الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ جَزاءَهم وشَرَحَ حالَهم والتَّعْجِيبَ مِن أمْرِهِمْ ذَكَرَ السَّبَبَ المُوجِبَ لِهَذا الإبْعادِ العَظِيمِ والتَّهْدِيدِ الكَبِيرِ فَقالَ: ﴿ذَلِكَ﴾ مُشِيرًا بِأداةِ البُعْدِ ﴿بِأنَّ اللَّهَ﴾ فَذَكَرَ الِاسْمَ الأعْظَمَ أيْضًا الَّذِي مَعْناهُ أنَّ لَهُ جَمِيعَ صِفاتِ الكَمالِ تْعَظِيمًا لِلْمَقامِ ﴿نَـزَّلَ الكِتابَ﴾ أيِ: الجامِعَ لِأنْواعِ الهُدى ﴿بِالحَقِّ﴾ مُنَجَّمًا تَقْرِيبًا لِلْأفْهامِ وتَدْرِيبًا لِلْخاصِّ والعامِّ، وهو صالِحٌ لِإرادَةِ القُرْآنِ والتَّوْراةِ أيِ: الثّابِتُ الكامِلُ في الثَّباتِ، فَمَن كَتَمَهُ فَقَدْ حاوَلَ نَفْيَ ما أثْبَتَهُ اللَّهُ تَعالى فَقَدْ ضادَّ اللَّهَ في مُلْكِهِ، ومَن خالَفَ فِيهِ وهو الَّذِي لا شُبْهَةَ تَلْحَقُهُ فَقَدْ عَدَّ الواضِحَ مُلْبِسًا فَقَدْ أبْعَدَ المَرْمى. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فاخْتَلَفُوا، أتْبَعَهُ قَوْلَهُ: ﴿وإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا﴾ أيْ: خالَفَ بَعْضُهم بَعْضًا ﴿فِي الكِتابِ﴾ نَفْسِهِ أيْ: لا في فَهْمِهِ، وهَذِهِ العِبارَةُ تَدُلُّ عَلى [أنَّ ] الِاخْتِلافَ قَوْلُ بَعْضٍ في الكِتابِ كُلِّهِ (p-٣٥٥)أوْ في شَيْءٍ مِنهُ هو باطِلٌ والإقْرارُ بِبَعْضِ أحْكامِهِ والإنْكارُ لِبَعْضِها وتَحْرِيفُ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ ونَحْوَ هَذا ﴿لَفِي شِقاقٍ﴾ لِكَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهم في شِقٍّ ﴿بَعِيدٍ﴾ جِدًّا عَنْ شِقِّ أهْلِ الحَقِّ، ولِذَلِكَ خافَ الصَّحابَةُ رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ مِنَ اخْتِلافِ أهْلِ هَذا الدِّينِ في القُرْآنِ كَما اخْتَلَفَ اليَهُودُ والنَّصارى فَجَمَعُوهم عَلى مُصْحَفٍ واحِدٍ، فَلَيْسَ الِاخْتِلافُ في وُجُوهِ الرِّواياتِ وأنْحاءِ الفَهْمِ مِن ذَلِكَ؛ وقَدْ وقَعَ كَما تَرى تَنْبِيهُ المُشْرِكِينَ مِنَ العَرَبِ بِدُونِ ما تَضَمَّنَهُ تَنْبِيهُ بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ التَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ لِفُرْقانِ ما بَيْنَهم، لِأنَّ كُفْرَ المُشْرِكِينَ عَنْ جَهْلٍ وكُفْرُ أُولَئِكَ عَنْ تَعَنُّتٍ بَعْدَ تَكَرُّرِ مُشاهَدَةِ الآياتِ، ومَن تَدَبَّرَ القُرْآنَ وطالَعَ التَّوْراةَ عَلِمَ طُولَ مُكْثِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فِيهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمُ التَّوْراةَ عَلى حَسَبِ تَنْزِيلِها شَيْئًا فَشَيْئًا وأنَّهم كانُوا مَعَ ذَلِكَ كُلَّما شاهَدُوا آيَةً أحْدَثُوا كُفْرًا وخَلَعُوا شُكْرًا وسَألُوا غَيْرَها (p-٣٥٦)عِنادًا ومَكْرًا ﴿وجَعَلْنا قُلُوبَهم قاسِيَةً﴾ [المائدة: ١٣] وقَدْ مَرَّ مِن أوَّلِ السُّورَةِ عَنِ التَّوْراةِ كَثِيرٌ مِن ذَلِكَ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَقِيَّتُهُ في المَواضِعِ اللّائِقَةِ بِهِ مِن آياتِ القُرْآنِ. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: ومَتى بُيِّنَ شَيْءٌ في الكِتابِ العَزِيزِ مِن أحْوالِ النَّصارى فَلَيْسَ عَلى ما ورَدَ مِن مِثْلِهِ في اليَهُودِ لِما ذُكِرَ أيْ: مِن أنَّ كُفْرَهم تَعَنُّتٌ، وخِطابُ مُشْرِكِي العَرَبِ فِيما أُشِيرَ إلَيْهِ دُونَ خِطابِ الفَرِيقَيْنِ إذْ قَدْ تَقَدَّمَ لَهم ما لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْعَرَبِ وبُشِّرُوا في كُتُبِهِمْ ولَيْسَ لِمُشْرِكِي العَرَبِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ والزَّيْغُ عَنِ الهُدى شامِلٌ لِلْكُلِّ ولَيْسُوا في شَيْءٍ مِنَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ مَعَ أنَّ أسْوَأ الأحْوالِ حالُ مَن أضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ؛ وهُنا انْتَهى ذِكْرُ ما حَذَّرَ مِنهُ ونَهى عَنْهُ مَن أرادَ سُلُوكَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ وبَيانُ حالِ مَن حادَ عَنْهُ وتَنَكَّبَهُ وظَنَّ أنَّهُ عَلى شَيْءٍ وضَمَّ مُفْتَرَقَ أصْنافِ الزّائِغِينَ في أصْنافٍ ثَلاثَةٍ وهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى وأهْلُ الشِّرْكِ، وبِهِمْ يَلْحَقُ سائِرُ مَن تَنَكَّبَ فَيَلْحَقُ بِاليَهُودِ مُنافِقُو أُمَّتِنا مِمَّنِ ارْتابَ بَعْدَ إظْهارِ إيمانِهِ وفَعَلَ أفاعِيلَهم مِنَ المَكْرِ والخَدِيعَةِ والِاسْتِهْزاءِ، ويَلْحَقُ بِالنَّصارى مَنِ اتَّصَفَ بِأحْوالِهِمْ، وبِالمُشْرِكِينَ مَن جَعَلَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى نِدًّا واعْتَقَدَ فِعْلًا لِغَيْرِهِ عَلى غَيْرِ طَرِيقَةِ الكَسْبِ؛ (p-٣٥٧)والمَجُوسُ لاحِقُونَ بِأهْلِ الشِّرْكِ. والشِّرْكُ أكْثَرُ هَذِهِ الطُّرُقِ السِّتَّةِ تَشَعُّبًا ولِهَذا قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «الشِّرْكُ أخْفى مِن دَبِيبِ النَّمْلِ»، ومَن فَعَلَ أفْعالَ مَن ذُكِرَ ولَمْ يَنْتَهِ بِهِ الأمْرُ إلى مُفارَقَةِ دِينِهِ والخُرُوجِ في شَيْءٍ مِنَ اعْتِقادِهِ خِيفَ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ وسِيلَةً إلى اللُّحُوقِ بِمَن تَشَبَّهَ بِهِ، وإلى هَذا أشارَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِقَوْلِهِ: «أرْبَعٌ مَن كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقًا خالِصًا: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ» إلى أشْباهِ هَذا مِنَ الأحادِيثِ؛ انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب