الباحث القرآني
(p-٣١٨)﴿ولَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وكُنّا بِهِ عالِمِينَ﴾ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ ما هَذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أنْتُمْ لَها عاكِفُونَ﴾ ﴿قالُوا وجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ﴾ ﴿قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أنْتُمْ وآباؤُكم في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿قالُوا أجِئْتَنا بِالحَقِّ أمْ أنْتَ مِنَ اللّاعِبِينَ﴾ ﴿قالَ بَلْ رَبُّكم رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وأنا عَلى ذَلِكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ ﴿وتاللَّهِ لَأكِيدَنَّ أصْنامَكم بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ ﴿فَجَعَلَهم جُذاذًا إلّا كَبِيرًا لَهم لَعَلَّهم إلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ ﴿قالُوا مَن فَعَلَ هَذا بِآلِهَتِنا إنَّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٩] ﴿قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهم يُقالُ لَهُ إبْراهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٦٠] ﴿قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهم يَشْهَدُونَ﴾ [الأنبياء: ٦١] ﴿قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذا بِآلِهَتِنا يا إبْراهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٦٢] ﴿قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا فاسْألُوهم إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣] ﴿فَرَجَعُوا إلى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكم أنْتُمُ الظّالِمُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٤] ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٥] ﴿قالَ أفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكم شَيْئًا ولا يَضُرُّكُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٦] ﴿أُفٍّ لَكم ولِما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٧] ﴿قالُوا حَرِّقُوهُ وانْصُرُوا آلِهَتَكم إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٦٨] ﴿قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْدًا وسَلامًا عَلى إبْراهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] ﴿وأرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الأخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٠] ﴿ونَجَّيْناهُ ولُوطًا إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً وكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٢] ﴿وجَعَلْناهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا وأوْحَيْنا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وإقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٣] ﴿ولُوطًا آتَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا ونَجَّيْناهُ مِنَ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الخَبائِثَ إنَّهم كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٤] ﴿وأدْخَلْناهُ في رَحْمَتِنا إنَّهُ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٥] ﴿ونُوحًا إذْ نادى مِن قَبْلُ فاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وأهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ﴾ [الأنبياء: ٧٦] ﴿ونَصَرْناهُ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إنَّهم كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأغْرَقْناهم أجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٧] ﴿وداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنّا فاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] ﴿وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكم لِتُحْصِنَكم مِن بَأْسِكم فَهَلْ أنْتُمْ شاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٨٠] ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأمْرِهِ إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨١] ﴿ومِنَ الشَّياطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ ويَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وكُنّا لَهم حافِظِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] ﴿وأيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣] ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ وآتَيْناهُ أهْلَهُ ومِثْلَهم مَعَهم رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وذِكْرى لِلْعابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٤] ﴿وإسْماعِيلَ وإدْرِيسَ وذا الكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٥] ﴿وأدْخَلْناهم في رَحْمَتِنا إنَّهم مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٦] ﴿وذا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى في الظُّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ وكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨] ﴿وزَكَرِيّا إذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٩] ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ووَهَبْنا لَهُ يَحْيى وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إنَّهم كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا وكانُوا لَنا خاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠] ﴿والَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِن رُوحِنا وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩١] ﴿إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكم أُمَّةً واحِدَةً وأنا رَبُّكم فاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢] ﴿وتَقَطَّعُوا أمْرَهم بَيْنَهم كُلٌّ إلَيْنا راجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٣] ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وهو مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وإنّا لَهُ كاتِبُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٤] ﴿وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهم لا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] ﴿حَتّى إذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وهم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٦] ﴿واقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإذا هي شاخِصَةٌ أبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا ويْلَنا قَدْ كُنّا في غَفْلَةٍ مِن هَذا بَلْ كُنّا ظالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٧] ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] ﴿لَوْ كانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً ما ورَدُوها وكُلٌّ فِيها خالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٩] ﴿لَهم فِيها زَفِيرٌ وهم فِيها لا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٠] ﴿إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهم مِنّا الحُسْنى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١] ﴿لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وهم في ما اشْتَهَتْ أنْفُسُهم خالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٢] ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ وتَتَلَقّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وعْدًا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] ﴿إنَّ في هَذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٦] ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] ﴿قُلْ إنَّما يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٨] ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكم عَلى سَواءٍ وإنْ أدْرِي أقَرِيبٌ أمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٩] ﴿إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ ويَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ﴾ [الأنبياء: ١١٠] ﴿وإنْ أدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكم ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾ [الأنبياء: ١١١] ﴿قالَ رَبِّ احْكم بِالحَقِّ ورَبُّنا الرَّحْمَنُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ١١٢]
التِّمْثالُ: الصُّورَةُ المَصْنُوعَةُ مُشَبَّهَةً بِمَخْلُوقٍ مِن مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى، مَثَّلْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذا شَبَّهْتَهُ بِهِ. قالَ الشّاعِرُ:
؎ويا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ ولَيْلَةٍ بِآنِسَةٍ كَأنَّها خَطُّ تِمْثالِ
الجَذُّ القَطْعُ. قالَ الشّاعِرُ:
؎بَنُو المُهَلَّبِ جَذَّ اللَّهُ دابِرَهم ∗∗∗ أمْسَوْا رَمادًا فَلا أصْلٌ ولا طَرَفُ
النَّكْسُ: قَلْبُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ أعْلاهُ أسْفَلُ، ونَكَّسَ رَأْسَهُ بِالتَّشْدِيدِ والتَّخْفِيفِ طَأْطَأ حَتّى صارَ أعْلاهُ أسْفَلُ. البَرْدُ: مَصْدَرُ بَرُدَ، يُقالُ: بَرَّدَ الماءُ حَرارَةَ الجَوْفِ يُبَرِّدُها. قالَ الشّاعِرُ:(p-٣١٩)
؎وعَطَّلَ قَلُوصِيِ في الرِّكابِ فَإنَّها ∗∗∗ سَتُبَرِّدُ أكْبادًا وتَبْكِي بَواكِيا
النَّفْشُ: رَعْيُ الماشِيَةِ بِاللَّيْلِ بِغَيْرِ راعٍ، والهُمْلُ بِالنَّهارِ بِلا راعٍ، الغَوْصُ: الدُّخُولُ تَحْتَ الماءِ لِاسْتِخْراجِ ما فِيهِ. قالَ الشّاعِرُ:
؎أوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوّاصُها بَهِجٌ ∗∗∗ مَتى يَرَها يُهِلُّ ويَسْجُدُ
النُّونُ: الحُوتُ ويُجْمَعُ عَلى نِينانٍ، ورُوِيَ: النِّينانُ قَبْلَهُ الحُمْرُ. الفَرْجُ: يُطْلَقُ عَلى الحُرِّ والذَّكَرُ مُقابِلُ الحُرِّ وعَلى الدُّبُرِ. قالَ الشّاعِرُ:
؎وأنْتَ إذا اسْتَدْبَرْتَهُ شَدَّ فَرْجَهُ ∗∗∗ مُضافُ فُوَيْقِ الأرْضِ لَيْسَ بِأعْزَلَ
الحَدَبُ: المُسَنَّمُ مِنَ الأرْضِ كالجَبَلِ والكَدْبَةِ والقَبْرِ ونَحْوُهُ. النَّسَلانُ: مُقارَبَةُ الخَطْوِ مَعَ الإسْراعِ قالَ الشّاعِرُ:
؎عُسْلانُ الذِّئْبِ أمْسى قارِبًا ∗∗∗ بَرُدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسِلَ
الحَصَبُ: الحَطَبُ بِلُغَةِ الحَبَشَةِ إذا رَمى بِهِ في النّارِ قَبْلَ وقَبْلَ أنْ يَرْمِيَ بِهِ لا يُسَمّى حَصَبًا. وقِيلَ: الحَصَبُ ما تُوقَدُ بِهِ النّارُ. السِّجِلُّ: الصَّحِيفَةُ.
﴿ولَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وكُنّا بِهِ عالِمِينَ﴾ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ ما هَذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أنْتُمْ لَها عاكِفُونَ﴾ ﴿قالُوا وجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ﴾ ﴿قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أنْتُمْ وآباؤُكم في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿قالُوا أجِئْتَنا بِالحَقِّ أمْ أنْتَ مِنَ اللّاعِبِينَ﴾ ﴿قالَ بَل رَبُّكم رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وأنا عَلى ذَلِكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ ﴿وتاللَّهِ لَأكِيدَنَّ أصْنامَكم بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ ﴿فَجَعَلَهم جُذاذًا إلّا كَبِيرًا لَهم لَعَلَّهم إلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ .
لَمّا تَقَدَّمَ الكَلامُ في دَلائِلِ التَّوْحِيدِ (p-٣٢٠)والنُّبُوَّةِ والمَعادِ أتْبَعَ ذَلِكَ بِثَلاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا غَيْرَ مُراعًى في ذِكْرِهِمُ التَّرْتِيبُ الزَّمانِيُّ، وذَكَرَ بَعْضَ ما نالَ كَثِيرًا مِنهم مِنَ الِابْتِلاءِ كُلُّ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ ﷺ ولِيَتَأسّى بِهِمْ فِيما جَرى عَلَيْهِ مِن قَوْمِهِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿رُشْدَهُ﴾ بِضَمِّ الرّاءِ وسُكُونِ الشِّينِ. وقَرَأ عِيسى الثَّقَفِي (رَشَدَهُ) بِفَتْحِ الرّاءِ والشِّينِ وأضافَ الرُّشْدَ إلى (إبْراهِيمَ) بِمَعْنى أنَّهُ رُشْدُ مِثْلِهِ وهو رُشْدُ الأنْبِياءِ ولَهُ شَأْنٌ أيُّ شَأْنٍ، والرُّشْدُ النُّبُوَّةُ والِاهْتِداءُ إلى وُجُوهِ الصَّلاحِ في الدِّينِ والدُّنْيا، أوْ هُما داخِلانِ تَحْتَ الرُّشْدِ أوِ الصُّحُفِ والحِكْمَةِ أوِ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ صَغِيرًا أقْوالٌ خَمْسَةٌ، والمُضافُ إلَيْهِ مِن قِبَلِ مَحْذُوفٍ وهو مَعْرِفَةٌ ولِذَلِكَ بَنى (قَبْلُ) أيْ مِن قَبْلِ مُوسى وهارُونُ قالَهُ الضَّحّاكُ كَقَوْلِهِ في الأنْعامِ: ﴿ونُوحًا هَدَيْنا مِن قَبْلُ﴾ [الأنعام: ٨٤] أيْ مِن قَبْلِ إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ، وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ التَّقْدِيرَ (مِن قَبْلُ) بُلُوغِهِ أوْ (مِن قَبْلُ) نُبُوَّتِهِ يَعْنِي حِينَ كانَ في صُلْبِ آدَمَ. وأخَذَ مِيثاقَ الأنْبِياءِ، أوْ مِن قَبْلِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِأنَّها مَحْذُوفاتٌ لا يَدُلُّ عَلى حَذْفِها دَلِيلٌ بِخِلافِ (مِن قَبْلُ) مُوسى وهارُونَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرُهُما. وقُرْبُهُ، والضَّمِيرُ في (بِهِ) الظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى إبْراهِيمَ. وقِيلَ: عَلى الرُّشْدِ وعَلَّمَهُ تَعالى أنَّهُ عَلِمَ مِنهُ أحْوالًا عَجِيبَةً وأسْرارًا بَدِيعَةً فَأهَّلَهُ لَخُلَّتِهِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالاتِهِ، وهَذا مِن أعْظَمِ المَدْحِ وأبْلَغِهِ إذْ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ آتاهُ الرُّشْدَ وأنَّهُ عالِمٌ بِما آتاهُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ.
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِن ذَلِكَ إلى تَفْسِيرِ الرُّشْدِ وهو الدُّعاءُ إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ ورَفْضِ ما عُبِدَ مِن دُونِهِ. و(إذْ) مَعْمُولَةٌ لِآتَيْنا أوْ ﴿رُشْدَهُ﴾ و﴿عالِمِينَ﴾ وبِمَحْذُوفٍ أيِ اذْكُرْ مِن أوْقاتِ رُشْدِهِ هَذا الوَقْتَ، وبَدَأ أوَّلًا بِذِكْرِ أبِيهِ لِأنَّهُ الأهَمُّ عِنْدَهُ في النَّصِيحَةِ وإنْقاذُهُ مِنَ الضَّلالِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ (قَوْمُهُ) كَقَوْلِهِ ﴿وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤] وفي قَوْلِهِ ﴿ما هَذِهِ التَّماثِيلُ﴾ تَحْقِيرٌ لَها وتَصْغِيرٌ لِشَأْنِها وتَجاهُلٌ بِها مَعَ عِلْمِهِ بِها وبِتَعْظِيمِهِمْ لَها. وفي خِطابِهِ لَهم بِقَوْلِهِ (أنْتُمْ) اسْتِهانَةٌ بِهِمْ وتَوْقِيفٌ عَلى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وعَكَفَ يَتَعَدّى بِعَلى كَقَوْلِهِ ﴿يَعْكُفُونَ عَلى أصْنامٍ لَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٣٨] فَقِيلَ (لَها) هُنا بِمَعْنى عَلَيْها كَما قِيلَ في قَوْلِهِ ﴿وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ [الإسراء: ٧] والظّاهِرُ أنَّ اللّامَ في (لَها) لامُ التَّعْلِيلِ أيْ لِتَعْظِيمِها، وصِلَةُ ﴿عاكِفُونَ﴾ مَحْذُوفَةٌ أيْ عَلى عِبادَتِها. وقِيلَ: ضَمَّنَ ﴿عاكِفُونَ﴾ مَعْنى عابِدِينَ فَعَدّاهُ بِاللّامِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَنْوِ لِلْعاكِفِينَ مَحْذُوفًا وأجْراهُ مَجْرى ما لا يَتَعَدّى كَقَوْلِهِ فاعِلُونَ العُكُوفَ لَها أوْ واقِفُونَ لَها. انْتَهى.
ولَمّا سَألَهم أجابُوهُ بِالتَّقْلِيدِ البَحْتِ، وأنَّهُ فِعْلُ آبائِهِمُ اقْتَدَوْا بِهِ مِن غَيْرِ ذِكْرِ بُرْهانٍ، وما أقْبَحَ هَذا التَّقْلِيدَ الَّذِي أدّى بِهِمْ إلى عِبادَةِ خَشَبٍ وحَجَرٍ ومَعْدِنٍ ولَجاجَهم في ذَلِكَ ونُصْرَةَ تَقْلِيدِهِمْ وكانَ سُؤالُهُ عَنْ عِبادَةِ التَّماثِيلِ وغايَتِهِ أنْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً في ذَلِكَ فَيُبْطِلُها، فَلَمّا أجابُوهُ بِما لا شُبْهَةَ لَهم فِيهِ وبَدا ضَلالُهم ﴿قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أنْتُمْ وآباؤُكم في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أيْ في حَيْرَةٍ واضِحَةٍ لا التِباسَ فِيها، وحَكَمَ بِالضَّلالِ عَلى المُقَلِّدِينَ والمُقَلِّدِينَ وجَعَلَ الضَّلالَ مُسْتَقِرًّا لَهم و(أنْتُمْ) تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هو اسْمُ (كانَ) قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و(أنْتُمْ) مِنَ التَّأْكِيدِ الَّذِي لا يَصِحُّ الكَلامُ مَعَ الإخْلالِ بِهِ لِأنَّ العَطْفَ عَلى ضَمِيرِ هو في حُكْمِ بَعْضِ الفِعْلِ مُمْتَنِعٌ ونَحْوُهُ ﴿اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ [البقرة: ٣٥] . انْتَهى، ولَيْسَ هَذا حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَلا يَصِحُّ الكَلامُ مَعَ الإخْلالِ بِهِ لِأنَّ الكُوفِيِّينَ يُجِيزُونَ العَطْفَ عَلى الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ المَرْفُوعِ مِن غَيْرِ تَأْكِيدٍ بِالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ المَرْفُوعِ، ولا فَصْلٍ وتَنْظِيرُهُ ذَلِكَ: باسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ مُخالِفٌ لِمَذْهَبِهِ في ﴿اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] لِأنَّهُ يَزْعُمُ أنَّ وزَوْجُكُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في (اسْكُنْ) بَلْ قَوْلُهُ: ﴿وزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] مُرْتَفِعٌ عَلى إضْمارٍ، ولِيَسْكُنْ فَهو عِنْدَهُ مِن عَطْفِ الجُمَلِ وقَوْلُهُ هَذا مُخالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ.
ولَمّا جَرى هَذا السُّؤالُ وهَذا الجَوابُ تَعَجَّبُوا مِن تَضْلِيلِهِ إيّاهم إذْ كانَ قَدْ نَشَأ بَيْنَهم وجَوَّزُوا أنَّ ما قالَهُ هو عَلى سَبِيلِ المِزاحِ لا الجِدِّ، فاسْتَفْهَمُوهُ أهَذا جِدٌّ مِنهُ أمْ لَعِبٌ والضَّمِيرُ في (قالُوا) عائِدٌ عَلى أبِيهِ وقَوْمِهِ و(بِالحَقِّ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ ﴿أجِئْتَنا﴾ ولَمْ يُرِيدُوا حَقِيقَةَ المَجِيءِ لِأنَّهُ لَمْ (p-٣٢١)يَكُنْ عَنْهم غائِبًا فَجاءَهم وهو نَظِيرُ ﴿قالَ أوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ٣٠] والحَقُّ هُنا ضِدُّ الباطِلِ وهو الجِدُّ، ولِذَلِكَ قابَلُوهُ بِاللَّعِبِ، وجاءَتِ الجُمْلَةُ اسْمِيَّةً لِكَوْنِها أثْبَتَ كَأنَّهم حَكَمُوا عَلَيْهِ بِأنَّهُ لاعِبٌ هازِلٌ في مَقالَتِهِ لَهم ولِكَوْنِها فاصِلَةً.
ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ وأخْبَرَ عَنِ الجِدِّ وأنَّ المالِكَ لَهم والمُسْتَحِقَّ العِبادَةَ هو رَبُّهم ورَبُّ هَذا العالَمِ العُلْوِيِّ والعالَمِ السُّفْلِيِّ المُنْدَرِجِ فِيهِ أنْتُمْ ومَعْبُوداتُكم نَبَّهَ عَلى المُوجِبِ لِلْعِبادَةِ وهو مُنْشِئُ هَذا العالَمِ ومُخْتَرِعُهُ مِنَ العَدَمِ الصِّرْفِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿فَطَرَهُنَّ﴾ عائِدٌ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ، ولَمّا لَمْ تَكُنِ السَّماواتُ والأرْضُ تَبْلُغُ في العَدَدِ الكَثِيرِ مِنهُ جاءَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ القِلَّةِ. وقِيلَ في ﴿فَطَرَهُنَّ﴾ عائِدٌ عَلى التَّماثِيلِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وكَوْنُهُ لِلتَّماثِيلِ أدْخَلَ في تَضْلِيلِهِمْ وأثْبَتَ لِلِاحْتِجاجِ عَلَيْهِمْ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (فَطَرَهُنَّ) عِبارَةٌ عَنْها كَأنَّها تَعْقِلُ، هَذِهِ مِن حَيْثُ لَها طاعَةٌ وانْقِيادٌ وقَدْ وُصِفَتْ في مَواضِعَ بِما يُوصَفُ بِهِ مَن يَعْقِلُ. وقالَ غَيْرُ ﴿فَطَرَهُنَّ﴾ أعادَ ضَمِيرَ مَن يَعْقِلُ لِما صَدَرَ مِنهُنَّ مِنَ الأحْوالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلى أنَّها مِن قَبِيلِ مَن يَعْقِلُ، فَإنَّ اللَّهَ أخْبَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] وقَوْلُهُ: ﷺ (أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ) . . انْتَهى. وكَأنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ وهَذا القائِلُ تَخَيَّلا أنَّ هُنَّ مِنَ الضَّمائِرِ الَّتِي تَخُصُّ مَن يَعْقِلُ مِنَ المُؤَنَّثاتِ ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هو لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَن يَعْقِلُ وما لا يَعْقِلُ مِنَ المُؤَنَّثِ المَجْمُوعِ ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الأرْبَعَةِ الحُرُمِ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكم) إلى رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى ووَصْفِهِ بِالِاخْتِراعِ لِهَذا العالَمِ و(مِن) لِلتَّبْعِيضِ أيِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ كَثِيرُونَ، وأنا بَعْضٌ مِنهم أيْ ما قُلْتُهُ أمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنهُ عَلَيْهِ شُهُودٌ كَثِيرُونَ فَهو مَقالٌ مُصَحَّحٌ بِالشُّهُودِ. و﴿عَلى ذَلِكُمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ (وأنا) شاهِدٌ ﴿عَلى ذَلِكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ أوْ عَلى جِهَةِ البَيانِ أيْ أعْنِي ﴿عَلى ذَلِكُمْ﴾ أوْ بِاسْمِ الفاعِلِ وإنْ كانَ في صِلَةِ أل لِاتِّساعِهِمْ في الظَّرْفِ والمَجْرُورِ أقْوالٌ تَقَدَّمَتْ في ﴿إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢١] وبادَرَهم أوَّلًا بِالقَوْلِ المُنَبِّهِ عَلى دَلالَةِ العَقْلِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِالقَوْلِ، فانْتَقَلَ إلى القَوْلِ الدّالِّ عَلى الفِعْلِ الَّذِي مَآلُهُ إلى الدَّلالَةِ التّامَّةِ عَلى عَدَمِ الفائِدَةِ في عِبارَةِ ما يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ بِالكَسْرِ والتَّقْطِيعِ وهو لا يَدْفَعُ ولا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ ولا يَشْعُرُ بِما ورَدَ عَلَيْهِ مِن فَكِّ أجْزائِهِ فَقالَ: ﴿وتاللَّهِ لَأكِيدَنَّ أصْنامَكُمْ﴾ وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿وتاللَّهِ﴾ بِالتّاءِ. وقَرَأ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِاللَّهِ بِالباءِ بِواحِدَةٍ مِن أسْفَلُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما الفَرْقُ بَيْنَ التّاءِ والباءِ ؟ قُلْتُ: إنَّ الباءَ هي الأصْلُ والتّاءُ بَدَلٌ مِنَ الواوِ المُبْدَلِ مِنها، وإنَّ التّاءَ فِيها زِيادَةُ مَعْنًى وهو التَّعَجُّبُ، كَأنَّهُ تَعَجَّبَ مَن تَسَهُّلِ الكَيْدِ عَلى يَدِهِ وتَأْتِيهِ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ أمْرًا مَقْنُوطًا مِنهُ لِصُعُوبَتِهِ وتَعَذُّرِهِ، ولَعَمْرِي إنَّ مِثْلَهُ صَعْبٌ مُتَعَذِّرٌ في كُلِّ زَمانٍ خُصُوصًا في زَمَنِ نَمْرُوذَ مَعَ عُتُوِّهِ واسْتِكْبارِهِ وقُوَّةِ سُلْطانِهِ وتَهالُكِهِ عَلى نَصْرِ دِينِهِ ولَكِنْ.
؎إذا اللَّهُ سَنى عَقْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرا
انْتَهى. أمّا قَوْلُهُ الباءُ هي الأصْلُ إنَّما كانَتْ أصْلًا لِأنَّها أوْسَعُ حُرُوفِ القَسَمِ إذْ تَدْخُلُ عَلى الظّاهِرِ، والمُضْمَرِ ويُصَرَّحُ بِفِعْلِ القَسَمِ مَعَها وتُحْذَفُ (p-٣٢٢)وأمّا أنَّ التّاءَ بَدَلٌ مِن واوِ القَسَمِ الَّذِي أُبْدِلَ مِن باءِ القَسَمِ فَشَيْءٌ قالَهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحاةِ، ولا يَقُومُ عَلى ذَلِكَ دَلِيلٌ وقَدَّرَ هَذا القَوْلَ السُّهَيْلِيُّ والَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنها أصْلًا لِآخَرِ. وأمّا قَوْلُهُ: إنَّ التّاءَ فِيها زِيادَةُ مَعْنًى وهو التَّعَجُّبُ فَنُصُوصُ النُّحاةِ أنَّ التّاءَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعَها تَعَجُّبٌ، ويَجُوزُ أنْ لا يَكُونَ واللّامُ هي الَّتِي يَلْزَمُها التَّعَجُّبُ في القَسَمِ.
والكَيْدُ الِاحْتِيالُ في وُصُولِ الضَّرَرِ إلى المَكِيدِ، والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ خاطَبَ بِها أباهُ وقَوْمَهُ وأنَّها مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ القَوْلِ مِن قَوْلِهِ ﴿قالَ بَل رَبُّكُمْ﴾ . وقِيلَ: قالَ ذَلِكَ سِرًّا مَن قَوْمِهِ وسَمِعَهُ رَجُلٌ واحِدٌ. وقِيلَ: سَمِعَهُ قَوْمٌ مِن ضَعَفَتِهِمْ مِمَّنْ كانَ يَسِيرُ في آخِرِ النّاسِ يَوْمَ خَرَجُوا إلى العِيدِ وكانَتِ الأصْنامُ سَبْعِينَ. وقِيلَ: اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ مُضارِعُ ولّى. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ (تُوَلُّوا) فَحَذَفَ إحْدى التّاءَيْنِ وهي الثّانِيَةُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. والأوْلى عَلى مَذْهَبِ هِشامٍ وهو مُضارِعُ تَوَلّى وهو مُوافِقٌ لِقَوْلِهِ ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ [الصافات: ٩٠] ومُتَعَلِّقُ (تَوَلَّوْا) مَحْذُوفٌ أيْ إلى عِيدِكم. ورُوِيَ أنَّ آزَرَ خَرَجَ بِهِ في يَوْمِ عِيدٍ لَهم فَبَدَؤُوا بِبَيْتِ الأصْنامِ فَدَخَلُوهُ وسَجَدُوا لَها ووَضَعُوا بَيْنَها طَعامًا خَرَجُوا بِهِ مَعَهم، وقالُوا: لَنْ تَرْجِعَ بَرَكَةُ الآلِهَةِ عَلى طَعامِنا فَذَهَبُوا، فَلَمّا كانَ في الطَّرِيقِ ثَنى عَزْمَهُ عَنِ المَسِيرِ مَعَهم فَقَعَدَ وقالَ: إنِّي سَقِيمٌ. وقالَ الكَلْبِيُّ: كانَ إبْراهِيمُ مِن أهْلِ بَيْتٍ يَنْظُرُونَ في النُّجُومِ، وكانُوا إذا خَرَجُوا إلى عِيدِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا إلّا مَرِيضًا فَأتاهم إبْراهِيمُ بِالَّذِي هم فِيهِ فَنَظَرَ قَبْلَ يَوْمِ العِيدِ إلى السَّماءِ وقالَ لِأصْحابِهِ: إنِّي أشْتَكِي غَدًا وأصْبَحَ مَعْصُوبَ الرَّأْسِ فَخَرَجُوا ولَمْ يَتَخَلَّفْ أحَدٌ غَيْرُهُ، وقالَ ﴿وتاللَّهِ لَأكِيدَنَّ﴾ إلى آخِرِهِ وسَمِعَهُ رَجُلٌ فَحَفِظَهُ ثُمَّ أخْبَرَ بِهِ فانْتَشَرَ. انْتَهى.
وفِي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرِهِ فَتَوَلَّوْا إلى عِيدِهِمْ فَأتى إبْراهِيمُ الأصْنامَ ﴿فَجَعَلَهم جُذاذًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: حُطامًا. وقالَ الضَّحّاكُ: أخَذَ مِن كُلِّ عُضْوَيْنِ عُضْوًا. وقِيلَ: وكانَتِ الأصْنامُ مُصْطَفَّةً وصَنَمٌ مِنها عَظِيمٌ مُسْتَقْبِلُ البابِ مِن ذَهَبٍ وفي عَيْنَيْهِ دُرَّتانِ مُضِيئَتانِ فَكَسَرَها بِفَأْسٍ إلّا ذَلِكَ الصَّنَمَ وعَلَّقَ الفَأْسَ في عُنُقِهِ، وقِيلَ: عَلَّقَهُ في يَدِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿جُذاذًا﴾ بِضَمِّ الجِيمِ والكِسائِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وابْنُ مِقْسَمٍ وأبُو حَيْوَةَ وحُمَيدٌ والأعْمَشُ في رِوايَةٍ بِكَسْرِها، وابْنُ عَبّاسٍ وأبُو نَهِيكٍ وأبُو السَّمّاكِ بِفَتْحِها وهي لُغاتٌ أجْوَدُها الضَّمُّ كالحُظامِ والرُّفاتِ قالَهُ أبُو حاتِمٍ. وقالَ اليَزِيدِيُّ ﴿جُذاذًا﴾ بِالضَّمِّ جَمْعُ جُذاذَةٍ كَزُجاجٍ وزُجاجَةٍ. وقِيلَ: بِالكَسْرِ جَمْعُ جَذِيذٍ كَكَرِيمٍ وكِرامٍ. وقِيلَ: الفَتْحُ مَصْدَرٌ كالحَصادِ بِمَعْنى المَحْصُودِ فالمَعْنى مَجْذُوذِينَ. وقالَ قُطْرُبٌ في لُغاتِهِ الثَّلاثِ هو مَصْدَرٌ لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ. وقَرَأ يَحْيَـى بْنُ وثّابٍ جُذَذًا بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جَذِيذٍ كَجَدِيدٍ وجُدُدٍ. وقُرِئَ جُذاذًا بِضَمِّ الجِيمِ وفَتْحِ الذّالِ مُخَفَّفًا مِن فِعْلٍ كَسُرُرٍ في سُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ وهي لُغَةٌ لِكَلْبٍ، أوْ جَمْعُ جُذَّةٍ كَقُبَّةٍ وقُبَبٍ.
وأتى بِضَمِيرِ مَن يَعْقِلُ في قَوْلِهِ ﴿فَجَعَلَهُمْ﴾ إذْ كانَتْ تَعْبُدُ وقَوْلُهُ: ﴿إلّا كَبِيرًا لَهُمْ﴾ اسْتِثْناءٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿فَجَعَلَهُمْ﴾ أيْ فَلَمْ يَكْسِرْ، والضَّمِيرُ في (لَهم) يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الأصْنامِ وأنْ يَعُودَ عَلى عِبادِهِ، والكِبْرُ هُنا عِظَمُ الجُثَّةِ أوْ كَبِيرًا في المَنزِلَةِ عِنْدَهم لِكَوْنِهِمْ صاغُوهُ مَن ذَهَبٍ وجَعَلُوا في عَيْنَيْهِ جَوْهَرَتَيْنِ تُضِيئانِ بِاللَّيْلِ، والضَّمِيرُ في (إلَيْهِ) عائِدٌ عَلى إبْراهِيمَ أيْ فَعَلَ ذَلِكَ تَرَجِّيًا مِنهُ أنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ رَجْعُهُ إلَيْهِ وإلى شَرْعِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما اسْتَبْقى الكَبِيرَ لِأنَّهُ غَلَبَ في ظَنِّهِ أنَّهم لا يَرْجِعُونَ إلّا إلَيْهِ لِما تَسامَعُوهُ مِن إنْكارِهِ لِدِينِهِمْ وسَبِّهِ لِآلِهَتِهِمْ فَيَبْكِتُهم بِما أجابَ بِهِ مِن قَوْلِهِ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا فاسْألُوهُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٣] . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ إلى الكَبِيرِ المَتْرُوكِ ولَكِنْ يُضْعِفُ ذَلِكَ دُخُولُ التَّرَجِّي في الكَلامِ. انْتَهى.
وهُوَ قَوْلُ الكَلْبِيِّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْنى هَذا لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ إلَيْهِ كَما يُرْجَعُ إلى العالِمِ في حَلِّ المُشْكِلاتِ، فَيَقُولُونَ ما لِهَؤُلاءِ مَكْسُورَةً ومالَكَ صَحِيحًا والفَأْسُ عَلى عاتِقِكَ قالَ: هَذا بِناءٌ (p-٣٢٣)عَلى ظَنِّهِ بِهِمْ لِما جَرَّبَ وذاقَ مِن مُكابَرَتِهِمْ لِعُقُولِهِمْ واعْتِقادِهِمْ في آلِهَتِهِمْ وتَعْظِيمِهِمْ لَها أوْ قالَهُ مَعَ عِلْمِهِ أنَّهم لا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ اسْتِهْزاءً بِهِمْ واسْتِجْهالًا، وإنَّ قِياسَ حالِ مَن يُسْجَدُ لَهُ ويُؤَهَّلُ لِلْعِبادَةِ أنْ يُرْجَعَ إلَيْهِ في حَلِّ المُشْكِلِ فَإنْ قُلْتَ: فَإذا رَجَعُوا إلى الصَّنَمِ بِمُكابَرَتِهِمْ لِعُقُولِهِمْ ورُسُوخِ الإشْراكِ في أعْراقِهِمْ فَأيُّ فائِدَةٍ دِينِيَّةٍ في رُجُوعِهِمْ إلَيْهِ حَتّى يَجْعَلَهُ إبْراهِيمُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ غَرَضًا ؟ قُلْتُ: إذا رَجَعُوا إلَيْهِ تَبَيَّنَ أنَّهُ عاجِزٌ لا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ وظَهَرَ أنَّهم في عِبادَتِهِ عَلى أمْرٍ عَظِيمٍ.
{"ayahs_start":51,"ayahs":["۞ وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَـٰلِمِینَ","إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِیلُ ٱلَّتِیۤ أَنتُمۡ لَهَا عَـٰكِفُونَ","قَالُوا۟ وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا لَهَا عَـٰبِدِینَ","قَالَ لَقَدۡ كُنتُمۡ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُمۡ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ","قَالُوۤا۟ أَجِئۡتَنَا بِٱلۡحَقِّ أَمۡ أَنتَ مِنَ ٱللَّـٰعِبِینَ","قَالَ بَل رَّبُّكُمۡ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلَّذِی فَطَرَهُنَّ وَأَنَا۠ عَلَىٰ ذَ ٰلِكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ","وَتَٱللَّهِ لَأَكِیدَنَّ أَصۡنَـٰمَكُم بَعۡدَ أَن تُوَلُّوا۟ مُدۡبِرِینَ","فَجَعَلَهُمۡ جُذَ ٰذًا إِلَّا كَبِیرࣰا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَیۡهِ یَرۡجِعُونَ"],"ayah":"قَالُوا۟ وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا لَهَا عَـٰبِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق