الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ﴾: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في عُلَماءِ اليَهُودِ، كانُوا يُصِيبُونَ مِن سَفَلَتِهِمْ هَدايا، وكانُوا يَرْجُونَ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ المَبْعُوثُ مِنهم. فَلَمّا بُعِثَ مِن غَيْرِهِمْ، غَيَّرُوا صِفَتَهُ وقالُوا: هَذا نَعْتُ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمانِ، حَتّى لا يَتَّبِعُوهُ. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنَّ المُلُوكَ سَألُوا عُلَماءَهم قَبْلَ المَبْعَثِ: ما الَّذِي تَجِدُونَ في التَّوْراةِ ؟ فَقالُوا: نَجِدُ أنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ نَبِيًّا، مِن بَعْدِ المَسِيحِ يُقالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، بِتَحْرِيمِ الرِّبا والخَمْرِ والمَلاهِي وسَفْكِ الدِّماءِ. فَلَمّا بُعِثَ، قالَتِ المُلُوكُ لِلْيَهُودِ: هَذا الَّذِي تَجِدُونَهُ في كِتابِكم ؟ فَقالُوا - طَمَعًا في أمْوالِ المُلُوكِ -: لَيْسَ هَذا بِذَلِكَ النَّبِيِّ. فَأعْطاهُمُ المُلُوكُ الأمْوالَ، فَأُنْزِلَتْ إكْذابًا لَهم. وقِيلَ: نَزَلَتْ في كُلِّ كاتِمِ حَقٍّ لِأخْذِ غَرَضٍ أوْ إقامَةِ غَرَضٍ مِن مُؤْمِنٍ ويَهُودِيٍّ ومُشْرِكٍ ومُعَطِّلٍ. وإنْ صَحَّ سَبَبُ نُزُولٍ، فَهي عامَّةٌ والحُكْمُ لِلْعُمُومِ. وإنْ كانَ السَّبَبُ خاصًّا، فَيَتَناوَلُ مِن عُلَماءِ المُسْلِمِينَ مَن كَتَمَ الحَقَّ مُخْتارًا لِذَلِكَ، لِسَبَبِ دُنْيا يُصِيبُها. ”ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ“: ظاهِرُهُ أنَّهُ أُنْزِلَ مِن عُلُوٍّ إلى أسْفَلُ، وأنَّهُ تَعالى أنْزَلَ مَلَكًا بِهِ، أيْ بِالكِتابِ عَلى رَسُولِهِ. وقِيلَ: مَعْنى ”أنْزَلَ اللَّهُ“ أيْ أظْهَرَ، كَقَوْلِهِ: ﴿سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ٩٣]، أيْ أُظْهِرُ. فَكَوْنُ المَعْنى: أنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أظْهَرَ اللَّهُ، فَيَكُونُ الإظْهارُ في مُقابَلَةِ الكِتْمانِ. وفي المُرادِ بِالكِتابِ هُنا أقْوالٌ: أحَدُها: أنَّهُ التَّوْراةُ، فَيَكُونُ الكاتِمُونَ أحْبارَ اليَهُودِ، كَتَمُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وغَيَّرُوها، وكَتَمُوا آياتٍ في التَّوْراةِ، كَآيَةِ الرَّجْمِ وشِبْهِ ذَلِكَ. وقِيلَ: التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، ووَحَّدَ اللَّفْظَ عَلى المَكْتُوبِ، ويَكُونُ الكاتِمُونَ اليَهُودَ والنَّصارى. وصَفَ اللَّهُ نَبِيَّهُ في الكِتابَيْنِ، ونَعَتَهُ فِيهِما وسَمّاهُ فَقالَ: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، وقالَ: ﴿ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ﴾ [الصف: ٦] . والطّائِفَتانِ أنْكَرُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقَدْ شَهِدَتِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ بِذَلِكَ، والنُّصُوصُ مَوْجُودَةٌ فِيهِما الآنَ في مَواضِعَ مِنها في التَّوْراةِ في الفَصْلِ التّاسِعِ، وفي الفَصْلِ العاشِرِ مِنَ السِّفْرِ الأوَّلِ، وفي الفَصْلِ العِشْرِينَ مِنَ السِّفْرِ الخامِسِ. ومِنها في الإنْجِيلِ مَواضِعُ تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، قَدْ ذَكَرَ جَمِيعَها مَن تَعَرَّضَ لِلْكَلامِ عَلى ذَلِكَ. وقِيلَ: الكِتابُ المَكْتُوبُ، وهو أعَمُّ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، فَيَتَناوَلُ كُلَّ مَن كَتَمَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالأحْكامِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، وكُلُّ كاتِمٍ لِحَقٍّ وساتِرٍ لِأمْرٍ مَشْرُوعٍ. ﴿ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾: لَمّا تَعَوَّضُوا عَنِ الكَتْمِ شَيْئًا مِن سُحْتِ الدُّنْيا، أشْبَهَ ذَلِكَ البَيْعَ والشِّراءَ؛ لِانْطِوائِهِما عَلى عِوَضٍ ومُعَوَّضٍ عَنْهُ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اشْتِراءٌ. و”بِهِ“: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الكِتْمانِ أوِ الكِتابِ، أوْ عَلى المَوْصُولِ الَّذِي هو: ما أقْوالُ ثَلاثَةٌ، أظْهَرُها الآخِرُ، ويَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ بِكَتْمِ ما أنْزَلَ اللَّهُ. والفَرْقُ بَيْنَ هَذا القَوْلِ وقَوْلِ مَن جَعَلَهُ عائِدًا عَلى الكَتْمِ، أنَّهُ يَكُونُ في ذَلِكَ القَوْلِ عائِدًا عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: (يَكْتُمُونَ)، وفي هَذا عائِدًا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٧٩]، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ، إلّا فِعْلَ الِاشْتِراءِ جُعِلَ عِلَّةً هُناكَ وهُنا جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ (يَكْتُمُونَ) ورَتَّبَ الخَبَرَ عَلى مَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ (p-٤٩٢)مِنَ الكَتْمِ والِاشْتِراءِ؛ لِأنَّ الكَتْمَ لَيْسَتْ أسْبابُهُ مُنْحَصِرَةً في الِاشْتِراءِ، بَلِ الِاشْتِراءُ بَعْضُ أسْبابِهِ. فَكَتْمُ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ، وهو أمْرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وإنْكارُ نُبُوَّتِهِ وتَبْدِيلُ صِفَتِهِ، كانَ لِأُمُورٍ مِنها البَغْيُ، ﴿بَغْيًا أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [البقرة: ٩٠] . ومِنها الخَسارَةُ لِكَوْنِهِ مِنَ العَرَبِ لا مِنهم. ومِنها طَلَبُ الرِّياسَةِ، وأنْ يَسْتَتْبِعُوا أهْلَ مِلَّتِهِمْ. ومِنها تَحْصِيلُ أمْوالِهِمْ ورِشاءُ مُلُوكِهِمْ وعَوامِّهِمْ. ﴿أُولَئِكَ ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ﴾: أتى بِخَبَرِ إنَّ جُمْلَةً؛ لِأنَّها أبْلَغُ مِنَ المُفْرَدِ، وصَدَّرَ بِأُولَئِكَ، إذْ هو اسْمُ إشارَةٍ دالٌّ عَلى اتِّصافِ المُخْبَرِ عَنْهُ بِالأوْصافِ السّابِقَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ في ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] . ثُمَّ أخْبَرْ عَنْ أُولَئِكَ بِأخْبارٍ أرْبَعَةٍ: الأوَّلُ: ﴿ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ﴾، فَمِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى ظاهِرِهِ وقالَ: إنَّ ذَلِكَ يَكُونُ في الدُّنْيا، وإنَّ الرِّشاءَ الَّتِي هم يَأْكُلُونَها تَصِيرُ في أجْوافِهِمْ نارًا، فَلا يُحِسُّونَ بِها إلّا بَعْدَ المَوْتِ. ومَنَعَ تَعالى أنْ يُدْرِكُوا أنَّها نارٌ، اسْتِدْراجًا وإمْلاءً لَهم. ويَكُونُ في هَذا المَعْنى بَعْضُ تَجَوُّزٍ؛ لِأنَّهُ حالَةَ الأكْلِ لَمْ يَكُنْ نارًا، إنَّما بَعْدُ صارَتْ في بُطُونِهِمْ نارًا. وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ يَكُونُ في الآخِرَةِ، فَهو حَقِيقَةٌ أيْضًا. واخْتَلَفُوا فَقِيلَ: جَمِيعُ ما أكَلُوهُ مِنَ السُّحْتِ والرِّشاءِ في الدُّنْيا يُجْعَلُ نارًا في الآخِرَةِ، ثُمَّ يُطْعِمُهُمُ اللَّهُ إيّاهُ في النّارِ. وقِيلَ: يَأْمُرُ الزَّبانِيَةَ أنْ تُطْعِمَهُمُ النّارَ لِيَكُونَ عُقُوبَةَ الأكْلِ مِن جِنْسِهِ. وأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ﴾، عَلى مَعْنى: أنَّهم يُجازَوْنَ عَلى ما اقْتَرَفُوهُ مِن كَتْمِ ما أنْزَلَ اللَّهُ والِاشْتِراءِ بِهِ الثَّمَنَ القَلِيلَ، بِالنّارِ. وإنَّ ما اكْتَسَبُوهُ بِهَذِهِ الأوْصافِ الذَّمِيمَةِ مَآلُهُ إلى النّارِ. وعَبَّرَ بِالأكْلِ؛ لِأنَّهُ أعْظَمُ مَنافِعِ ما تُصْرَفُ فِيهِ الأمْوالُ. وذَكَرَ (في بُطُونِهِمْ)، إمّا عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إذْ مَعْلُومٌ أنَّ الأكْلَ لا يَكُونُ إلّا في البَطْنِ، فَصارَ نَظِيرُ: ﴿ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] . أوْ كِنايَةٌ عَنْ مَلْءِ البَطْنِ؛ لِأنَّهُ يُقالُ: فُلانٌ أكَلَ في بَطْنِهِ، وفُلانٌ أكَلَ في بَعْضِ بَطْنِهِ. أوْ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ المَجازِ، إذْ يُقالُ: أكَلَ فُلانٌ مالَهُ إذْ بَذَرَهُ، وإنْ لَمْ يَأْكُلْهُ. وجَعَلَ المَأْكُولَ النّارَ، تَسْمِيَةً لَهُ بِما يَؤُولُ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ سَبَبُ النّارِ، وذَلِكَ كَما يَقُولُونَ: أكَلَ فُلانٌ الدَّمَ، يُرِيدُونَ الدِّيَةَ؛ لِأنَّها بَدَلٌ مِنَ الدَّمِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎فَلَوْ أنَّ حَيًّا يَقْبَلُ المالَ فِدْيَةً لَسُقْنا إلَيْهِ المالَ كالسَّيْلِ مُفْعَما ؎ولَكِنْ لَنا قَوْمٌ أُصِيبَ أخُوهُمُ ∗∗∗ رِضا العارِ واخْتارُوا عَلى اللَّبَنِ الدَّما وقالَ آخَرُ: ؎أكَلْتُ دَمًا إنْ لَمْ أرْعَكَ بِضَرْبَةٍ ∗∗∗ بَعِيدَةِ مَهْوى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ وقالَ آخَرُ: ؎تَأْكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ أكافا أيْ ثَمَنَ أكافٍ، ومَعْنى التَّلَبُّسِ مَوْجُودٌ في جَمِيعِ ذَلِكَ. وتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِما يَؤُولُ إلَيْهِ كَثِيرٌ، ومِن ذَلِكَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا﴾ [النساء: ١٠]، ومِن ذَلِكَ الَّذِي يَشْرَبُ في آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، إنَّما يَجُرُّ في بَطْنِهِ نارَ جَهَنَّمَ، وذَكَرَ في بُطُونِهِمْ تَنْبِيهًا عَلى شَرِّهِمْ وتَقْبِيحًا لِتَضْيِيعِ أعْظَمِ النِّعَمِ لِأجَلِ المَطْعُومِ الَّذِي هو أحْسَنُ مُتَناوَلٍ، قالَهُ الرّاغِبُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوَهُ، قالَ: وفي ذِكْرِ البَطْنِ تَنْبِيهٌ عَلى مَذْهَبِهِمْ، بِأنَّهم باعُوا آخِرَتَهم بِحَظِّهِمْ مِنَ المَطْعَمِ الَّذِي لا خَطَرَ لَهُ، وعَلى هِجْنَتِهِمْ بِطاعَةِ بُطُونِهِمْ. ﴿ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ﴾: هَذا الخَبَرُ الثّانِي عَنْ أُولَئِكَ، وظاهِرُهُ نَفْيُ الكَلامِ مُطْلَقًا، أعْنِي مُباشَرَتَهم بِالكَلامِ، فَيَكُونُ ما جاءَ في القُرْآنِ، أوْ في السُّنَّةِ، مِمّا ظاهِرُهُ أنَّهُ تَعالى يُحاوِرُهم بِالكَلامِ، مُتَأوَّلًا بِأنَّهُ يَأْمُرُ مَن يَقُولُ لَهم ذَلِكَ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨]، ويَكُونُ في نَفْيِ كَلامِهِ تَعالى (p-٤٩٣)إيّاهم، دَلالَةٌ عَلى الغَضَبِ عَلَيْهِمْ، ألا تَرى أنَّ مَن غَضِبَ عَلى شَخْصٍ صَرَمَهُ وقَطَعَ كَلامَهُ؛ لِأنَّ في التَّكَلُّمِ - ولَوْ كانَ بِشَرٍّ - تَأْنِيسًا ما والتِفاتًا إلى المُكَلَّمِ. وقِيلَ: مَعْنى ”ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ“: أيْ يَغْضَبُ عَلَيْهِمْ. ولَيْسَ المُرادُ نَفْيُ الكَلامِ، إذْ قَدْ جاءَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ ما ظاهِرُهُ: أنَّهُ يُكَلِّمُ الكافِرِينَ، قالَهُ الحَسَنُ. وقِيلَ: المَعْنى لَيْسَ عَلى العُمُومِ، إذْ قَدْ جاءَ في القُرْآنِ ما ظاهِرُهُ أنَّهُ يُكَلِّمُهم، كَقَوْلِهِ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٩٢]، والسُّؤالُ لا يَكُونُ إلّا بِالتَّكْلِيمِ، وقالَ: ﴿قالَ اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] . فالمَعْنى: لا يُكَلِّمُهم كَلامَ خَيْرٍ وإقْبالٍ وتَحِيَّةٍ، وإنَّما يُكَلِّمُهم كَلامًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. وقِيلَ: المَعْنى لا يُرْسِلُ إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ بِالتَّحِيَّةِ. وقِيلَ: ”ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ“ تَعْرِيضٌ بِحِرْمانِهِمْ حالَ أهْلِ الجَنَّةِ في تَكْرِمَةِ اللَّهِ إيّاهم بِكَلامِهِ. وقِيلَ: المَعْنى لا يَحْمِلُهم عَلى الكَلامِ؛ لِأنَّ مَن كَلَّمْتَهُ، كُنْتَ قَدِ اسْتَدْعَيْتَ كَلامَهُ، كَأنَّهُ قالَ: لا يُسْتَدْعى كَلامُهم فَيَكُونُ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿ولا يُؤْذَنُ لَهم فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦]، فَنَفى الكَلامَ، وهو يُرادُ ما يَلْزَمُ عَنْهُ، وهو اسْتِدْعاءُ الكَلامِ. ﴿ولا يُزَكِّيهِمْ﴾: هَذا هو الخَبَرُ الثّالِثُ، والمَعْنى: لا يَقْبَلُ أعْمالَهم كَما يَقْبَلُ أعْمالَ الأزْكِياءِ، أوْ لا يُنْزِلُهم مَنزِلَةَ الأزْكِياءِ. وقِيلَ: المَعْنى لا يُصْلِحُ أعْمالَهُمُ الخَبِيثَةَ. وقِيلَ: المَعْنى لا يُثْنِي عَلَيْهِمْ مِن قَوْلِهِمْ: زَكّى فَلانا، إذا أثْنى عَلَيْهِ، قالَهُ الزَّجّاجُ. وقِيلَ: لا يُطَهِّرُهم مِن دَنَسِ كُفْرِهِمْ، وهو مَعْنى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: لا يُطَهِّرُهم مِن مُوجِباتِ العَذابِ، قالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وقِيلَ: المَعْنى لا يُسَمِّيهِمْ أزْكِياءً. (ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ): هَذا هو الخَبَرُ الرّابِعُ لِأُولَئِكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: (ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ)، في أوَّلِ السُّورَةِ. وتَرَتَّبَ عَلى الكِتْمانِ واشْتِراءِ الثَّمَنِ القَلِيلِ هَذِهِ الأخْبارُ الأرْبَعَةُ، وانْعَطَفَتْ بِالواوِ الجامِعَةِ لَها. وعَطَفَ الأخْبارَ بِالواوِ، ولا خِلافَ في جَوازِهِ، بِخِلافِ أنْ لا تَكُونَ مَعْطُوفَةً، فَإنَّ في ذَلِكَ خِلافًا وتَفْصِيلًا. وناسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الأخْبارِ ما قَبْلَها، ومُناسِبٌ عَطْفُ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ، لِما نَذْكُرُهُ فَنَقُولُ: مَتى ذُكِرَ وصْفٌ ورُتِّبَ عَلَيْهِ أمْرٌ، فَلِلْعَرَبِ فِيهِ طَرِيقانِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ تِلْكَ الأُمُورُ المُتَرَتِّبَةُ عَلى الأوْصافِ مُقابَلَةً لَها، الأوَّلُ مِنها لِأوَّلِ تِلْكَ الأوْصافِ، والثّانِي لِلثّانِي، فَتَحْصُلُ المُقابَلَةُ مِن حَيْثُ المَعْنى ومِن حَيْثُ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ، حَيْثُ قُوبِلَ الأوَّلُ بِالأوَّلِ، والثّانِي بِالثّانِي. وتارَةً يَكُونُ الأوَّلُ مِن تِلْكَ الأُمُورِ مُجاوِرًا لِما يَلِيهِ مِن تِلْكَ الأوْصافِ، فَتَحْصُلُ المُقابَلَةُ مِن حَيْثُ المَعْنى، لا مِن حَيْثُ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ، وهَذِهِ الآيَةُ جاءَتْ مِن هَذا القَبِيلِ. لَمّا ذَكَرَ تَعالى اشْتِراءَهُمُ الثَّمَنَ القَلِيلَ، وكانَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنْ مَطاعِمِهِمُ الخَسِيسَةِ الفانِيَةِ، بَدَأ أوَّلًا في الخَبَرِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ﴾ . ثُمَّ قابَلَ تَعالى كِتْمانَهُمُ الدِّينَ، والكِتْمانُ هو أنْ لا يَتَكَلَّمُوا بِهِ بَلْ يُخْفُوهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾، فَجُوزُوا عَلى مَنعِ التَّكَلُّمِ بِالدِّينِ أنْ مُنِعُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ إيّاهم، وابْتَنى عَلى كِتْمانِهِمُ الدِّينَ، واشْتِرائِهِمْ بِما أنْزَلَ اللَّهُ ثَمَنًا قَلِيلًا، أنَّهم شُهُودُ زُورٍ وأخْبارُ سُوءٍ، حَيْثُ غَيَّرُوا نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وادَّعُوا أنَّ النَّبِيَّ المُبْتَعَثَ هو غَيْرُ هَذا، فَقُوبِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا يُزَكِّيهِمْ﴾ . ثُمَّ ذَكَرَ أخِيرًا ما أُعِدَّ لَهم مِنَ العَذابِ الألِيمِ، فَرَتَّبَ عَلى اشْتِراءِ الثَّمَنِ القَلِيلِ قَوْلَهُ: ﴿ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ﴾، وعَلى الكِتْمانِ قَوْلَهُ: ﴿ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾، وعَلى مَجْمُوعِ الوَصْفَيْنِ قَوْلَهُ: ﴿ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ . فَبَدَأ أوَّلًا: بِما يُقابِلُ فَرْدًا فَرْدًا، وثانِيًا: بِما يُقابِلُ المَجْمُوعَ. ولَمّا كانَتِ الجُمْلَةُ الأوْلى مُشْتَمِلَةً عَلى فِعْلٍ مُسْنَدٍ إلى اللَّهِ، كانَ الكَلامُ الَّذِي قابَلَها فِيهِ فِعْلٌ مُسْنَدٌ إلى اللَّهِ. ولَمّا كانَتِ الثّانِيَةُ مُسْنَدَةً إلَيْهِمْ، لَيْسَ فِيها إسْنادٌ إلى اللَّهِ جاءَتِ الجُمْلَةُ المُقابَلَةُ لَها مُسْنَدَةً إلَيْهِمْ، ولَمْ يَأْتِ ما يُطْعِمُهُمُ اللَّهُ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ. (وناسَبَ) ذِكْرُ هَذِهِ الآيَةِ ما قَبْلَها؛ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الآيَةِ قَبْلَها إباحَةَ الطَّيِّباتِ، ثُمَّ فَصَّلَ أشْياءً مِنَ المُحَرَّماتِ، فَناسَبَ أنْ يَذْكُرَ جَزاءَ مَن كَتَمَ شَيْئًا مِن دِينِ اللَّهِ، ومِمّا أنْزَلَهُ عَلى أنْبِيائِهِ، فَكانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا أنْ يَقَعَ المُؤْمِنُونَ فِيما وقَعَ فِيهِ أهْلُ الكِتابِ، مِن كَتْمِ ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ واشْتِرائِهِمْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾، (p-٤٩٤)”أُولَئِكَ“: اسْمُ إشارَةٍ إلى الكاتِمِينَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهم، وذِكْرُ ما أُوعِدُوا بِهِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ مُسْتَوْعَبًا في أوَّلِ السُّورَةِ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. ﴿والعَذابَ بِالمَغْفِرَةِ﴾: لَمّا قَدَّمَ حالَهم في الدُّنْيا، بِأنَّهُمُ اعْتاضُوا مِنَ الهُدى الضَّلالَةَ، ذَكَرَ نَتِيجَةَ ذَلِكَ في الآخِرَةِ، وهو أنَّهُمُ اعْتاضُوا مِنَ المَغْفِرَةِ الَّتِي هي نَتِيجَةُ الهُدى وسَبَبُ النّعِيمِ الأطْوَلِ السَّرْمَدِيِّ، العَذابَ الأطْوَلَ السَّرْمَدِيَّ، الَّذِي هو نَتِيجَةُ الضَّلالَةِ؛ لِأنَّهم لَمّا كانُوا عالِمِينَ بِالحَقِّ، وكَتَمُوهُ لِغَرَضٍ خَسِيسٍ دُنْياوِيٍّ. فَإنْ كانَ ذَلِكَ اشْتِراءً لِلْعَذابِ بِالمَغْفِرَةِ. وفي لَفْظِ ”اشْتَرَوُا“ إشْعارٌ بِإيثارِهِمُ الضَّلالَةَ والعَذابَ؛ لِأنَّ الإنْسانَ لا يَشْتَرِي إلّا ما كانَ لَهُ فِيهِ رَغْبَةٌ ومَوَدَّةٌ واخْتِيارٌ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى نِهايَةِ الخَسارَةِ، وعَدَمِ النَّظَرِ في العَواقِبِ. ﴿فَما أصْبَرَهم عَلى النّارِ﴾: اخْتُلِفَ في ”ما“ فالأظْهَرُ أنَّها تَعَجُّبِيَّةٌ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ مِنَ المُفَسِّرِينَ. وقَدْ جاءَ: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧]، ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ﴾ [مريم: ٣٨] . وأجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّ ما التَّعَجُّبِيَّةُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ واخْتَلَفُوا، أهِيَ نَكِرَةٌ تامَّةٌ والفِعْلُ بَعْدَها في مَوْضِعِ الخَبَرِ ؟ أوِ اسْتِفْهامِيَّةٌ صَحِبَها مَعْنى التَّعَجُّبِ والفِعْلُ بَعْدَها في مَوْضِعِ الخَبَرِ ؟ أوْ مَوْصُولَةٌ والفِعْلُ بَعْدَها صِلَةٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ ؟ أوْ مَوْصُوفَةٌ والفِعْلُ بَعْدَها صِفَةٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ ؟ أقْوالٌ أرْبَعَةٌ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ. الأوَّلُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ والجُمْهُورِ، والثّانِي قَوْلُ الفَرّاءِ وابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ، والثّالِثُ والرّابِعُ لِلْأخْفَشِ. وكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا في أفْعَلَ بَعْدَ ما التَّعَجُّبِيَّةُ، أهْوَ فِعْلٌ ؟ وهو مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، أمِ اسْمٌ ؟ وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ. ويَنْبَنِي عَلَيْهِ الخِلافُ في المَنصُوبِ بَعْدَهُ، أهْوَ مَفْعُولٌ بِهِ أوْ مُشَبَّهٌ بِالمَفْعُولِ بِهِ ؟ وإذا قُلْنا: إنَّ الكَلامَ هو تَعَجُّبٌ، فالتَّعَجُّبُ هو اسْتِعْظامُ الشَّيْءِ وخَفاءُ حُصُولِ السَّبَبِ، وهَذا مُسْتَحِيلٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، فَهو راجِعٌ لِمَن يَصِحُّ ذَلِكَ مِنهُ، أيْ هم مِمَّنْ يَقُولُ فِيهِمْ مَن رَآهم: ما أصْبَرَهم عَلى النّارِ واخْتَلَفَ قائِلُو التَّعَجُّبِ، أهْوَ صَبْرٌ يَحْصُلُ لَهم حَقِيقَةً إذا كانُوا في النّارِ ؟ فَذَهَبَ إلى ذَلِكَ الأصَمُّ وقالَ: إذا قِيلَ لَهم: ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨]، سَكَتُوا وانْقَطَعَ كَلامُهم، وصَبَرُوا عَلى النّارِ لِيَأْسِهِمْ مِنَ الخَلاصِ. وضَعُفَ قَوْلُ الأصَمِّ، بِأنَّ ظاهِرَ التَّعَجُّبِ، أنَّهُ مِن صَبْرِهِمْ في الحالِ، لا أنَّهم سَيَصْبِرُونَ، وبِأنَّ أهْلَ النّارِ قَدْ يَقَعُ مِنهُمُ الجَزَعُ. وقِيلَ: الصَّبْرُ مَجازٌ عَنِ البَقاءِ في النّارِ، أيْ ما أبْقاهم في النّارِ. أمْ هو صَبْرٌ يُوصَفُونَ بِهِ في الدُّنْيا ؟ وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. واخْتُلِفَ: أهْوَ حَقِيقَةٌ أمْ مَجازٌ ؟ والقائِلُونَ بِأنَّهُ حَقِيقَةٌ، قالُوا: مَعْناهُ ما أصْبَرَهم عَلى عَمَلٍ يُؤَدِّيهِمْ إلى النّارِ؛ لِأنَّهم كانُوا عُلَماءَ بِأنَّ مَن عانَدَ النَّبِيَّ ﷺ صارَ إلى النّارِ، قالَهُ المُؤَرِّجُ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ ما أصْبَرَهم عَلى عَمَلِ أهْلِ النّارِ، كَما تَقُولُ: ما أشْبَهَ سَخاءَكَ بِحاتِمٍ، أيْ بِسَخاءِ حاتِمٍ، فَحَذَفَ المُضافَ وأقامَ المُضافَ إلَيْهِ مَقامَهُ، وهو قَوْلُ الكِسائِيِّ وقُطْرُبٍ، وهو قَرِيبٌ مِن قَوْلِ المُؤَرِّجِ. وقِيلَ: ”أصْبَرَ“ هُنا بِمَعْنى أجْرَأ، وهي لُغَةٌ يَمانِيَةٌ، فَيَكُونُ لَفْظُ ”أصْبَرَ“ إذْ ذاكَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ مَعْناها المُتَبادِرِ إلى الذِّهْنِ مِن حَبْسِ النَّفْسِ عَلى الشَّيْءِ المَكْرُوهِ، ومَعْنى الجَراءَةِ، أيْ ما أجْرَأهم عَلى العَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إلى النّارِ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ والرَّبِيعُ وابْنُ جُبَيْرٍ. قالَ الفَرّاءُ: أخْبَرَنِي الكِسائِيُّ قالَ: أخْبَرَنِي قاضِي اليَمَنِ أنَّ خَصْمَيْنِ اخْتَصَما إلَيْهِ، فَوَجَبَتِ اليَمِينُ عَلى أحَدِهِما، فَحَلَفَ لَهُ خَصْمُهُ، فَقالَ لَهُ: ما أصْبَرَكَ عَلى اللَّهِ أيْ ما أجْرَأكَ عَلى اللَّهِ والقائِلُونَ بِأنَّهُ مَجازٌ. فَقِيلَ: هو مَجازٌ أُرِيدَ بِهِ العَمَلُ، أيْ ما أعَمَلَهم بِأعْمالِ أهْلِ النّارِ قالَهُ مُجاهِدٌ. وقِيلَ: هو مَجازٌ أُرِيدَ بِهِ قِلَّةُ الجَزَعِ، أيْ ما أقَلَّ جَزَعَهم مِنَ النّارِ وقِيلَ: هو مَجازٌ أُرِيدَ بِهِ الرِّضا، وتَقْرِيرُهُ أنَّ الرّاضِيَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ راضِيًا بِمَعْلُولِهِ ولازِمِهِ، إذا عُلِمَ ذَلِكَ اللُّزُومُ. فَلَمّا أقْدَمُوا عَلى ما يُوجِبُ النّارَ وهم عالِمُونَ بِذَلِكَ، صارُوا كالرّاضِينَ بِعَذابِ اللَّهِ والصّابِرِينَ عَلَيْهِ، وهو كَما يَقُولُ لِمَن تَعَرَّضَ لِغَضَبِ السُّلْطانِ: ما أصْبَرَكَ عَلى القَيْدِ والسِّجْنِ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَما أصْبَرَهم عَلى النّارِ تَعَجُّبٌ مِن حالِهِمْ في التِباسِهِمْ بِمُوجِباتِ النّارِ مِن غَيْرِ مُبالاةٍ (p-٤٩٥)مِنهم. انْتَهى كَلامُهُ، وانْتَهى القَوْلُ في أنَّ الكَلامَ تَعَجُّبٌ. وذَهَبَ مَعْمَرُ بْنُ المُثَنّى والمُبَرِّدُ إلى أنَّ ما اسْتِفْهامِيَّةٌ لا تَعَجُّبِيَّةٌ، وهو اسْتِفْهامٌ عَلى مَعْنى التَّوْبِيخِ بِهِمْ، أيْ: أيِّ شَيْءٍ صَبَّرَهم عَلى النّارِ حَتّى تَرَكُوا الحَقَّ واتَّبَعُوا الباطِلَ ؟ وهو قَوْلُ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيِّ. يُقالُ: صَبَّرَهُ وأصْبَرَهُ بِمَعْنًى: أيْ جَعَلَهُ يَصْبِرُ، لا أنْ أصْبَرَ هُنا بِمَعْنى: حَبَسَ واضْطَرَّ، فَيَكُونُ أفْعَلُ بِمَعْنى: فَعَلَ، خِلافًا لِلْمُبَرِّدِ، إذْ زَعَمَ أنَّ أصْبَرَ بِمَعْنى: صَبَّرَ، ولا نَعْرِفُ ذَلِكَ في اللُّغَةِ، وإنَّما تَكُونُ الهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ، أيْ يُجْعَلُ ذا صَبْرٍ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ ما نافِيَةٌ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ ما أصْبَرَهم عَلى النّارِ، أيْ ما يَجْعَلُهم يَصْبِرُونَ عَلى العَذابِ، فَتَلَخَّصَ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَما أصْبَرَهم عَلى النّارِ﴾ التَّعَجُّبُ والِاسْتِفْهامُ والنَّفْيُ، وتَلَخَّصَ في التَّعَجُّبِ، أهْوَ حَقِيقَةٌ أمْ مَجازٌ ؟ وكِلاهُما: أذَلِكَ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ ؟ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾، ذَلِكَ: إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الوَعِيدِ، قالَهُ الزَّجّاجُ؛ أوْ إلى الحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم مِن أهْلِ الخُلُودِ في النّارِ، قالَهُ الحَسَنُ، أوِ العَذابِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ أوِ الِاشْتِراءِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، تَفْرِيعًا عَلى بَعْضِ التَّفاسِيرِ في الكِتابِ مِن قَوْلِهِ: ”نَزَّلَ الكِتابَ“، وسَيُذْكَرُ أيْ ذَلِكَ الِاشْتِراءُ بِما سَبَقَ لَهم في عِلْمِ اللَّهِ ووَرَدَ أخْبارُهُ بِهِ أوِ الكِتْمانُ. وأبْعَدُها أنَّهُ إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِن أخْبارِ اللَّهِ أنَّهُ خَتَمَ عَلى قُلُوبِهِمْ، وعَلى سَمْعِهِمْ، وعَلى أبْصارِهِمْ، وأنَّهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَعْقِلُونَ. واخْتُلِفَ في إعْرابِ ذَلِكَ فَقِيلَ: هو مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلْنا ذَلِكَ، وتَكُونُ الباءُ في بِأنَّ اللَّهَ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ الفِعْلِ المَحْذُوفِ. وقِيلَ: مَرْفُوعٌ، واخْتَلَفُوا، أهْوَ فاعِلٌ، والتَّقْدِيرُ: وجَبَ ذَلِكَ لَهم ؟ أمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: الأمْرُ ذَلِكَ ؟ أيْ: ما وُعِدُوا بِهِ مِنَ العَذابِ بِسَبَبِ أنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الكِتابَ بِالحَقِّ. فاخْتَلَفُوا، أمْ مُبْتَدَأٌ، والخَبَرُ قَوْلُهُ: ”بِأنَّ اللَّهَ نَزَّلَ“ ؟ أيْ: ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ ثابِتٌ بِأنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الكِتابَ بِالحَقِّ، ويَكُونُ ذَلِكَ إشارَةً إلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو العَذابُ، ويَكُونُ الخَبَرُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَنْزِيلِ اللَّهِ الكِتابَ بِالحَقِّ، بَلْ ما تَرَتَّبَ عَلى تَنْزِيلِهِ مِن مُخالَفَتِهِ وكِتْمانِهِ، وأقامَ السَّبَبَ مَقامَ المُسَبَّبِ. والتَّفْسِيرُ المَعْنَوِيُّ: ذَلِكَ العَذابُ حاصِلٌ لَهم بِكِتْمانِ ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنِ الكِتابِ المَصْحُوبِ بِالحَقِّ، أوِ الكِتابِ الَّذِي نَزَّلَهُ بِالحَقِّ. وقالَ الأخْفَشُ: الخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِأنَّ اللَّهَ، فَيَتَعَلَّقُ الباءُ بِهَذا الخَبَرِ المُقَدَّرِ، والكِتابُ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، أوِ القُرْآنُ، أوْ كُتُبُ اللَّهِ المُنَزَّلَةُ عَلى أنْبِيائِهِ، أوْ ما كَتَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّقاوَةِ بِقَوْلِهِ: ”صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ“، فَيَكُونُ الكِتابُ بِمَعْنى الحُكْمِ والقَضاءِ، أقْوالٌ أرْبَعَةٌ. ”بِالحَقِّ“ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بِالعَدْلِ. وقالَ مُقاتِلٌ: ضِدُّ الباطِلِ. وقالَ مَكِّيٌّ: بِالواجِبِ، وحَيْثُما ذُكِرَ بِالحَقِّ فَهو الواجِبُ. ﴿وإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا في الكِتابِ﴾، قِيلَ: هُمُ اليَهُودُ، والكِتابُ: التَّوْراةُ، واخْتِلافُهم: كِتْمانُهم بَعْثَ عِيسى، ثُمَّ بَعْثَ مُحَمَّدٍ ﷺ . آمَنُوا بِبَعْضٍ، وهو ما أظْهَرُوهُ، وكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وهو ما كَتَمُوهُ. وقِيلَ: هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، قالَهُ السُّدِّيُّ؛ واخْتِلافُ كُفْرِهِمْ بِما قَصَّهُ اللَّهُ تَعالى مِن قَصَصِ عِيسى وأُمِّهِ - عَلَيْهِما السَّلامُ -، وبِإنْكارِ الإنْجِيلِ، ووَقَعَ الِاخْتِلافُ بَيْنَهم حَتّى تَلاعَنُوا وتَقاتَلُوا. وقِيلَ: كُفّارُ العَرَبِ، والكِتابُ: القُرْآنُ. قالَ بَعْضُهم: هو سِحْرٌ، وبَعْضُهم: هو أساطِيرُ الأوَّلِينَ، وبَعْضُهم: هو مُفْتَرًى إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وقِيلَ: أهْلُ الكِتابِ والمُشْرِكُونَ. قالَ أهْلُ الكِتابِ: إنَّهُ مِن كَلامِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولَيْسَ هو مِن كَلامِ اللَّهِ. وقالُوا: إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وقالُوا: دارَسْتَ، وقالُوا: إنْ هَذا إلّا اخْتِلاقٌ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ المُشْرِكُونَ: بَعْضُهم قالَ: سِحْرٌ، وبَعْضُهم: شِعْرٌ، وبَعْضُهم: كِهانَةٌ، وبَعْضُهم: أساطِيرُ، وبَعْضُهُمُ: افْتِراءٌ إلى غَيْرِ ذَلِكَ. والظّاهِرُ الإخْبارُ عَمَّنْ صَدَرَ مِنهُمُ الِاخْتِلافُ فِيما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ بِأنَّهم في مُعاداةٍ وتَنافُرٍ؛ لِأنَّ الِاخْتِلافَ مَظِنَّةُ التَّباغُضِ والتَّبايُنِ، كَما أنَّ الِائْتِلافَ مَظِنَّةُ التَّحابِّ والِاجْتِماعِ. وفي المُنْتَخَبِ: الأقْرَبُ، حَمْلُ الكِتابِ عَلى التَّوْراةِ والإنْجِيلِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَتِ البِشارَةَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فِيهِما؛ لِأنَّ القَوْمَ قَدْ عَرَفُوا (p-٤٩٦)ذَلِكَ وكَتَمُوهُ، وعَرَفُوا تَأْوِيلَهُ. فَإذا أوْرَدَ تَعالى ما يَجْرِي مَجْرى العِلَّةِ في إنْزالِ العُقُوبَةِ بِهِ، فالأقْرَبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ كِتابَهُمُ الَّذِي هو الأصْلُ عِنْدَهم، دُونَ القُرْآنِ. انْتَهى كَلامُهُ. ”لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ“: تَقَدَّمَ أنَّ ذَلِكَ إمّا مَأْخُوذٌ مِن كَوْنِ هَذا يَصِيرُ في شِقٍّ وهَذا في شِقٍّ، أوْ مِن كَوْنِ هَذا يَشُقُّ عَلى صاحِبِهِ. وكَنّى بِالشِّقاقِ عَنِ العَداوَةِ، ووَصَفَ الشِّقاقَ بِالبُعْدِ، إمّا لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الحَقِّ، أوْ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الأُلْفَةِ. أوْ كَنّى بِهِ عَنِ الطُّولِ، أيْ: في مُعاداةٍ طَوِيلَةٍ لا تَنْقَطِعُ. وهَذا الِاخْتِلافُ هو سَبَبُ اعْتِقادِ كُلِّ طائِفَةٍ أنَّ كِتابَها هو الحَقُّ، وأنَّ غَيْرَهُ افْتِراءٌ، وقَدْ كَذَبُوا في ذَلِكَ. كُتُبُ اللَّهِ يُشْبِهُ بَعْضُها بَعْضًا، ويُصَدِّقُ بَعْضُها بَعْضًا. (وقَدْ تَضَمَّنَتْ) هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ نِداءَ النّاسِ ثانِيًا، وأمْرَهم بِالأكْلِ مِنَ الحَلالِ الطَّيِّبِ، ونَهْيَهم عَنِ اتِّباعِ الشَّيْطانِ، وذِكْرَ خُطُواتِهِ، كَأنَّهم يَقْتَفُونَ آثارَهُ، ويَطَئُونَ عَقِبَهُ. فَكُلَّما خَطا خُطْوَةً، وضَعُوا أقْدامَهم عَلَيْها، وذَلِكَ مُبالَغَةٌ في اتِّباعِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ إنَّما نَهاهم عَنِ اتِّباعِهِ؛ لِأنَّهُ هو العَدُوُّ المُظْهِرُ لِعَداوَتِهِ. ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ العَداوَةِ حَتّى ذَكَرَ أنَّهُ يَأْمُرُهم بِالمَعاصِي. ولَمّا كانَ لَهم مَتْبُوعًا وهم تابَعُوهُ، ناسَبَ ذِكْرُ الأمْرِ، إذْ هم مُمْتَثِلُونَ ما زَيَّنَ لَهم ووَسْوَسَ. ثُمَّ ذَكَرَ ما بِهِ أمْرَهم، وهو أمْرُهُ إيّاهم بِالِافْتِراءِ عَلى اللَّهِ، والإخْبارِ عَنِ اللَّهِ بِما لا يَعْلَمُونَهُ عَنِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ شِدَّةَ إعْراضِهِمْ عَمّا أنْزَلَ اللَّهُ، واقْتِفاءَ اتِّباعِ آبائِهِمْ، حَتّى أنَّهم لَوْ كانَ آباؤُهم مَسْلُوبِـي العَقْلِ والهِدايَةِ لَكانُوا مُتَّبِعِيهِمْ، مُبالَغَةً في التَّقْلِيدِ البَحْتِ والإعْراضِ عَنْ كِتابِ اللَّهِ، وجَرْيًا لِخَلَفِهِمْ عَلى سَلَفِ سُنَنِهِمْ، مِن غَيْرِ نَظَرٍ ولا اسْتِدْلالٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ مَثَلَ الكُفّارِ وداعِيهِمْ إلى ما أنْزَلَ اللَّهُ، مَثَلُ النّاعِقِ بِما لا يَسْمَعُ إلّا مُجَرَّدَ ألْفاظٍ. ثُمَّ ذَكَرَ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الصَّمَمِ والبَكَمِ والعَمى، الَّتِي هي مانِعَةٌ مِن وُصُولِ العُلُومِ إلى الإنْسانِ، فَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ ”فَهم لا يَعْقِلُونَ“؛ لِأنَّ طُرُقَ العَقْلِ والعِلْمِ مُفْسَدَةٌ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ نادى المُؤْمِنِينَ نِداءً خاصًّا، وأمَرَهم بِالأكْلِ مِنَ الطَّيَّبِ وبِالشُّكْرِ لِلَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أشْياءَ مِمّا حَرَّمَ، وأباحَ الأكْلَ مِنها حالَ الِاضْطِرارِ، وشَرَطَ في تَناوُلِ ذَلِكَ أنْ لا يَكُونَ المُضْطَرُّ باغِيًا ولا عادِيًا. ولَمّا أحَلَّ أكْلَ الطَّيِّباتِ وحَرَّمَ ما حَرَّمَ هُنا، ذَكَرَ أحْوالَ مَن كَتَمَ ما أنْزَلَ اللَّهُ واشْتَرى بِهِ النَّزْرَ اليَسِيرَ، لِتَعْتَبِرَ هَذِهِ الأُمَّةُ بِحالِ مَن كَتَمَ العِلْمَ وباعَهُ بِأخَسِّ ثَمَنٍ، إذْ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لا يَأْكُلُ في بَطْنِهِ إلّا النّارَ، أيْ ما يُوجِبُ أكْلَهُ النّارَ. وأنَّ اللَّهَ لا يُكَلِّمُهم يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ حِينَ يُكَلِّمُ المُؤْمِنِينَ تَكْلِيمَ رَحْمَةٍ وإحْسانٍ. وذَكَرَ أنَّهم مَعَ انْتِفاءِ التَّعْلِيمِ الَّذِي هو أعْلى الرُّتَبِ لِلْمَرْءُوسِ مِنَ الرَّئِيسِ، حَيْثُ أهَّلَهُ لِمُناجاتِهِ ومُحادَثَتِهِ، وانْتِفاءُ الثَّناءِ عَلَيْهِمْ لَهُمُ العَذابُ المُؤْلِمُ. ثُمَّ بالَغَ في ذَمِّهِمْ بِأنَّ هَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ آثَرُوا الضَّلالَ عَلى الهُدى، والعَذابَ عَلى النَّعِيمِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهم بِصَدَدِ أنْ يُتَعَجَّبَ مِن جَلَدِهِمْ عَلى النّارِ، وأنَّ ما حَصَلَ لَهم مِنَ العَذابِ هو بِسَبَبِ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ فَخالَفُوهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيما أنْزَلَ اللَّهُ هم في مُعاداةٍ لا تَنْقَطِعُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب