الباحث القرآني

﴿فَلَمّا جَهَّزَهم بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ ثُمَّ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ أيَّتُها العِيرُ إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ ﴿قالُوا وأقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ﴾ ﴿قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ المَلِكِ ولِمَن جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ﴾ ﴿قالُوا تاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ في الأرْضِ وما كُنّا سارِقِينَ﴾ ﴿قالُوا فَما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ ﴿قالُوا جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهْوَ جَزاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ قَوْلِهِ ﴿فَلَمّا جَهَّزَهم بِجَهازِهِمْ﴾ في الآياتِ قَبْلَ هَذِهِ. وإسْنادُ (جَعَلَ السِّقايَةَ) إلى ضَمِيرِ يُوسُفَ مَجازٌ عَقْلِيٌّ، وإنَّما هو آمِرٌ بِالجَعْلِ والَّذِينَ جَعَلُوا السِّقايَةَ هُمُ العَبِيدُ المُوَكَّلُونَ بِالكَيْلِ. والسِّقايَةُ: إناءٌ كَبِيرٌ يُسْقى بِهِ الماءُ والخَمْرُ. والصُّواعُ: لُغَةٌ في الصّاعِ، وهو وِعاءٌ لِلْكَيْلِ يُقَدَّرُ بِوَزْنِ رِطْلٍ ورُبُعٍ أوْ وثُلُثٍ. وكانُوا يَشْرَبُونَ الخَمْرَ (p-٢٨)بِالمِقْدارِ، يُقَدِّرُ كُلُّ شارِبٍ لِنَفْسِهِ ما اعْتادَ أنَّهُ لا يَصْرَعُهُ، ويَجْعَلُونَ آنِيَةَ الخَمْرِ مُقَدَّرَةً بِمَقادِيرَ مُخْتَلِفَةٍ، فَيَقُولُ الشّارِبُ لِلسّاقِي: رِطْلًا أوْ صاعًا أوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَتَسْمِيَةُ هَذا الإناءِ سِقايَةً وتَسْمِيَتُهُ صُواعًا جارِيَةٌ عَلى ذَلِكَ. وفي التَّوْراةِ سُمِّيَ طاسًا، ووُصِفَ بِأنَّهُ مِن فِضَّةٍ. وتَعْرِيفُ السِّقايَةِ تَعْرِيفُ العَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أيْ سِقايَةٌ مَعْرُوفَةٌ لا يَخْلُو عَنْ مِثْلِها مَجْلِسُ العَظِيمِ. وإضافَةُ الصُّواعِ إلى المَلِكِ لِتَشْرِيفِهِ، وتَهْوِيلِ سَرِقَتِهِ عَلى وجْهِ الحَقِيقَةِ؛ لِأنَّ شُئُونَ الدَّوْلَةِ كُلَّها لِلْمَلِكِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُطْلِقَ المَلِكُ عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَعْظِيمًا لَهُ. والتَّأْذِينُ: النِّداءُ المُكَرَّرُ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٤٤] في سُورَةِ الأعْرافِ. والعِيرُ: اسْمٌ لِلْحَمُولَةِ مِن إبِلٍ وحَمِيرٍ وما عَلَيْها مِن أحْمالٍ وما مَعَها مِن رُكّابِها، فَهو اسْمٌ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الثَّلاثَةِ. وأُسْنِدَتِ السَّرِقَةُ إلى جَمِيعِهِمْ جَرْيًا عَلى المُعْتادِ مِن مُؤاخَذَةِ الجَماعَةِ بِجُرْمِ الواحِدِ مِنهم. وتَأْنِيثُ اسْمِ الإشارَةِ وهو أيَّتُها لِتَأْوِيلِ العِيرِ بِمَعْنى الجَماعَةِ؛ لِأنَّ الرُّكّابَ هُمُ الأهَمُّ. وجُمْلَةُ (قالُوا) جَوابٌ لِنِداءِ المُنادِي إيّاهم ﴿إنَّكم لَسارِقُونَ﴾، فَفُصِلَتِ الجُمْلَةُ لِأنَّها في طَرِيقَةِ المُحاوَرَةِ كَما تَكَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وضَمِيرُ (قالُوا) عائِدٌ إلى العِيرِ. وجُمْلَةُ ﴿وأقْبَلُوا عَلَيْهِمْ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ (قالُوا)، ومَرْجِعُ ضَمِيرِ (أقْبَلُوا) عائِدٌ إلى فِتْيانِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وضَمِيرُ (عَلَيْهِمْ) راجِعٌ (p-٢٩)إلى ما رَجَعَ إلَيْهِ ضَمِيرُ (قالُوا)، أيْ وقَدْ أقْبَلَ عَلَيْهِمْ فِتْيانُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وجَعَلُوا جُعْلًا لِمَن يَأْتِي بِالصُّواعِ. والَّذِي قالَ ﴿وأنا بِهِ زَعِيمٌ﴾ واحِدٌ مِنَ المُقْبِلِينَ وهو كَبِيرُهم. والزَّعِيمُ: الكَفِيلُ. وهَذِهِ الآيَةُ قَدْ جَعَلَها الفُقَهاءُ أصْلًا لِمَشْرُوعِيَّةِ الجُعْلِ والكَفالَةِ. وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ ذا شَرْعٍ حَتّى يَسْتَأْنِسَ لِلْأخْذِ بِـ (أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا) إذا حَكاهُ كَلامُ اللَّهِ أوْ رَسُولِهِ. ولَوْ قُدِّرَ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَوْمَئِذٍ نَبِيًّا فَلا يَثْبُتُ أنَّهُ رَسُولٌ بِشَرْعٍ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ أنَّهُ بُعِثَ إلى قَوْمِ فِرْعَوْنَ، ولَمْ يَكُنْ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أتْباعٌ في مِصْرَ قَبْلَ وُرُودِ أبِيهِ وإخْوَتِهِ وأهْلِيهِمْ. فَهَذا مَأْخَذٌ ضَعِيفٌ. والتّاءُ في (تاللَّهِ) حَرْفُ قَسَمٍ عَلى المُخْتارِ، ويَخْتَصُّ بِالدُّخُولِ عَلى اسْمِ اللَّهِ تَعالى وعَلى لَفْظِ رَبِّ، ويَخْتَصُّ أيْضًا بِالمُقْسَمِ عَلَيْهِ العَجِيبِ. وسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وتاللَّهِ لَأكِيدَنَّ أصْنامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧] في سُورَةِ الأنْبِياءِ. وقَوْلُهم ﴿لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ في الأرْضِ وما كُنّا سارِقِينَ﴾ . أكَّدُوا ذَلِكَ بِالقَسَمِ لِأنَّهم كانُوا وفَدَوْا عَلى مِصْرَ مَرَّةً سابِقَةً واتُّهِمُوا بِالجَوْسَسَةِ فَتَبَيَّنَتْ بَراءَتُهم بِما صَدَقُوا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيما وصَفُوهُ مِن حالِ أبِيهِمْ وأخِيهِمْ. فالمُرادُ بِـ (الأرْضِ) المَعْهُودَةُ، وهي مِصْرُ. وأمّا بَراءَتُهم مِنَ السَّرِقَةِ فَبِما أخْبَرُوا بِهِ عِنْدَ قُدُومِهِمْ مِن وِجْدانِ بِضاعَتِهِمْ في رِحالِهِمْ، ولَعَلَّها وقَعَتْ في رِحالِهِمْ غَلَطًا. عَلى أنَّهم نَفَوْا عَنْ أنْفُسِهِمُ الِاتِّصافَ بِالسَّرِقَةِ بِأبْلَغَ مِمّا نَفَوْا بِهِ الإفْسادَ عَنْهم، وذَلِكَ بِنَفْيِ الكَوْنِ سارِقِينَ دُونَ أنْ يَقُولُوا: وما جِئْنا لِنَسْرِقَ؛ لِأنَّ السَّرِقَةَ وصْفٌ يُتَعَيَّرُ بِهِ، وأمّا الإفْسادُ الَّذِي نَفَوْهُ، أيِ التَّجَسُّسُ فَهو مِمّا يَقْصِدُهُ العَدُوُّ عَلى عَدُوِّهِ فَلا يَكُونُ عارًا، ولَكِنَّهُ اعْتِداءٌ في نَظَرِ العَدُوِّ. (p-٣٠)وقَوْلُ الفِتْيانِ ﴿ما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ تَحْكِيمٌ، لِأنَّهم لا يَسَعُهم إلّا أنْ يُعَيِّنُوا جَزاءً يُؤْخَذُونَ بِهِ، فَهَذا تَحْكِيمُ المَرْءِ في ذَنْبِهِ. ومَعْنى ما جَزاؤُهُ: ما عِقابُهُ. وضَمِيرُ (جَزاؤُهُ) عائِدٌ إلى الصُّواعِ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَقامِ، أيْ ما جَزاءُ سارِقِهِ أوْ سَرِقَتِهِ. ومَعْنى ﴿إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ إنْ تَبَيَّنَ كَذِبُكم بِوُجُودِ الصُّواعِ في رِحالِكم. وقَوْلُهُ ﴿جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ﴾ (جَزاؤُهُ) الأوَّلُ مُبْتَدَأٌ، و(مَن) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وهي مُبْتَدَأٌ ثانٍ وأنَّ جُمْلَةَ ﴿وُجِدَ في رَحْلِهِ﴾ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، وجُمْلَةَ ﴿فَهُوَ جَزاؤُهُ﴾ جَوابُ الشَّرْطِ، والفاءُ رابِطَةٌ لِلْجَوابِ، والجُمْلَةُ المُرَكَّبَةُ مِنَ الشَّرْطِ وجَوابِهِ خَبَرٌ عَنِ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (مَن) مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً ثانِيًا، وجُمْلَةُ ﴿وُجِدَ في رَحْلِهِ﴾ صِلَةَ المَوْصُولِ. والمَعْنى أنَّ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ الصُّواعُ هو جَزاءُ السَّرِقَةِ، أيْ ذاتُهُ هي جَزاءُ السَّرِقَةِ، فالمَعْنى أنَّ ذاتَهُ تَكُونُ عِوَضًا عَنْ هَذِهِ الجَرِيمَةِ، أيْ أنْ يَصِيرَ رَقِيقًا لِصاحِبِ الصُّواعِ لِيَتِمَّ مَعْنى الجَزاءِ بِذاتٍ أُخْرى. وهَذا مَعْلُومٌ مِنَ السِّياقِ إذْ لَيْسَ المُرادُ إتْلافَ ذاتِ السّارِقِ؛ لِأنَّ السَّرِقَةَ لا تَبْلُغُ عُقُوبَتُها حَدَّ القَتْلِ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ ﴿فَهُوَ جَزاؤُهُ﴾ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِجُمْلَةِ ﴿جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ﴾، لِتَقْرِيرِ الحُكْمِ وعَدَمِ الِانْفِلاتِ مِنهُ، وتَكُونُ الفاءُ لِلتَّفْرِيعِ تَفْرِيعِ التَّأْكِيدِ عَلى المُوَكَّدِ. وقَدْ حَكَمَ إخْوَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى أنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ وتَراضَوْا عَلَيْهِ فَلَزِمَهم ما التَزَمُوهُ. ويَظْهَرُ أنَّ ذَلِكَ كانَ حُكْمًا مَشْهُورًا بَيْنَ الأُمَمِ أنْ يُسْتَرَقَّ السّارِقُ. وهو قَرِيبٌ مِنِ اسْتِرْقاقِ المَغْلُوبِ في القِتالِ. ولَعَلَّهُ كانَ حُكْمًا مَعْرُوفًا في مِصْرَ لِما سَيَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ﴾ [يوسف: ٧٦] . وجُمْلَةُ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ بَقِيَّةُ كَلامِ إخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ (p-٣١)أيْ كَذَلِكَ حُكْمُ قَوْمِنا في جَزاءِ السّارِقِ الظّالِمِ بِسَرِقَتِهِ، أوْ أرادُوا أنَّهُ حُكْمُ الإخْوَةِ عَلى مَن يَقْدِرُ مِنهم أنْ يُظْهِرَ الصُّواعَ في رَحْلِهِ، أيْ فَهو حَقِيقٌ لِأنْ نَجْزِيَهُ بِذَلِكَ. والإشارَةُ بِـ (كَذَلِكَ) إلى الجَزاءِ المَأْخُوذِ مِن (نَجْزِي)، أيْ نَجْزِي الظّالِمِينَ جَزاءً كَذَلِكَ الجَزاءِ، وهو مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب