الباحث القرآني
وقالَ تَعالى: ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ اتِّصالُ الآياتِ بِما قَبْلَها عَلى الوَجْهِ المَشْهُورِ، ظاهِرٌ لا خَفاءَ فِيهِ، إذْ قَوْلُهُ: ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ﴾ كالتَّفْسِيرِ. وعَلى الوَجْهِ الثّانِي مِن أنَّ المَعْنى لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ غَيْرُهُ كَيْفَ قالَ: يُعْرَفُ ويُؤْخَذُ وعَلى قَوْلِنا: لا يُسْألُ سُؤالَ حَطٍّ وعَفْوٍ أيْضًا كَذَلِكَ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: السِّيما كالضِّيزى وأصْلُهُ سَوْمى مِنَ السَّوْمَةِ وهو يَحْتَمِلُ وُجُوهًا.
أحَدُها: كَيٌّ عَلى جِباهِهِمْ، قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ﴾ [التوبة: ٣٥] .
ثانِيها: سَوادٌ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] وقالَ تَعالى: ﴿وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠] .
ثالِثُها: غَبَرَةٌ وقَتَرَةٌ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ما وجْهُ إفْرادِ ”يُؤْخَذُ“ مَعَ أنَّ ”المُجْرِمِينَ“ جَمْعٌ، وهُمُ المَأْخُوذُونَ ؟ نَقُولُ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّ يُؤْخَذَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِالنَّواصِي﴾ كَما يَقُولُ القائِلُ: ذُهِبَ بِزَيْدٍ.
وثانِيهِما: أنْ يَتَعَلَّقَ بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ، فَيُؤْخَذُونَ بِالنَّواصِي، فَإنْ قِيلَ كَيْفَ عُدِّيَ الأخْذُ بِالباءِ وهو يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ، قالَ تَعالى: ﴿لا يُؤْخَذُ مِنكم فِدْيَةٌ﴾ [الحديد: ١٥] وقالَ: ﴿خُذْها ولا تَخَفْ﴾ [طه: ٢١] نَقُولُ: الأخْذُ يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ كَما بَيَّنْتَ، وبِالباءِ (p-١٠٦)أيْضًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولا بِرَأْسِي﴾ [طه: ٩٤] لَكِنْ في الِاسْتِعْمالِ تَدْقِيقٌ، وهو أنَّ المَأْخُوذَ إنْ كانَ مَقْصُودًا بِالأخْذِ تَوَجَّهَ الفِعْلُ نَحْوَهُ فَيَتَعَدّى إلَيْهِ مِن غَيْرِ حَرْفٍ، وإنْ كانَ المَقْصُودُ بِالأخْذِ غَيْرَ الشَّيْءِ المَأْخُوذِ حِسًّا تَعَدّى إلَيْهِ بِحَرْفٍ، لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَكَأنَّهُ لَيْسَ هو المَأْخُوذُ، وكَأنَّ الفِعْلَ لَمْ يَتَعَدَّ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَذَكَرَ الحَرْفَ، ويَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا اسْتِعْمالُ القُرْآنِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿خُذْها ولا تَخَفْ﴾ في العَصا، وقالَ تَعالى: ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ [النساء: ١٠٢] ﴿أخَذَ الألْواحَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمّا كانَ ما ذُكِرَ هو المَقْصُودُ بِالأخْذِ عُدِّيَ الفِعْلُ إلَيْهِ مِن غَيْرِ حَرْفٍ، وقالَ تَعالى: ﴿لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولا بِرَأْسِي﴾ وقالَ تَعالى: ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ ويُقالُ: خُذْ بِيَدِي، وأخَذَ اللَّهُ بِيَدِكَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَكُونُ المَقْصُودُ بِالأخْذِ غَيْرَ ما ذَكَرْنا، فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في تَوْجِيهِ الفِعْلِ إلى غَيْرِ ما تَوَجَّهَ إلَيْهِ الفِعْلُ الأوَّلُ، ولِمَ قالَ: ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي﴾ ؟ نَقُولُ فِيهِ بَيانُ نَكالِهِمْ وسُوءِ حالِهِمْ ونُبَيِّنُ هَذا بِتَقْدِيمِ مِثالٍ، وهو أنَّ القائِلَ إذا قالَ: ضُرِبَ زَيْدٌ فَقُتِلَ عَمْرٌو فَإنَّ المَفْعُولَ في بابِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ قائِمٌ مَقامَ الفاعِلِ ومُشَبَّهٌ بِهِ؛ ولِهَذا أُعْرِبَ إعْرابُهُ فَلَوْ لَمْ يُوَجَّهْ يُؤْخَذْ إلى غَيْرِ ما وُجِّهَ إلَيْهِ يُعْرَفُ لَكانَ الأخْذُ فِعْلٌ مِن عَرَفَ، فَيَكُونُ كَأنَّهُ قالَ: يَعْرِفُ المُجْرِمِينَ عارِفٌ فَيَأْخُذُهم ذَلِكَ العارِفُ، لَكِنِ المُجْرِمُ يَعْرِفُهُ بِسِيماهُ كُلُّ أحَدٍ، ولا يَأْخُذُهُ كُلُّ مَن عَرَفَهُ بِسِيماهُ، بَلْ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ قَوْلُهُ: ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ﴾ المُرادُ يَعْرِفُهُمُ النّاسُ والمَلائِكَةُ الَّذِينَ يَحْتاجُونَ في مَعْرِفَتِهِمْ إلى عَلامَةٍ، أمّا كَتَبَةُ الأعْمالِ والمَلائِكَةُ الغِلاظُ الشِّدادُ فَيَعْرِفُونَهم كَما يَعْرِفُونَ أنْفُسَهم مِن غَيْرِ احْتِياجٍ إلى عَلامَةٍ، وبِالجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: يُعْرَفُ مَعْناهُ يَكُونُونَ مَعْرُوفِينَ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ، فَلَوْ قالَ: يُؤْخَذُونَ يَكُونُ كَأنَّهُ قالَ: فَيَكُونُونَ مَأْخُوذِينَ لِكُلِّ أحَدٍ، كَذَلِكَ إذا تَأمَّلْتَ في قَوْلِ القائِلِ: شُغِلْتُ فَضُرِبَ زَيْدٌ عَلِمْتَ عِنْدَ تَوْجِهِ التَّعْلِيقِ إلى مَفْعُولَيْنِ دَلِيلُ تَغايُرِ الشّاغِلِ والضّارِبِ لِأنَّهُ يُفْهَمُ مِنهُ أنِّي شَغَلَنِي شاغِلٌ فَضَرَبَ زَيْدًا ضارِبٌ، فالضّارِبُ غَيْرُ ذَلِكَ الشّاغِلِ، وإذا قُلْتَ: شُغِلَ زَيْدٌ فَضُرِبَ لا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ حَيْثُ تَوَجَّهَ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وإنْ كانَ يَدُلُّ فَلا يَظْهَرُ مِثْلَ ما يَظْهَرُ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إلى مَفْعُولَيْنِ، أمّا بَيانُ النَّكالِ فَلِأنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي﴾ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الأخْذِ وجَعْلَها مَقْصُودَ الكَلامِ، ولَوْ قالَ: فَيُؤْخَذُونَ لَكانَ الكَلامُ يَتِمُّ عِنْدَهُ ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿بِالنَّواصِي﴾ فائِدَةً جاءَتْ بَعْدَ تَمامِ الكَلامِ فَلا يَكُونُ هو المَقْصُودُ، وأمّا إذا قالَ: فَيُؤْخَذُ، فَلا بُدَّ لَهُ مِن أمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَنْتَظِرُ السّامِعُ وُجُودَ ذَلِكَ، فَإذا قالَ: ﴿بِالنَّواصِي﴾ يَكُونُ هَذا هو المَقْصُودُ، وفي كَيْفِيَّةِ الأخْذِ ظُهُورُ نَكالِهِمْ لِأنَّ في نَفْسِ الأخْذِ بِالنّاصِيَةِ إذْلالًا وإهانَةً، وكَذَلِكَ الأخْذُ بِالقَدَمِ، لا يُقالُ قَدْ ذَكَرْتَ أنَّ التَّعْدِيَةَ بِالباءِ إنَّما تَكُونُ حَيْثُ لا يَكُونُ المَأْخُوذُ مَقْصُودًا، والآنَ ذَكَرْتَ أنَّ الأخْذَ بِالنَّواصِي هو المَقْصُودُ لِأنّا نَقُولُ: لا تَنافِيَ بَيْنَهُما فَإنَّ الأخْذَ بِالنَّواصِي مَقْصُودُ الكَلامِ والنّاصِيَةُ ما أُخِذَتْ لِنَفْسِ كَوْنِها ناصِيَةً وإنَّما أُخِذَتْ لِيَصِيرَ صاحِبُها مَأْخُوذًا، وفَرْقٌ بَيْنَ مَقْصُودِ الكَلامِ وبَيْنَ الأخْذِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: يَجْمَعُ بَيْنَ ناصِيَتِهِمْ وقَدَمِهِمْ، وعَلى هَذا فَفِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِن جانِبِ ظُهُورِهِمْ فَيَرْبِطُ بِنَواصِيهِمْ أقْدامَهم مِن جانِبِ الظَّهْرِ فَتَخْرُجُ صُدُورُهم نَتَأً.
والثّانِي: أنَّ ذَلِكَ مِن جانِبِ وُجُوهِهِمْ فَتَكُونُ رُءُوسُهم عَلى رُكَبِهِمْ ونَواصِيهِمْ في أصابِعِ أرْجُلِهِمْ مَرْبُوطَةً.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهم يُسْحَبُونَ سَحْبًا فَبَعْضُهم يُؤْخَذُ بِناصِيَتِهِ وبَعْضُهم يُجَرُّ بِرِجْلِهِ، والأوَّلُ أصَحُّ وأوْضَحُ.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["یُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِیمَـٰهُمۡ فَیُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَ ٰصِی وَٱلۡأَقۡدَامِ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ"],"ayah":"یُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِیمَـٰهُمۡ فَیُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَ ٰصِی وَٱلۡأَقۡدَامِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق