبًا بِظَنٍّ غَيْرِ صادِقٍ، قالَ تَعالى: ﴿وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا﴾ [الأحزاب: ١٠] وقالَ: ﴿وذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكُمْ﴾ [فصلت: ٢٣] . ومِنهُ إطْلاقُ الظَّنِينِ عَلى المُتَّهَمِ فَإنَّ أصْلَهُ: ظَنِينٌ بِهِ، فَحُذِفَتِ الباءُ ووُصِلَ الوَصْفُ، وذَلِكَ أنَّهُ إذا عُدِّيَ بِالباءِ فالأكْثَرُ حَذْفُ مَفْعُولِهِ وكانَتِ الباءُ لِلْإلْصاقِ المَجازِيِّ، أيْ ظَنَّ ظَنًّا مُلْصَقًا بِاللَّهِ، أيْ مُدَّعٍ تَعَلُّقَهُ بِاللَّهِ، وإنَّما يُناسِبُ ذَلِكَ ما لَيْسَ لائِقًا بِاللَّهِ.
وتَقَدَّمَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا﴾ [الأحزاب: ١٠] في سُورَةِ الأحْزابِ.
والمَعْنى: فَما ظَنُّكُمُ السَّيِّئُ بِاللَّهِ، ولَمّا كانَ الظَّنُّ مِن أفْعالِ القَلْبِ فَتَعْدِيَتُهُ إلى اسْمِ الذّاتِ دُونَ إتْباعِ الِاسْمِ بِوَصْفٍ مُتَعَيِّنَةٌ لِتَقْدِيرِ وصْفٍ مُناسِبٍ. وقَدْ حُذِفَ المُتَعَلِّقُ هُنا لِقَصْدِ التَّوَسُّعِ في تَقْدِيرِ المَحْذُوفِ بِكُلِّ احْتِمالٍ مُناسِبٍ تَكْثِيرًا لِلْمَعانِي، فَيَجُوزُ أنْ تُعْتَبَرَ مِن ذاتِ رَبِّ العالَمِينَ أوْصافُهُ. ويَجُوزُ أنْ يُعْتَبَرَ مِنها الكُنْهُ والحَقِيقَةُ، فاعْتِبارُ الوَصْفِ عَلى وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما المَعْنى المُشْتَقُّ مِنهُ الرَّبُّ وهو الرُّبُوبِيَّةُ وهي تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إلى كَمالِهِ تَدْرِيجًا ورِفْقًا، فَإنَّ المَخْلُوقَ مُحْتاجٌ إلى البَقاءِ والإمْدادِ وذَلِكَ يُوجِبُ أنْ يَشْكُرَ المُمَدُّ فَلا يَصُدُّ عَنْ عِبادَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَما ظَنُّكم أنَّ لَهُ شُرَكاءَ وهو المُنْفَرِدُ بِاسْتِحْقاقِ الشُّكْرِ المُتَمَثِّلِ في العِبادَةِ لِأنَّهُ الَّذِي أمَدَّكم بِإنْعامِهِ.
وثانِيهِما: أنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ مَعْنى المالِكِيَّةِ وهي أحَدُ مَعْنَيَيِ الرَّبِّ وهو مُسْتَلْزِمٌ لِمَعْنى (p-١٤١)القَهْرِ والقُدْرَةِ عَلى المَمْلُوكِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَما ظَنُّكم ماذا يَفْعَلُ بِكم مِن عِقابٍ عَلى كُفْرانِهِ وهو مالِكُكم ومالِكُ العالَمِينَ.
وأمّا جَوازُ اعْتِبارِ حَقِيقَةِ رَبِّ العالَمِينَ وكُنْهِهِ، فالتَّقْدِيرُ فِيهِ: فَما ظَنُّكم بِكُنْهِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإنَّكم جاهِلُونَ الصِّفاتِ الَّتِي تَقْتَضِيها وفي مُقَدِّمَتِها الوَحْدانِيَّةُ.
{"ayahs_start":75,"ayahs":["وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحࣱ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِیبُونَ","وَنَجَّیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِیمِ","وَجَعَلۡنَا ذُرِّیَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِینَ","وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِ فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ","سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحࣲ فِی ٱلۡعَـٰلَمِینَ","إِنَّا كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ","إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ","ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡـَٔاخَرِینَ","۞ وَإِنَّ مِن شِیعَتِهِۦ لَإِبۡرَ ٰهِیمَ","إِذۡ جَاۤءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبࣲ سَلِیمٍ","إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ","أَىِٕفۡكًا ءَالِهَةࣰ دُونَ ٱللَّهِ تُرِیدُونَ","فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق