الباحث القرآني
﴿كَذَّبَ أصْحابُ لَيْكَةَ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ قالَ لَهم شُعَيْبٌ ألا تَتَّقُونَ﴾ ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ .
اسْتِئْنافُ تَعْدادٍ وتَكْرارٍ كَما تَقَدَّمَ في جُمْلَةِ (﴿كَذَّبَتْ عادٌ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٢٣]) . ولَمْ يَقْرِنْ فِعْلَ (كَذَّبَ) هَذا بِعَلامَةِ التَّأْنِيثِ؛ لِأنَّ (أصْحابَ) جَمْعُ صاحِبٍ وهو مُذَكَّرٌ مَعْنًى ولَفْظًا بِخِلافِ قَوْلِهِ: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾ [الشعراء: ١٦٠] فَإنَّ (قَوْمَ) في مَعْنى الجَماعَةِ والأُمَّةِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: (﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٥]) .
وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ (لَيْكَةَ) بِلامٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَها ياءٌ تَحْتِيَّةٌ ساكِنَةٌ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ لِلْعِلْمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ. وقَرَأهُ الباقُونَ (الأيْكَةِ) بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وبِجَرِّ آخِرِهِ عَلى أنَّهُ تَعْرِيفُ عَهْدٍ لِأيْكَةٍ مَعْرُوفَةٍ. والأيْكَةُ: الشَّجَرُ المُلْتَفُّ وهي الغَيْضَةُ. وعَنْ أبِي عُبَيْدٍ: رَأيْتُها في الإمامِ مُصْحَفِ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الحِجْرِ وق (الأيْكَةِ) وفي الشُّعَراءِ وص (لَيْكَةَ) واجْتَمَعَتْ مَصاحِفُ الأمْصارِ كُلُّها بَعْدَ ذَلِكَ ولَمْ تَخْتَلِفْ.
وأصْحابُ لَيْكَةَ: هم قَوْمُ شُعَيْبٍ أوْ قَبِيلَةٌ مِنهم. قالُوا: وكانَتْ غِيضَتُهم مِن شَجَرِ المُقْلِ بِضَمِّ المِيمِ وسُكُونِ القافِ وهو النَّبْقُ ويُقالُ لَهُ الدَّوْمُ بِفَتْحِ الدّالِّ المُهْمَلَةِ وسُكُونِ الواوِ.
ولِإفْرادِها بِتاءِ الوَحْدَةِ عَلى إرادَةِ البُقْعَةِ واسْمُ الجَمْعِ: أيْكٌ، واشْتَهَرَتْ بِالأيْكَةِ فَصارَتْ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ مُعَرَّفًا بِاللّامِ مِثْلُ العَقَبَةِ. ثُمَّ وقَعَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِيَكُونَ عَلَمًا شَخْصِيًّا فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ وأُلْقِيَتْ حَرَكَتُها عَلى لامِ التَّعْرِيفِ وتُنُوسِيَ مَعْنى التَّعْرِيفِ (p-١٨٣)بِاللّامِ. وعَنِ الزَّجّاجِ جاءَ في التَّفْسِيرِ أنَّ اسْمَ المَدِينَةِ الَّتِي أُرْسِلَ إلَيْها شُعَيْبٌ كانَ لَيْكَةَ. وعَنْ أبِي عُبَيْدٍ: وجَدْنا في بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أنَّ لَيْكَةَ اسْمُ القَرْيَةِ والأيْكَةُ البِلادُ كُلُّها كَمَكَّةَ وبَكَّةَ. وهَذا مِنَ التَّغْيِيرِ لِأجْلِ التَّسْمِيَةِ، كَما سَمَّوْا شُمْسًا بِضَمِّ الشِّينِ لِيَكُونَ عَلَمًا، وأصْلُهُ الشَّمْسُ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ. والتَّغْيِيرُ لِأجْلِ النَّقْلِ إلى العِلْمِيَّةِ وارِدٌ بِكَثْرَةٍ ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الحَماسَةِ عِنْدَ قَوْلِ تَأبَّطَ شَرًّا:
؎إنِّي لَمُهْدٍ مِن ثَنائِي فَقاصِدٌ بِـهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مالِكٍ
وذَكَرَهُ في الكَشّافِ في سُورَةِ أبِي لَهَبٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ عِنْدَ الكَلامِ عَلى البَسْمَلَةِ قَبْلَ سُورَةِ الفاتِحَةِ، فَلَمّا صارَ اسْمُ لَيْكَةَ عَلَمًا عَلى البِلادِ جازَ مَنعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِذَلِكَ، ولَيْسَ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ نَقْلِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ عَلى اللّامِ كَما تَوَهَّمَهُ النَّحّاسُ ولا لِأنَّ القِراءَةَ اغْتِرارٌ بِخَطِّ المُصْحَفِ كَما تَعَسَّفَهُ صاحِبُ الكَشّافِ عَلى عادَتِهِ في الِاسْتِخْفافِ بِتَوْهِيمِ القُرّاءِ وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ الِاعْتِمادَ في القِراءاتِ عَلى الرِّوايَةِ قَبْلَ نَسْخِ المَصاحِفِ كَما بَيَّنّاهُ في المُقَدِّمَةِ السّادِسَةِ مِن مُقَدِّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ فَلا تَتَّبِعُوا الأوْهامَ المُخْطِئَةَ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في أنَّ أصْحابَ لَيْكَةَ هم مَدْيَنُ أوْ هم قَوْمٌ آخَرُونَ ساكِنُونَ في لَيْكَةَ جِوارِ مَدْيَنَ أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إلَيْهِمْ وإلى أهْلِ مَدْيَنَ. وإلى هَذا مالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ. رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنَ وهْبٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حازِمٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إلى أُمَّتَيْنِ إلى قَوْمِهِ مِن أهْلِ مَدْيَنَ وإلى أصْحابِ الأيْكَةِ. وقالَ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إلى قَوْمِهِ أهْلِ مَدْيَنَ وإلى أهْلِ البادِيَةِ وهم أصْحابُ الأيْكَةِ. وفي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ رَوى الحافِظُ ابْنُ عَساكِرَ في تَرْجَمَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمانَ بْنِ أبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ قَوْمَ مَدْيَنَ وأصْحابَ الأيْكَةِ أُمَّتانِ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِما شُعَيْبًا النَّبِيءَ»، وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذا غَرِيبٌ، وفي رَفْعِهِ نَظَرٌ، والأشْبَهُ أنَّهُ مَوْقُوفٌ. ورَوى ابْنُ جُرَيْحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ أصْحابَ الأيْكَةِ هم أهْلُ مَدْيَنَ. والأظْهَرُ أنَّ أهْلَ الأيْكَةِ قَبِيلَةٌ غَيْرُ مَدْيَنَ، فَإنَّ مَدْيَنَ هم أهْلُ نَسَبِ شُعَيْبٍ وهم ذَرِّيَّةُ مَدْيَنَ بْنِ إبْراهِيمَ مِن زَوْجِهِ قَطُورَةَ سَكَنَ مَدْيَنُ في شَرْقِ بَلَدِ الخَلِيلِ كَما في التَّوْراةِ فاقْتَضى ذَلِكَ أنَّهُ وجَدَهُ بَلَدًا مَأْهُولًا بِقَوْمٍ فَهم إذَنْ أصْحابُ الأيْكَةِ فَبَنى مَدْيَنُ وبَنُوهُ المَدِينَةَ وتَرَكُوا البادِيَةَ لِأهْلِها وهم سُكّانُ الغَيْضَةِ.
(p-١٨٤)والَّذِي يَشْهَدُ لِذَلِكَ ويُرَجِّحُهُ أنَّ القُرْآنَ لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ لِأهْلِ مَدْيَنَ وصَفَ شُعَيْبًا بِأنَّهُ أخُوهم، ولَمّا ذَكَرَها لِأصْحابِ لَيْكَةَ لَمْ يَصِفْ شُعَيْبًا بِأنَّهُ أخُوهم إذْ لَمْ يَكُنْ شُعَيْبٌ نَسِيبًا ولا صِهْرًا لِأصْحابِ لَيْكَةَ، وهَذا إيماءٌ دَقِيقٌ إلى هَذِهِ النُّكْتَةِ. ومِمّا يُرَجِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ الحِجْرِ: ﴿وإنْ كانَ أصْحابُ الأيْكَةِ لِظالِمِينَ﴾ [الحجر: ٧٨] ﴿فانْتَقَمْنا مِنهم وإنَّهُما لَبِإمامٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر: ٧٩]، فَجَعَلَ ضَمِيرَهم مُثَنًّى بِاعْتِبارِ أنَّهم مَجْمُوعُ قَبِيلَتَيْنِ: مَدْيَنَ وأصْحابِ لَيْكَةَ. وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في سُورَةِ الحِجْرِ. وإنَّما تُرْسَلُ الرُّسُلُ مَن أهْلِ المَدائِنِ قالَ تَعالى (﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلّا رِجالًا يُوحى إلَيْهِمْ مِن أهْلِ القُرى﴾ [يوسف: ١٠٩]) وتَكُونُ الرِّسالَةُ شامِلَةً لِمَن حَوْلَ القَرْيَةِ.
وافْتَتَحَ شُعَيْبٌ دَعَوْتَهُ بِمِثْلِ دَعَواتِ الرُّسُلِ مِن قَبْلِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْناهُ.
وشَمَلَ قَوْلُهُ (ألا تَتَّقُونَ) النَّهْيَ عَنِ الإشْراكِ فَقَدْ كانُوا مُشْرِكِينَ كَما في آيَةِ سُورَةِ هُودٍ.
{"ayahs_start":176,"ayahs":["كَذَّبَ أَصۡحَـٰبُ لۡـَٔیۡكَةِ ٱلۡمُرۡسَلِینَ","إِذۡ قَالَ لَهُمۡ شُعَیۡبٌ أَلَا تَتَّقُونَ","إِنِّی لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِینࣱ","فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ","وَمَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"إِنِّی لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق