الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾، نَهى اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الكُفّارَ عَنْ تَحْرِيمِ ما أحَلَّ اللَّهُ مِن رِزْقِهِ، مِمّا شَرَعَ لَهم عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ (لَعَنَهُ اللَّهُ) مِن تَحْرِيمِ ما أحَلَّ اللَّهُ.
وَقَدْ أوْضَحَ - جَلَّ وعَلا - هَذا المَعْنى في آياتٍ كَثِيرَةٍ؛
• كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذا فَإنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٠]،
• وقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالًا قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكم أمْ عَلى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: ٥٩]،
• وقَوْلِهِ: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهم سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٠]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا ما في بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ومُحَرَّمٌ عَلى أزْواجِنا﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٣٩]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا هَذِهِ أنْعامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إلّا مَن نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٣٨]،
وقَوْلِهِ حِجْرٌ، أيْ: حَرامٌ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، كَما تَقَدَّمَ.
وَفِي قَوْلِهِ الكَذِبَ [النحل: ١١٦]، أوْجُهٌ مِنَ الإعْرابِ:
أحَدُهم: أنَّهُ مَنصُوبٌ بِـ: تَقُولُوا، أيْ: لا تَقُولُوا الكَذِبَ لِما تَصِفُهُ ألْسِنَتُكم مِن رِزْقِ اللَّهِ بِالحِلِّ والحُرْمَةِ؛ كَما ذُكِرَ في الآياتِ المَذْكُورَةِ آنِفًا مِن غَيْرِ اسْتِنادِ ذَلِكَ الوَصْفِ إلى دَلِيلٍ، واللّامُ مَثَلُها في قَوْلِكَ: لا تَقُولُوا لِما أحَلَّ اللَّهُ: هو حَرامٌ، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتٌ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٥٤]، وجُمْلَةُ ﴿هَذا حَلالٌ وهَذا (p-٤٦٢)حَرامٌ﴾، بَدَلٌ مِنَ: الكَذِبِ، وقِيلَ: إنَّ الجُمْلَةَ المَذْكُورَةَ في مَحَلِّ نَصْبٍ: تَصِفُ، بِتَضْمِينِها مَعْنى تَقُولُ، أيْ: ولا تَقُولُوا الكَذِبَ لِما تَصِفُهُ ألْسِنَتُكم، فَتَقُولَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ. وقِيلَ: الكَذِبَ، مَفْعُولٌ بِهِ لِ تَصِفُ، و ما مَصْدَرِيَّةٌ، وجُمْلَةُ ﴿هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ﴾ مُتَعَلِّقَةٌ بِ لا تَقُولُوا، أيْ: لا تَقُولُوا هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ لِوَصْفِ ألْسِنَتِكُمُ الكَذِبَ؛ أيْ: لا تُحَرِّمُوا ولا تُحَلِّلُوا لِأجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ ألْسِنَتُكم، ويَجُولُ في أفْواهِكم؛ لا لِأجْلِ حُجَّةٍ وبَيِّنَةٍ، قالَهُ صاحِبُ الكَشّافِ. وقِيلَ: الكَذِبَ بَدَلٌ مِن هاءِ المَفْعُولِ المَحْذُوفَةِ؛ أيْ: لِما تَصِفُهُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ.
تَنْبِيهٌ.
كانَ السَّلَفُ الصّالِحُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يَتَوَرَّعُونَ عَنْ قَوْلِهِمْ: هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ؛ خَوْفًا مِن هَذِهِ الآياتِ.
قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: قالَ الدّارِمِيُّ: أبُو مُحَمَّدٍ في مُسْنَدِهِ: أخْبَرَنا هارُونُ، عَنْ حَفْصٍ، عَنِ الأعْمَشِ قالَ: ”ما سَمِعْتُ إبْراهِيمَ قَطُّ يَقُولُ: حَلالٌ ولا حَرامٌ، ولَكِنْ كانَ يَقُولُ: كانُوا يَكْرَهُونَ، وكانُوا يَسْتَحِبُّونَ“ .
وَقالَ ابْنُ وهْبٍ: قالَ مالِكٌ: لَمْ يَكُنْ مِن فُتْيا النّاسِ أنْ يَقُولُوا: هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ، ولَكِنْ يَقُولُوا إيّاكم كَذا وكَذا، ولَمْ أكُنْ لِأصْنَعَ هَذا. انْتَهى.
وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦]، مِنَ التَّعْلِيلِ الَّذِي لا يَتَضَمَّنُ مَعْنى الفَرْضِ. اه. وكَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ يَقُولُونَ: هي لامُ العاقِبَةِ. والبَيانِيُّونَ يَزْعُمُونَ أنَّ حَرْفَ التَّعْلِيلِ كاللّامِ إذا لَمْ تُقْصَدْ بِهِ عِلَّةٌ غائِيَّةٌ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا﴾ الآيَةَ [القصص: ٨]، وقَوْلِهِ هُنا: ﴿لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦]، أنَّ في ذَلِكَ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً في مَعْنى الحَرْفِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. فَمِن أسالِيبِها: الإتْيانُ بِحَرْفِ التَّعْلِيلِ لِلدَّلالَةِ عَلى العِلَّةِ الغائِيَّةِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وَأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ الآيَةَ [الحديد: ٢٥]، ومِن أسالِيبِها الإتْيانُ بِاللّامِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَرَتُّبِ أمْرٍ عَلى أمْرٍ؛ كَتَرَتُّبِ المَعْلُولِ عَلى عِلَّتِهِ الغائِيَّةِ. وهَذا الأخِيرُ كَقَوْلِهِ: ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ (p-٤٦٣)لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨]؛ لِأنَّ العِلَّةَ الغائِيَّةَ الباعِثَةَ لَهم عَلى التِقاطِهِ لَيْسَتْ هي أنْ يَكُونَ لَهم عَدُوًّا، بَلْ لِيَكُونَ لَهم قُرَّةَ عَيْنٍ؛ كَما قالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي ولَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا﴾ [القصص: ٩]، ولَكِنْ لَمّا كانَ كَوْنُهُ عَدُوًّا لَهم وحَزَنًا يَتَرَتَّبُ عَلى التِقاطِهِمْ لَهُ؛ كَتَرَتُّبِ المَعْلُولِ عَلى عِلَّتِهِ الغائِيَّةِ، عُبِّرَ فِيهِ بِاللّامِ الدّالَّةِ عَلى تَرْتِيبِ المَعْلُولِ عَلى العِلَّةِ. وهَذا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، فَلا حاجَةَ إلى ما يُطِيلُ بِهِ البَيانِيُّونَ في مِثْلِ هَذا المَبْحَثِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ الكَذِبَ - أيْ يَخْتَلِقُونَهُ عَلَيْهِ - كَدَعْواهم أنَّهُ حَرَّمَ هَذا وهو لَمْ يُحَرِّمْهُ، ودَعْواهم لَهُ الشُّرَكاءَ والأوْلادَ - لا يُفْلِحُونَ؛ لِأنَّهم في الدُّنْيا لا يَنالُونَ إلّا مَتاعًا قَلِيلًا لا أهَمِّيَّةَ لَهُ، وفي الآخِرَةِ يُعَذَّبُونَ العَذابَ العَظِيمَ، الشَّدِيدَ المُؤْلِمَ.
وَأوْضَحَ هَذا المَعْنى في مَواضِعَ أُخَرَ؛
• كَقَوْلِهِ في يُونُسَ: ﴿قُلْ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ ﴿مَتاعٌ في الدُّنْيا ثُمَّ إلَيْنا مَرْجِعُهم ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس: ٦٩ - ٧٠]،
• وقَوْلِهِ: ﴿نُمَتِّعُهم قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهم إلى عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان: ٢٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿قالَ ومَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أضْطَرُّهُ إلى عَذابِ النّارِ وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ [البقرة: ١٢٦]،
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَقَوْلُهُ ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ﴾، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: مَتاعُهم في الدُّنْيا مَتاعٌ قَلِيلٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنفَعَتُهم في الدُّنْيا مَتاعٌ قَلِيلٌ. وقَوْلُهُ لا يُفْلِحُونَ، أيْ: لا يَنالُونَ الفَلاحَ، وهو يُطْلَقُ عَلى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: الفَوْزُ بِالمَطْلُوبِ الأكْبَرِ، والثّانِي: البَقاءُ السَّرْمَدِيُّ؛ كَما تَقَدَّمَ بِشَواهِدِهِ.
{"ayah":"وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلࣱ وَهَـٰذَا حَرَامࣱ لِّتَفۡتَرُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا یُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق