الباحث القرآني

﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾. وقرأ حفص عن عاصم (وَالْخَامِسَةَ) نصبًا [[وقرأ الباقون "والخامسة" رفعًا. "السبعة" لابن مجاهد ص 453، و"التيسير" للداني (161)، و"الغاية" لابن مهران النيسابوري ص 218، و"النشر" لابن الجزري 1/ 330.]] بالحمل على ما في الكلام من معنى الفعل كأنه: ويشهد الخامسة، يضمر هذا الفعل لأن في الكلام دلالة عليها. ولم يختلفوا في (وَالْخَامِسَةَ) الأولى أنها مرفوعة، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون ما قبله من قوله ﴿أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ﴾ مرفوعًا أو منصوبًا. فإن كان مرفوعًا أتبع الرَّفع ويكون محمولًا على ما قبلها من الرفع. وإن كان منصوبًا قطع عنه ولم يحمل على النصب، وحمل الكلام على المعنى، لأن معنى [[في (ع): (المعنى).]] قوله: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ﴾: عليهم أربع شهادات وحكمهم أربع شهادات والخامسة فتحمله على هذا، كما أنَّ قوله: إلاَّ رواكد جمرهن هباء [[ورد هذان الشطران في "الكتاب" لسيبويه 1/ 173 - 174 مع شطريهما، من غير نسبة لأحد. والبيتان هما: بادت وغير أيهن مع البلى ... إلا رواكد جمرهن هباء ومشجج أما سواء قذاه ... فبدا وغير ساره المعزاء والبيتان أيضًا غير منسوبين في "معاني القرآن" للزجاج، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 288 - 289، وهما في "الخزانة" 2/ 348. والبيت الثاني في "اللسان" 2/ 304 "شجج" من غير نسبة. وقد نسب البيتان للشمَّاخ كما في ملحق "ديوان الشمَّاخ" ص 427 - 428. ونُسب البيت الثاني لذي الرمة كما في ملحق "ديوانه" 3/ 1840. ومعنى: بادت هلكت، وغيَّر أيهن: أي علامتهن، والمراد بالرواكد أحجار == الأثفية، وهبا الرماد يهبو إذا اختلط بالتراب. وقوله: ومشجح، المراد به وتد الخباء الذي شج رأسه من الدَّق، وقذاله: أعلاه، وغير ساره: أي بقيته، والمعزاء: البقعة من الأرض التي يخالط ترابها حصى وحجارة. يقول: لم يبق من آثار الأحباب سوى أحجار الأثافي ورمادها المختلط بالتراب ووتد الخباء المكسور الرأس المتغير بطول بقائه في الأرض. انظر: "اللسان" 2/ 304 (شجج) 11/ 553 (قذل)، 4/ 339 (شار). "تاج العروس" للزبيدي 15/ 337 (معز)، "شرح شواهد الكشاف" ص 322.]]. معناه: ثم رواكد. فحمل قوله: ومشجج أما سواء قذاله [[المرجع السابق نفسه.]]. عليه ويجوز في القياس نصب (الخامسة) الأولى رفع (أربع شهادات) أو نُصب. فإن نصب فبالعطف على المنصوب، وإن رفع فعلى المعنى، لأن معنى ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ﴾ يشهد أحدهما أربع شهادات ويشهد الخامسة. فتنصبه [[في (أ): (فنصبه).]] بما في الكلام من الدلالة على هذا الفعل [["الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 311 - 314 مع تصرَّف يسير. وانظر في توجيه القراءتين أيضًا: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 495، "الكشف" لمكي 2/ 135.]]. وقرأ نافع (أن) مخففة (غضب الله) على الفعل [[قرأ نافع "أن" مخففة وكسر الضاد في "غضب" ورفع الهاء من اسم الله. وقرأ الباقون بتشديد النون وفتح الضاد وجر الهاء. "السبعة" لابن مجاهد ص 453، و"اليسير" للداني ص 161، و"الغاية" لابن مهران ص 218، و"النشر" لابن الجزري 2/ 330.]]. و (أن) هاهنا هي المخففة من الثقيلة، وأهل العربية يستقبحون أن تلي الفعل حتى يفصل بينها [[في (ع): (بينهما).]] وبين الفعل شيء. ويقولون: يستقبح أن تخفف ويحذف ما تعمل فيه وأن تلي ما لم تكن تليه من الفعل بلا حاجز بينهما، فتجتمع هذه الاتساعات فيها. فإن فصل بينها وبين الفعل بشيء لم يستقبحوا ذلك، كقوله ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ﴾ [المزمل: 20]، ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ﴾ [طه: 89]، وعلمت أن قد قام. فإذا فصل بشيء من هذا النحو بينه وبين الفعل زال بذلك أن تلى ما لم يكن حكمها أن تليه. فإن قلت: فقد جاءت ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] وجاء ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 8]؟ فإن "ليس" تجري مجرى "ما" ونحوا مما ليس بفعل. وأما ﴿نُودِيَ أَنْ بُورِكَ﴾ فإن قوله (بُورِكَ) على معنى الدعاء فلم يجز دخول "لا" ولا "قد" ولا "السين" ولا شيء مما يصح دخوله في [[(في) ساقطة من (أ)، (ط).]] الكلام فيصح به الفصل. وهذا مثل [[(مثل) ساقطة من (أ).]] ما [[في (أ): (ممّا).]] حكى سيبويه [[انظر: "الكتاب" 3/ 167.]] من قولهم: أما أن جزاك الله خيرًا. فلم يدخل شيء من هذه الفواصل من حيث لم يكن موضعًا لها، وغير الدعاء في هذا ليس كالدعاء. ووجه قراءة نافع أنَّ ذلك قد جاء في الدعاء ولفظه الخبر، وقد يجيء في الشعر من غير الفصل [["الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 315 - 316 مع اختلاف يسير. == وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 10/ 444، و"إبراز المعاني" لأبي شامة (612)، "البحر المحيط" 6/ 434.]]. وأما أحكام اللعان: فاعلم أن اللعان يعتمد القذف، فلا يتصور لعان ما لم يتقدم قذف، ولا فرق بين أن يكون ذلك القذف بصريح الزنا على جهة المطاوعة، وبين [[في (ع): (أو بين).]] أن يكون بوطء شبهة أو بوطء كانت مستكرهة فيه لأن ذلك كله وطء حرام؛ فإذا قذف زوجته لزمه الحد وله التخلص منها بإقامة البينة أو باللعان. فإن [[في (أ): (وإن).]] أقام البيّنة على زناها لزمها الحد، وإن التعيين لزمها الحد أيضًا، ولها التخلص منه باللعان [[انظر: "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 305، "المغني" 11/ 136 - 160.]]. ولا يكون اللعان إلا مغلّظا بالزمان والمكان، فإن كان بمكة فعند [[في (ع): (عند).]] المقام، وإن كان بالمدينة فعلى المنبر، وكذلك في كل بلدة، وينبغي أن يكون بعد العصر يوم الجمعة أو [في أي] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ع).]] وقت من الأوقات الشريفة [[هذا أحد قولي الشافعية، والقول الآخر أنه مستحب ولا يجب. وذهب آخرون وهو قول أبي حنيفة إلى أنَّه لا يستحب التغليظ في اللعان بمكان ولا زمان، لأن الله تعالى أطلق الأمر بذلك، ولم يقيده بزمان ولا مكان، فلا يجوز تقييده إلا بدليل. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي 11/ 44 - 45، "المغني" لابن قدامة 11/ 175، "روضة الطالبين" للنووي 8/ 354.]]. ولا يجزئ اللعان إلا بين يدي سلطان أو نائب عن السلطان [[انظر: "الحاوي" 11/ 44، 133، "المغنى" 11/ 174، "روضة الطالبين" 8/ 355.]]. وتكون البداية بالزوج كما ذكر الله في كتابه [[في (أ): (شأنه).]]. وكل زوج كان من أهل الطلاق كان من أهل اللعان، عبدًا كان أو حرًا، ذميًّا كان [[(كان) ساقطة من (ع).]] أو مسلمًا، محدودًا في القذف أو غير محدود؛ لأن اللعان عند الشافعي أيمان وإن كان فيها شوب [[في (ع): (ثبوت).]] شهادة [[وهذا قول جمهور العلماء. وعند أبي حنيفة اللعان شهادة فلا تصح إلا من مسلمين حرين عفيفين، فإن كان كافرين أو أحدهما أو مملوكين أو أحدهما لم يصح لعانها. وهو قول الأوزاعي والزهري وغيرهما. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 286 - 287، "الحاوي" 11/ 12، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 303، "المغني" لابن قدامة 11/ 122 - 123، "الجامع" للقرطبي 12/ 186 - 187.]]. ويؤمر الزوج فيصعد المنبر والمرأة جالسة، فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة بنت فلان هذه [[(هذه) ساقطة من (ع).]] -ويشير إليها- من الزنا بفلان بن فلان. فيسقط عنه حد قذف فلان إذا ذكره في اللعان، ثم يعيد الشهادة أربع مرات [[انظر: "المغني" 11/ 176 - 177.]]. وإن كان بها حمل فالصحيح من مذهب الشافعي أن يذكر الحمل في اللعان فينتفي [[انظر: "الحاوي" 11/ 63، "المغني" 11/ 161، "القرطبي" 12/ 188.]]. وكانت امرأة العجلاني حاملًا فلاعنها [على الحمل] [[ساقط من (ع).]] وانتفى النسب. فإذا انتهى إلى ذكر اللعنة في الخامسة خوفه القاضي وعرَّفه أنها موجبة، وأمر بعض من يحضر بوضع اليد على فمه إذا أراد أن يمضي على اللعنة [[انظر: "المغني" 11/ 177، "روضة الطالبين" 8/ 355، "القرطبي" 12/ 192.]]. والسنة أن يكون بمحضر خلق؛ فإن الصبيان حضروا على عهد رسول الله -ﷺ- [[انظر: "المغني" 11/ 174.]]. وإن نكل عن اللعان ولم يتمم وجب عليه حد القذف إن [[في (ع): (وإن).]] كانت محصنة. ولا تقوم أكثر كلمات اللعان مقام الجميع [[انظر: "المغني" 11/ 152، 177، "روضة الطالبين" 8/ 351.]]. وإن أكمل توجَّه [[في (ع): (وجب).]] عليها حدّ الزنا كما يتوجه بالبينة إلا أن يعارض اللعان باللعان فتدفع بذلك حدّ [[(حدّ) ساقطة من (أ).]] الزنا عن نفسها. هذا معنى قوله ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾، ثم يذكر الغضب في الخامسة. وإن نكلت عن كلمة من كلمات اللعان فكأنها نكلت عن جميع اللعان. وأيهما نكل فاشتغلنا بإقامة الحد وأقمنا فقال: دعوني ألتعن، كان ممكنًا من اللعان بخلاف النكول عن الأيمان لا يعود حق اليمين بعد ما تحقق من النكول. وهذا من شوب [[في (ع): (ثبوت).]] الشهادات في اللعان، والشهادة مسموعة مقبولة [[(مقبولة) ساقطة من (أ).]] متى ما أقيمت [[انظر: "روضة الطالبين" 8/ 349.]]. ولا يحبس واحد منهما إذا نكل ليلتعن، ولكن يعاقب هذا بحد القذف وهذه بحد الزنا [[انظر: " الحاوي" 11/ 80.]]. وإذا تكامل لعان الزوج اندفع عنه حد القذف، وانتفى نسب الولد المذكور في اللعان مولودًا كان أو حملاً، وارتفع الفراش، ولا حاجة إلى تطليق القاضي وتفريقه [[هذا مذهب الشافعي وهو أن الفرقة تحصل بلعان الزوج وحده، ولا يحتاج إلى تفريق الحاكم بينهما. وذهب آخرون: إلى أنَّ الفرقة لا تحصل إلا بتلاعن الزوج وامرأته جميعًا، ولا يحتاج إلى تفريق الحاكم. وهو قول مالك وأبي عبيد وبعض الحنابلة، وهو مروي عن ابن عباس. وذهب آخرون إلى أن الفرقة لا تقع إلا بتفريق الحاكم بعد فراغهما جميعًا من التلاعن. وهو قول الثوري وأبي حنيفة وصاحبيه وبعض الحنابلة. انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 298، "الحاوي" 11/ 74، "المغني" 11/ 144 - 146، "روضة الطالبين" 8/ 356، "الجامع" للقرطبي 12/ 193 - 194.]]. ثم لا يجتمعان بعد ذلك أبدًا. قال رسول الله: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا" [[رواه الدارقطني في "سننه" 3/ 276، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 409 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ونقل العلامة المحدث أبو الطيب محمد شمس الدين العظيم آبادي في كتابه "التعليق المغني على الدارقطني" عن "صاحب التنقيح" أنَّه قال: إسناده جيد. وروى الدارقطني في "سننه" 3/ 275، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 410 من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- في قصة المتلاعنين قال: فتلاعنا، ففرق == الرسول -ﷺ- بينهما وقال "لا يجتمعان أبدًا". قال محقق "زاد المعاد" لابن القيم 5/ 391: رجاله ثقات. وانظر: "تلخيص الحبير" لابن حجر 3/ 253، "نيل الأوطار" 8/ 77.]]. وإن أكذب الزوج نفسه فإنما يؤثر تكذيبه فيما عليه، وهو عود النسب ووجوب الحد، ولا يؤثر فيما له وهو ارتفاع التحريم وعود الفراش [[وهذا قول جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى إنَّه إذا أكذب نفسه جُلد الحدّ ولحق به الولد، وكان خاطبًا من الخطاب إذا شاء. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وغيرهم. انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 302 - 303، "الحاوي" 11/ 75، "المغني" 11/ 149، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 194.]]. ولا يتعلق بلعان المرأة إلا سقوط الحد عنها [[تقدم أن هذا مذهب الشافعي وحده. والجمهور على خلافه.]]. وإن أغفل ذكر الولد في اللعان استأنف [[في (أ): (استأنف في). بزيادة (في).]] اللعان [[انظر: "المغني" 11/ 153.]]. وإن قذفها بزنا قبل النكاح فعليه الحد ولا لعان [[انظر: "المغني" 11/ 135، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 187.]]. وإن ارتفع النكاح بطلاق رجعي فالقذف واللعان في عدة الرجعية حكمها حكم ما يكون في صلب النكاح، وأما القذف بعد البينونة فإنه موجب للحد ولا لعان، إلا أن يكون ولد فله اللعان عند الشافعي لنفي النسب [[انظر: "الأم" 5/ 117، "المغني" 11/ 133، "روضة الطالبين" 8/ 336 - 337.]]. وكذلك اللعان في النكاح الفاسد يجري لنفي الولد [[انظر: "المغني" 11/ 132، "روضة الطالبين" 8/ 335 - 336.]]. وإذا قذف أربع زوجات فجمعهن في اللعان ورضين بذلك كان جائزًا [[انظر: "المغني" 11/ 183، "روضة الطالبين" 8/ 347.]] وفرقة اللعان فسخ [[وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما. انظر: "المغني" 11/ 147، "روضة الطالبين" 8/ 356.]]؛ لأنه جاء بفعل من قبل المرأة. وقال أبو حنيفة: اللعان [[(اللعان) ساقط من (ع).]] تطليقة بائنة لأنه من قبل الرجل بدأ [[انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني 3/ 244 - 245، "تبيين الحقائق" للزيلعي 3/ 17 - 18.]]. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب