﴿مَا كَانَ إِبۡرَ ٰهِیمُ یَهُودِیࣰّا وَلَا نَصۡرَانِیࣰّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِیفࣰا مُّسۡلِمࣰا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾ [آل عمران ٦٧]
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):قَوْلُهُ تَعالى:
﴿ما كانَ إبْراهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا ولَكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ الآيَةَ.
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ وأمْثالُها في القُرْآنِ تَدُلُّ عَلى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا يَوْمًا ما، لِأنَّ نَفْيَ الكَوْنِ الماضِي في قَوْلِهِ:
﴿وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى اسْتِغْراقِ النَّفْيِ لِجَمِيعِ الزَّمَنِ الماضِي كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ﴾ الآيَةَ
[الأنبياء: ١٥] .
وَقَدْ جاءَ في مَوْضِعٍ آخَرَ ما يُوهِمُ خِلافَ ذَلِكَ وهو قَوْلُهُ:
﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ ﴿فَلَمّا رَأى القَمَرَ بازِغًا قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ ﴿فَلَمّا رَأى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذا رَبِّي هَذا أكْبَرُ فَلَمّا أفَلَتْ قالَ ياقَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ الآيَةَ
[الأنعام: - ٧٨] .
وَمَن ظَنَّ رُبُوبِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ فَهو مُشْرِكٌ بِاللَّهِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى عَنِ الكُفّارِ
﴿وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وإنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ [يونس: ٦٦] .
والجَوابُ عَنْ هَذا مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّهُ مُناظِرٌ لا ناظِرٌ ومَقْصُودُهُ التَّسْلِيمُ الجَدَلِيُّ أيْ: هَذا رَبِّي عَلى زَعْمِكُمُ الباطِلِ، والمُناظِرُ قَدْ يُسَلِّمُ المُقَدِّمَةَ الباطِلَةَ تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا لِيُفْحِمَ بِذَلِكَ خَصْمَهُ.
فَلَوْ قالَ لَهم إبْراهِيمُ في أوَّلِ الأمْرِ: الكَوْكَبُ مَخْلُوقٌ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ رَبًّا، لَقالُوا لَهُ، كَذَبْتَ، بَلِ الكَوْكَبُ رَبٌّ ومِمّا يَدُلُّ لِكَوْنِهِ مُناظِرًا لا ناظِرًا قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَحاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ [الأنعام: ٨٠] .
وَهَذا الوَجْهُ هو الأظْهَرُ، وما اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُناظِرٍ مِن قَوْلِهِ تَعالى:
﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ [الأنعام: ٧٧] .
لا دَلِيلَ فِيهِ عَلى التَّحْقِيقِ لِأنَّ الرُّسُلَ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ تَواضُعًا وإظْهارًا لِالتِجائِهِمْ إلى اللَّهِ، كَقَوْلِ إبْراهِيمَ:
﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥]، وقَوْلِهِ هو وإسْماعِيلُ:
﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ الآيَةَ
[البقرة: ١٢٨] .
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الكَلامَ عَلى حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ أيْ: أهَذا رَبِّي ؟ وقَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ أنَّ حَذْفَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ إذا دَلَّ المَقامُ عَلَيْها جائِزٌ، وهو قِياسِيٌّ عِنْدَ الأخْفَشِ مَعَ أمْ ودُونَها ذَكَرَ الجَوابَ أمْ لا، فَمِن أمْثِلَتِهِ دُونَ أمْ ودُونَ ذِكْرِ الجَوابِ قَوْلُ الكُمَيْتِ:
طَرِبْتُ وما شَوْقًا إلى البِيضِ أطْرَبُ ولا لَعِبًا مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
يَعْنِي أوَ ذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ ؟ وقَوْلُ أبِي خِراشٍ الهُذَلِيِّ واسْمُهُ خُوَيْلِدٌ:
رَفَوْنِي وقالُوا يا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ ∗∗∗ فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يَعْنِي أهم هم، كَما هو الصَّحِيحُ، وجَزَمَ بِهِ الألُوسِيُّ في تَفْسِيرِهِ، وذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَماعَةٍ ويَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: وأنْكَرْتُ الوُجُوهَ.
وَمِن أمْثِلَتِهِ دُونَ أمْ مَعَ ذِكْرِ الجَوابِ، قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيِّ:
ثُمَّ قالُوا تُحِبُّها قُلْتُ بَهْرًا ∗∗∗ عَدَدَ النَجْمِ والحَصى والتُّرابِ
يَعْنِي أتُحِبُّها عَلى القَوْلِ الصَّحِيحِ وهو مَعَ أمْ كَثِيرٌ جِدًّا، ومِن أمْثِلَتِهِ قَوْلُ الأسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ التَّمِيمِيِّ وأنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ لِذَلِكَ:
لَعَمْرُكِ ما أدْرِي وإنْ كُنْتُ دارِيا ∗∗∗ شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنقَرِ
يَعْنِي أشُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ ؟ وقَوْلُ ابْنِ أبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيِّ:
بَدا لِيَ مِنها مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ ∗∗∗ وكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنانِ
فَواللَّهِ ما أدْرِي وإنِّي لِحاسِبٌ ∗∗∗ بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أمْ بِثَمانِ
يَعْنِي أبِسَبْعٍ، وقَوْلُ الأخْطَلِ:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رَأيْتَ بِواسِطٍ ∗∗∗ غَلَسَ الظَّلامِ مِنَ الرَّبابِ خَيالًا
يَعْنِي أكَذَبَتْكَ عَيْنُكَ ؟ كَما نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلى جَوازِ ذَلِكَ في بَيْتِ الأخْطَلِ هَذا وإنْ خالَفَ الخَلِيلَ زاعِمًا أنَّ كَذَبَتْكَ صِيغَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وأنَّ أمْ بِمَعْنى بَلْ، فَفي البَيْتِ عَلى قَوْلِ الخَلِيلِ نَوْعٌ مِن أنْواعِ البَدِيعِ المَعْنَوِيِّ، يُسَمّى بِالرُّجُوعِ عِنْدَ البَلاغِيِّينَ.
وَقَوْلُ الخَنْساءِ:
قَذًى بِعَيْنَيْكَ أمْ بِالعَيْنِ عُوّارُ ∗∗∗ أمْ خَلَتْ إذْ أقْفَرَتْ مِن أهْلِها الدّارُ
تَعْنِي أقَذًى بِعَيْنَيْكَ ؟ وقَوْلُ أُحَيْحَةَ بْنِ الجُلاحِ الأنْصارِيِّ:
وَما تَدْرِي وإنْ ذَمَّرْتَ سَقْبًا ∗∗∗ لِغَيْرِكَ أمْ يَكُونُ لَكَ الفَصِيلُ
يَعْنِي ألِغَيْرِكَ ؟ وقَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ∗∗∗ وماذا عَلَيْكَ بِأنْ تَنْتَظِرْ
يَعْنِي أتَرُوحُ ؟ .
وَعَلى هَذا القَوْلِ فَقَرِينَةُ الِاسْتِفْهامِ المَحْذُوفِ عُلُوُّ مَقامِ إبْراهِيمَ عَنْ ظَنِّ رُبُوبِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ وشَهادَةُ القُرْآنِ لَهُ بِالبَراءَةِ مِن ذَلِكَ، والآيَةُ عَلى هَذا القَوْلِ تُشْبِهُ قِراءَةَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ:
﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦] ونَظِيرُها عَلى هَذا القَوْلِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿أفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ﴾ [ ٢١ ] يَعْنِي أفْهُمُ الخالِدُونَ ؟ .
وَقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها﴾ [الشعراء: ٢٢]، عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ، وقَوْلُهُ:
﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ [البلد: ١١]، عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ.
وَما ذَكَرَهُ بَعْضُ العُلَماءِ غَيْرَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ فَهو راجِعٌ إلَيْهِما كالقَوْلِ بِإضْمارِ القَوْلِ، أيْ يَقُولُ الكُفّارُ هَذا رَبِّي، فَإنَّهُ راجِعٌ إلى الوَجْهِ الأوَّلِ.
وَأمّا ما ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحاقَ واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ونَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن أنَّ إبْراهِيمَ كانَ ناظِرًا يَظُنُّ رُبُوبِيَّةَ الكَوْكَبِ فَهو ظاهِرُ الضَّعْفِ، لِأنَّ نُصُوصَ القُرْآنِ تَرُدُّهُ
• كَقَوْلِهِ:
﴿وَلَكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: ٦٧] .
• وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢٣]،
• وقَوْلِهِ:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ﴾ [الأنبياء: ٥١] .
وَقَدْ بَيَّنَ المُحَقِّقُ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ رَدَّ ما ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِهَذِهِ النُّصُوصِ القُرْآنِيَّةِ وأمْثالِها، والأحادِيثَ الدّالَّةَ عَلى مُقْتَضاها كَقَوْلِهِ ﷺ
«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ» الحَدِيثَ.