الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالًا قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكم أمْ عَلى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ ﴿وما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَشْكُرُونَ﴾ وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ النّاسَ ذَكَرُوا في تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها وُجُوهًا، ولا أسْتَحْسِنُ واحِدًا مِنها. والَّذِي يَخْطُرُ بِالبالِ والعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ ذِكْرُ طَرِيقٍ ثالِثٍ في إثْباتِ النُّبُوَّةِ. وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِلْقَوْمِ: ”إنَّكم تَحْكُمُونَ بِحِلِّ بَعْضِ الأشْياءِ وحُرْمَةِ بَعْضِها، فَهَذا الحُكْمُ تَقُولُونَهُ عَلى سَبِيلِ الِافْتِراءِ عَلى اللَّهِ تَعالى، أوْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ حُكْمٌ حَكَمَ اللَّهُ بِهِ“ والأوَّلُ طَرِيقٌ باطِلٌ بِالِاتِّفاقِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا الثّانِي، ثُمَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ تَعالى ما خاطَبَكم بِهِ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، ولَمّا بَطُلَ هَذا، ثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الأحْكامَ إنَّما وصَلَتْ إلَيْكم بِقَوْلِ رَسُولٍ أرْسَلَهُ اللَّهُ إلَيْكم، ونَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَيْكم، وحاصِلُ الكَلامِ أنَّ (p-٩٧)حُكْمَهم بِحِلِّ بَعْضِ الأشْياءِ وحُرْمَةِ بَعْضِها مَعَ اشْتِراكِ الكُلِّ في الصِّفاتِ المَحْسُوسَةِ والمَنافِعِ المَحْسُوسَةِ، يَدُلُّ عَلى اعْتِرافِكم بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُكم أنْ تُبالِغُوا هَذِهِ المُبالَغاتِ العَظِيمَةَ في إنْكارِ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ وحَمْلِ الآيَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ طَرِيقٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ. الطَّرِيقُ الثّانِي: في حُسْنِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها هو أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لَمّا ذَكَرَ الدَّلائِلَ الكَثِيرَةَ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَفْسِهِ وبَيَّنَ فَسادَ سُؤالاتِهِمْ وشُبُهاتِهِمْ في إنْكارِها، أتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيانِ فَسادِ طَرِيقَتِهِمْ في شَرائِعِهِمْ وأحْكامِهِمْ، وبَيَّنَ أنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ هَذِهِ الأشْياءِ بِالحِلِّ والحُرْمَةِ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ لا عَقْلٌ ولا نَقْلٌ -طَرِيقٌ باطِلٌ ومَنهَجٌ فاسِدٌ، والمَقْصُودُ إبْطالُ مَذاهِبِ القَوْمِ في أدْيانِهِمْ، وفي أحْكامِهِمْ، وأنَّهم لَيْسُوا عَلى شَيْءٍ في بابٍ مِنَ الأبْوابِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ بِالشَّيْءِ الَّذِي جَعَلُوهُ حَرامًا ما ذَكَرُوهُ مِن تَحْرِيمِ البَحِيرَةِ والسّائِبَةِ والوَصِيلَةِ والحامِ وأيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالُوا هَذِهِ أنْعامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ [الأنعام: ١٣٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا ما في بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ومُحَرَّمٌ عَلى أزْواجِنا﴾ [الأنعام: ١٣٩] وأيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثَمانِيَةَ أزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام: ١٤٣] والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا﴾ إشارَةٌ إلى أمْرٍ تَقَدَّمَ مِنهم، ولَمْ يَحْكِ اللَّهُ تَعالى عَنْهم إلّا هَذا، فَوَجَبَ تَوَجُّهُ هَذا الكَلامِ إلَيْهِ، ثُمَّ لَمّا حَكى تَعالى عَنْهم ذَلِكَ قالَ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكم أمْ عَلى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ وهَذِهِ القِسْمَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ الأحْكامَ إمّا أنْ تَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعالى أوْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اللَّهِ، فَإنْ كانَتْ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿آللَّهُ أذِنَ لَكُمْ﴾ وإنْ كانَتْ لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿أمْ عَلى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ وهَذا وإنْ كانَ في صُورَةِ الِاسْتِعْلامِ فالمُرادُ مِنهُ تَعْظِيمُ وعِيدِ مَن يَفْتَرِي عَلى اللَّهِ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ ”وما ظَنَّ“عَلى لَفْظِ الفِعْلِ ومَعْناهُ أيْ ظَنٌّ ظَنُّوهُ يَوْمَ القِيامَةِ، وجِيءَ بِهِ عَلى لَفْظِ الماضِي لِما ذَكَرْنا أنَّ أحْوالَ القِيامَةِ وإنْ كانَتْ آتِيَةً إلّا أنَّها لَمّا كانَتْ واجِبَةَ الوُقُوعِ في الحِكْمَةِ ولا جَرَمَ عَبَّرَ اللَّهُ عَنْها بِصِيغَةِ الماضِي. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ﴾ أيْ بِإعْطاءِ العَقْلِ وإرْسالِ الرُّسُلِ وإنْزالِ الكُتُبِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَشْكُرُونَ﴾ فَلا يَسْتَعْمِلُونَ العَقْلَ في التَّأمُّلِ في دَلائِلِ اللَّهِ تَعالى ولا يَقْبَلُونَ دَعْوَةَ أنْبِياءِ اللَّهِ ولا يَنْتَفِعُونَ بِاسْتِماعِ كُتُبِ اللَّهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ”ما“ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: بِمَعْنى الَّذِي فَيَنْتَصِبُ بِ ”رَأيْتُمْ“ والآخَرُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى ”أيٍّ“ في الِاسْتِفْهامِ، فَيَنْتَصِبُ بِ ”أنْزَلَ“ وهو قَوْلُ الزَّجّاجِ، ومَعْنى أنْزَلَ هَهُنا خَلَقَ وأنْشَأ كَقَوْلِهِ: ﴿وأنْزَلَ لَكم مِنَ الأنْعامِ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ﴾ [الزمر: ٦] وجازَ أنْ يُعَبِّرَ عَنِ الخَلْقِ بِالإنْزالِ؛ لِأنَّ كُلَّ ما في الأرْضِ مِن رِزْقٍ فَمِمّا أُنْزِلَ مِنَ السَّماءِ مِن ضَرْعٍ وزَرْعٍ وغَيْرِهِما، فَلَمّا كانَ إيجادُهُ بِالإنْزالِ سُمِّيَ إنْزالًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب