قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أصْحابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ﴾ .
الحِجْرُ: مَنازِلُ ثَمُودَ بَيْنَ الحِجازِ والشّامِ عِنْدَ وادِي القُرى. فَمَعْنى الآيَةِ الكَرِيمَةِ:
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ﴾، وقَدْ بَيَّنَ تَعالى تَكْذِيبَ ثَمُودَ لِنَبِيِّهِ صالِحٍ - عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ - في مَواضِعَ أُخَرَ.
• كَقَوْلِهِ:
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ إذْ قالَ لَهم أخُوهم صالِحٌ ألا تَتَّقُونَ﴾ الآياتِ
[الشعراء: ١٤١] • وقَوْلِهِ:
﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها﴾ [الشمس: ١٤] • وقَوْلِهِ:
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ﴾ ﴿فَقالُوا أبَشَرًا مِنّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ إنّا إذًا لَفي ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ [القمر: ٢٣ - ٢٤] • وقَوْلِهِ:
﴿فَعَقَرُوا النّاقَةَ وعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ وقالُوا ياصالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٧٧]إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَإنَّما قالَ إنَّهم كَذَّبُوا المُرْسَلِينَ مَعَ أنَّ الَّذِي كَذَّبُوهُ هو صالِحٌ وحْدَهُ، لِأنَّ دَعْوَةَ جَمِيعِ الرُّسُلِ واحِدَةٌ، وهي تَحْقِيقُ مَعْنى ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ كَما بَيَّنَهُ تَعالى بِأدِلَّةٍ عُمُومِيَّةٍ وخُصُوصِيَّةٍ. قالَ مُعَمِّمًا لِجَمِيعِهِمْ:
﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا﴾ الآيَةَ
[الأنبياء: ٢٥] . وقالَ:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] وقالَ:
﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا أجَعَلْنا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَقالَ في تَخْصِيصِ الرُّسُلِ بِأسْمائِهِمْ:
﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: ٢٣] وقالَ:
﴿وَإلى عادٍ أخاهم هُودًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [هود: ٥٠] وقالَ:
﴿وَإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [هود: ٨٤] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
فَإذا حَقَّقْتَ أنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ واحِدَةٌ عَرَفْتَ أنَّ مَن كَذَّبَ واحِدًا مِنهم فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَهم. ولِذا صَرَّحَ تَعالى بِأنَّ مَن كَفَرَ بِبَعْضِهِمْ فَهو كافِرٌ حَقًّا. قالَ:
﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا﴾ [النساء: ١٥٠ - ١٥١]، وَبَيَّنَ أنَّهُ لا تَصِحُّ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهم بِقَوْلِهِ:
﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ﴾ [ ٢ \ ١٣٦ و ٣ \ ٨٤ ]، وقَوْلِهِ:
﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥]، ووَعَدَ الأجْرَ عَلى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهم في قَوْلِهِ:
﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهم أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ . الآيَةَ
[النساء: ١٥٢]، وقَدْ بَيَّنّا هَذِهِ المَسْألَةَ في كِتابِنا ”دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“ .
* * *تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أنَّهُ ﷺ مَرَّ بِالحِجْرِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ في طَرِيقِهِ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ:
«لَمّا مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِالحِجْرِ، قالَ: ”لا تَدْخُلُوا مَساكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم أنْ يُصِيبَكم ما أصابَهم، إلّا أنْ تَكُونُوا باكِينَ“، ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وأسْرَعَ السَّيْرَ حَتّى أجازَ الوادِيَ» ”، هَذا لَفْظُ البُخارِيِّ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ في كِتابِ أحادِيثِ الأنْبِياءِ أيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا نَزَلَ الحِجْرَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، أمَرَهم ألّا يَشْرَبُوا مِن بِئْرِها ولا يَسْتَقُوا مِنها، فَقالُوا: قَدْ عَجَنّا مِنها واسْتَقَيْنا، فَأمَرَهم أنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ العَجِينَ، ويُهْرِقُوا ذَلِكَ الماءَ»“ . ثُمَّ قالَ البُخارِيُّ: ويُرْوى عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ وأبِي الشُّمُوسِ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِإلْقاءِ الطَّعامِ، ثُمَّ قالَ: وقالَ أبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«مَنِ اعْتَجَنَ بِمائِهِ» .
ثُمَّ ساقَ بِسَنَدِهِ، عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّهُ أخْبَرَهُ:
«أنَّ النّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أرْضَ ثَمُودَ الحِجْرَ واسْتَقَوْا مِن بِئْرِها، واعْتَجَنُوا بِهِ، فَأمَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُهْرِقُوا ما اسْتَقَوْا مِن بِيارِهِمْ، وأنْ يَعْلِفُوا الإبِلَ العَجِينَ، وأمَرَهم أنْ يَسْتَسْقُوا مِنَ البِئْرِ الَّتِي تَرِدُها النّاقَةُ» " .
ثُمَّ قالَ: تابَعَهُ أُسامَةُ، عَنْ نافِعٍ، ثُمَّ ساقَ بِسَنَدِهِ، عَنْ سالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أبِيهِ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا مَرَّ بِالحِجْرِ قالَ: ”لا تَدْخُلُوا مَساكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، إلّا أنْ تَكُونُوا باكِينَ أنْ يُصِيبَكم ما أصابَهم“، ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدائِهِ وهو عَلى الرَّحْلِ» .
ثُمَّ ساقَ أيْضًا بِسَنَدِهِ، عَنْ سالِمٍ: أنَّ ابْنَ عُمَرَ قالَ:
«قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”لا تَدْخُلُوا مَساكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم، إلّا أنْ تَكُونُوا باكِينَ أنْ يُصِيبَكم ما أصابَهم»“، هَذا كُلُّهُ لَفْظُ البُخارِيِّ في صَحِيحِهِ. وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ: أمّا حَدِيثُ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فَوَصَلَهُ أحْمَدُ والطَّبَرانِيُّ مِن طَرِيقِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سَبْرَةَ - وهو بِفَتْحِ السِّينِ المُهْمَلَةِ وسُكُونِ الباءِ المُوَحَّدَةِ - الجُهَنِيُّ، قالَ:
«قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأصْحابِهِ حِينَ راحَ مِنَ الحِجْرِ: ”مَن كانَ عَجَنَ مِنكم مِن هَذا الماءِ عَجِينَةً أوْ حاسَ حَيْسًا؛ فَلْيُلْقِهِ»“، ولَيْسَ لِسَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ في البُخارِيِّ إلّا هَذا المَوْضِعُ. وأمّا حَدِيثُ أبِي الشُّمُوسِ - وهو بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ -، وهو بِكْرِيٌّ لا يُعْرَفُ اسْمُهُ - فَوَصَلَهُ البُخارِيُّ في الأدَبِ المُفْرَدِ، والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مِندَهْ مِن طَرِيقِ سُلَيْمِ بْنِ مُطَيْرٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْهُ، قالَ: ”كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . . . . . . . فَذَكَرَ الحَدِيثَ وفِيهِ: فَألْقى ذُو العَجِينِ عَجِينَهُ، وذُو الحَيْسِ حَيْسَهُ“ . ورَواهُ ابْنُ أبِي عاصِمٍ مِن هَذا الوَجْهِ، وزادَ:
«فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَدْ حِسْتُ حَيْسَةً فَأُلْقِمُها راحِلَتِي ؟ قالَ: نَعَمْ» .
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ أيْضًا: قَوْلُهُ: وقالَ أبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ”مَنِ اعْتَجَنَ بِمائِهِ“ وصَلَهُ البَزّارُ مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُدامَةَ عَنْهُ:
«أنَّهم كانُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَآتَوْا عَلى وادٍ، فَقالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ ”إنَّكم بِوادٍ مَلْعُونٍ فَأسْرِعُوا“ وقالَ: ”مَنِ اعْتَجَنَ عَجِينَةً، أوْ طَبَخَ قِدْرًا؛ فَلْيَكُبَّها» . الحَدِيثَ. قالَ: لا أعْلَمُهُ إلّا بِهَذا الإسْنادِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أصْحابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ﴾ [الحجر: ٨٠]، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِأصْحابِ الحِجْرِ:“ لا تَدْخُلُوا عَلى هَؤُلاءِ القَوْمِ إلّا أنْ تَكُونُوا باكِينَ، فَإنْ لَمْ تَكُونُوا باكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ؛ أنْ يُصِيبَكم مِثْلَ ما أصابَهم» ”وَأخْرَجَ البُخارِيُّ أيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ في كِتابِ الصَّلاةِ، في بابِ الصَّلاةِ في مَواضِعِ الخَسْفِ والعَذابِ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ:“ لا تَدْخُلُوا عَلى هَؤُلاءِ المُعَذَّبِينَ، إلّا أنْ تَكُونُوا باكِينَ، فَإنْ لَمْ تَكُونُوا باكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ؛ لا يُصِيبُكم ما أصابَهم» . وبَعْضُ هَذِهِ الرِّواياتِ الَّتِي ذَكَرْناها عَنِ البُخارِيِّ أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أيْضًا في صَحِيحِهِ، فَقَدِ اتَّفَقا عَلى النَّهْيِ عَنْ دُخُولِ دِيارِهِمْ إلّا في حالِ البُكاءِ، وعَلى إسْراعِهِ ﷺ حَتّى جاوَزَ دِيارَهم. وفي هَذِهِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ النَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ إلى مَواضِعِ الخَسْفِ والعَذابِ إلّا في حالَةِ البُكاءِ، وفِيها الإسْراعُ بِمُجاوَزَتِها، وعَدَمُ الِاسْتِسْقاءِ مِن مِياهِها، وعَدَمُ أكْلِ الطَّعامِ الَّذِي عُجِنَ بِها، ومِن هُنا قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: لا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِمائِها، ولا تَصِحُّ الصَّلاةُ فِيها؛ لِأنَّ ماءَها لَمّا لَمْ يَصْلُحْ لِلْأكْلِ والشُّرْبِ، عُلِمَ أنَّهُ غَيْرُ صالِحٍ لِلطَّهارَةِ الَّتِي هي تَقَرُّبٌ إلى اللَّهِ تَعالى.
قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: بابُ الصَّلاةِ في مَواضِعِ الخَسْفِ والعَذابِ: ”وَيُذْكَرُ أنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرِهَ الصَّلاةَ بِخَسْفِ بابِلَ. وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ: هَذا الأثَرُ رَواهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي المُحِلِّ - وهو بِضَمِّ المِيمِ وكَسْرِ المُهْمَلَةِ وتَشْدِيدِ اللّامِ -، قالَ“ كُنّا مَعَ عَلِيٍّ فَمَرَرْنا عَلى الخَسْفِ الَّذِي بِبابِلَ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتّى أجازَهُ - أيْ: تَعَدّاهُ - ”وَمِن طَرِيقٍ أُخْرى، عَنْ عَلِيٍّ، قالَ:“ ما كُنْتُ لِأُصَلِّيَ بِأرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِها ثَلاثَ مِرارٍ ”. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ثَلاثَ مِرارٍ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالخَسْفِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ فِيها إلّا خَسْفٌ واحِدٌ. وإنَّما أرادَ أنَّ عَلِيًّا قالَ ذَلِكَ ثَلاثًا. ورَواهُ أبُو داوُدَ مَرْفُوعًا مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ ولَفْظُهُ:“ نَهانِي حَبِيبِي ﷺ أنْ أُصَلِّيَ في أرْضِ بابِلَ؛ فَإنَّها مَلْعُونَةٌ ”في إسْنادِهِ ضَعْفٌ، واللّائِقُ بِتَعْلِيقِ المُصَنِّفِ ما تَقَدَّمَ، والمُرادُ بِالخَسْفِ هُنا ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ:
﴿فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهم مِنَ القَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾ الآيَةَ
[النحل: ٢٦]، ذَكَرَ أهْلُ التَّفْسِيرِ والأخْبارِ: أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ أنَّ النُّمْرُوذَ بْنَ كَنْعانَ بَنى بِبابِلَ بُنْيانًا عَظِيمًا، يُقالُ: إنَّ ارْتِفاعَهُ كانَ خَمْسَةَ آلافِ ذِراعٍ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِمْ. قالَ الخَطّابِيُّ:“ لا أعْلَمُ أحَدًا مِنَ العُلَماءِ حَرَّمَ الصَّلاةَ في أرْضِ بابِلَ " انْتَهى. مَحَلُّ الغَرَضِ مِن فَتْحِ البارِي.
وَقَوْلُ الخَطّابِيِّ يُعارِضُهُ ما رَأيْتُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولَكِنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ عُمُومُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
«وَجُعِلَتْ لَنا الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا»، وحَدِيثُ أبِي داوُدَ المَرْفُوعُ، عَنْ عَلِيٍّ الَّذِي أشارَ لَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أنَّ فِيهِ ضَعْفًا هو قَوْلُهُ: ”حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ، أخْبَرَنا ابْنُ وهْبٍ، قالَ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، ويَحْيى بْنُ أزْهَرَ، عَنْ عَمّارِ بْنِ سَعْدٍ المُرادِيِّ، عَنْ أبِي صالِحٍ الغِفارِيِّ:
«أنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ بِبابِلَ وهو يَسِيرُ، فَجاءَهُ المُؤَذِّنُ يُؤْذِنُهُ بِصَلاةِ العَصْرِ. فَلَمّا بَرَزَ مِنها أمَرَ المُؤَذِّنَ فَأقامَ الصَّلاةَ، فَلَمّا فَرَغَ مِنها قالَ:“ إنَّ حَبِيبِي ﷺ نَهانِي أنْ أُصَلِّيَ في المَقْبَرَةِ، ونَهانِي أنْ أُصَلِّيَ في أرْضِ بابِلَ؛ فَإنَّها مَلْعُونَةٌ» " .
حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ، ثَنا ابْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي يَحْيى بْنُ أزْهَرَ، وابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الحَجّاجِ بْنِ شَدّادٍ، عَنْ أبِي صالِحٍ الغِفارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ بِمَعْنى سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ، قالَ: " فَلَمّا خَرَجَ - مَكانَ فَلَمّا بَرَزَ - اهـ.
وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنّاظِرِ في إسْنادَيْ هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ لا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ القَبُولِ، ولَكِنْ فِيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ نَبَّهَ عَلَيْها ابْنُ يُونُسَ، أمّا كَوْنُهُ لا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ القَبُولِ؛ فَلِأنَّ طَرِيقَتَهُ الأُولى أوَّلُ طَبَقاتِها: سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ ولا خِلافَ في كَوْنِهِ ثِقَةً، وفي الثّانِيَةِ: أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ مَكانَ سُلَيْمانَ المَذْكُورِ، وأحْمَدُ بْنُ صالِحٍ ثِقَةٌ حافِظٌ. وكَلامُ النَّسائِيِّ فِيهِ غَلَطٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، كَما قالَ العِراقِيُّ في ألْفِيَّتِهِ:
وَرُبَّما رُدَّ كَلامُ الجارِحِ كالنَّسائِيِّ في أحْمَدَ بْنِ صالِحٍ
وَسَبَبُ غَلَطِهِ في ذَلِكَ أنَّ ابْنَ مَعِينٍ كَذَّبَ أحْمَدَ بْنَ صالِحٍ الشُّمُونِيُّ. فَظَنَّ النَّسائِيُّ أنَّ مُرادَ ابْنِ مَعِينٍ أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ هَذا الَّذِي هو أبُو جَعْفَرِ بْنُ الطَّبَرِيِّ المِصْرِيُّ، ولَيْسَ كَذَلِكَ كَما جَزَمَ بِهِ ابْنُ حِبّانَ.
والطَّبَقَةُ الثّانِيَةُ في كِلا الإسْنادَيْنِ:
ابْنُ وهْبٍ وهو: عَبْدَ اللَّهِ بْنُ وهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ القُرَشِيُّ، مَوْلاهم أبُو مُحَمَّدٍ المِصْرِيُّ ثِقَةٌ حافِظٌ عابِدٌ مَشْهُورٌ.
والطَّبَقَةُ الثّالِثَةُ مِنَ الإسْنادَيْنِ: يَحْيى بْنُ أزْهَرَ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، ويَحْيى بْنُ أزْهَرَ البَصْرِيُّ مَوْلى قُرَيْشٍ صَدُوقٌ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ صَدُوقٌ خَلَطَ بَعْدَ احْتِراقِ كُتُبِهِ. والظّاهِرُ أنَّ اعْتِضادَ أحَدِهِما بِالآخَرِ لا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الحُسْنِ. ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ راوِيَ الحَدِيثِ ابْنُ وهْبٍ ومَعْلُومٌ أنَّ رِوايَةَ ابْنِ وهْبٍ، وابْنِ المُبارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، أعْدَلُ مِن رِوايَةِ غَيْرِهِما عَنْهُ.
والطَّبَقَةُ الرّابِعَةُ في الإسْنادِ الأوَّلِ: عَمّارُ بْنُ سَعْدٍ المُرادِيُّ. وفي الإسْنادِ الثّانِي: الحَجّاجُ بْنُ شَدّادٍ، وعَمّارُ بْنُ سَعْدٍ المُرادِيُّ، ثُمَّ السَّلْهَمِيُّ، والحَجّاجُ بْنُ شَدّادٍ الصَّنْعانِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ، كِلاهُما مَقْبُولٌ كَما قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ، واعْتِضادُ أحَدِهِما بِالآخَرِ لا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الحُسْنِ.
والطَّبَقَةُ الخامِسَةُ في كِلا الإسْنادَيْنِ: أبُو صالِحٍ الغِفارِيُّ وهو سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وعِدادُهُ في أهْلِ مِصْرَ، وهو ثِقَةٌ.
والطَّبَقَةُ السّادِسَةُ في كِلَيْهِما: أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فالَّذِي يَظْهَرُ صَلاحِيَةُ الحَدِيثِ لِلِاحْتِجاجِ، ولَكِنَّهُ فِيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ ذَكَرَها ابْنُ يُونُسَ، وهي: أنَّ رِوايَةَ أبِي صالِحٍ الغِفارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ مُرْسَلَةٌ، كَما ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ. وقالَ البَيْهَقِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرى: ”بابُ مِن كَرِهَ الصَّلاةَ في مَوْضِعِ الخَسْفِ والعَذابِ،“ أنْبَأ أبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبارِيُّ، أنْبَأ أبُو بَكْرِ بْنُ داسَةَ، ثَنا أبُو داوُدَ، ثُمَّ ساقَ حَدِيثَ أبِي داوُدَ المَذْكُورِ آنِفًا بِلَفْظِهِ في المَتْنِ والإسْنادَيْنِ. ثُمَّ قالَ: ورُوِّينا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي مُحِلٍّ العُمَرِيِّ، قالَ: كُنّا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، فَمَرَّ بِنا عَلى الخَسْفِ الَّذِي بِبابِلَ فَلَمْ يُصَلِّ حَتّى أجازَهُ. وعَنْ حُجْرٍ الحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: ”ما كُنْتُ لِأُصَلِّيَ بِأرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِها ثَلاثَ مَرّاتٍ“ . ثُمَّ قالَ البَيْهَقِيُّ: وهَذا النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ فِيها إنْ ثَبَتَ مَرْفُوعًا لَيْسَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلى الصَّلاةِ؛ فَلَوْ صَلّى فِيها لَمْ يُعِدْ، ثُمَّ ساقَ البَيْهَقِيُّ بَعْضَ رِواياتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنا عَنِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ، ثُمَّ قالَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ أحَبَّ الخُرُوجَ مِن تِلْكَ المَساكِنِ، وكَرِهَ المُقامَ فِيها إلّا باكِيًا، فَدَخَلَ في ذَلِكَ المُقامُ لِلصَّلاةِ وغَيْرِها. اهـ.
وَهَذا الَّذِي ذَكَرْنا هو حاصِلُ ما جاءَ في الصَّلاةِ في مَواضِعِ الخَسْفِ والتَّطَهُّرِ بِمِياهِها، فَذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ الصَّلاةَ بِها صَحِيحَةٌ والتَّطَهُّرَ بِمائِها مُجْزِئٌ، واسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ ﷺ: ”وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدًا“ الحَدِيثَ. وكَعُمُومِ الأدِلَّةِ عَلى رَفْعِ الحَدَثِ، وحُكْمِ الخَبَثِ بِالماءِ المُطْلَقِ. وذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّها لا تَجُوزُ الصَّلاةُ فِيها، ولا تَصِحُّ الطَّهارَةُ بِمائِها، واسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ المَرْفُوعِ: أنَّ حَبِيبَهُ ﷺ نَهاهُ عَنِ الصَّلاةِ في خَسْفِ بابِلَ؛ لِأنَّها أرْضٌ مَلْعُونَةٌ. قالُوا: والنَّهْيُ يَقْتَضِي الفَسادَ؛ لِأنَّ ما نَهى عَنْهُ ﷺ لَيْسَ مِن أمْرِنا،
«وَمَن أحْدَثَ في أمْرِنا ما لَيْسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ» كَما ثَبَتَ في الحَدِيثِ. واحْتَجُّوا لِعَدَمِ الطَّهارَةِ بِمائِها بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَنَعَ مِنِ اسْتِعْمالِهِ في الأكْلِ والشُّرْبِ وهُما لَيْسا بِقُرْبَةٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى مَنعِ الطَّهارَةِ بِهِ مِن بابِ أوْلى.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنا رُجْحانُهُ؛ أنَّ مَن مَرَّ عَلَيْها يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُسْرِعَ في سَيْرِهِ حَتّى يَخْرُجَ مِنهُ، كَفِعْلِهِ ﷺ وفِعْلِ صِهْرِهِ، وابْنِ عَمِّهِ، وأبِي سِبْطَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - جَمِيعًا، وأنَّهُ لا يَدْخُلُ إلّا باكِيًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَلَوْ نَزَلَ فِيها وصَلّى فالظّاهِرُ صِحَّةُ صَلاتِهِ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ بِدَلالَةٍ واضِحَةٍ عَلى بُطْلانِها، والحُكْمُ بِبُطْلانِ العِبادَةِ يَحْتاجُ إلى نَصٍّ قَوِيِّ المَتْنِ والدَّلالَةِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *مَسائِلُ لَها تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
قَدْ عَلِمْتَ أنَّ الحِجْرَ المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ في قَوْلِهِ:
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أصْحابُ الحِجْرِ﴾ الآيَةَ
[الحجر: ٨٠]: هو دِيارُ ثَمُودَ، وأنَّهُ ورَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ في مَواضِعِ الخَسْفِ؛ فَبِهَذِهِ المُناسَبَةِ نَذْكُرُ الأماكِنَ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلاةِ فِيها ونُبَيِّنُ ما صَحَّ فِيهِ النَّهْيُ وما لَمْ يَصِحَّ.
والمَواضِعُ الَّتِي ورَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ فِيها تِسْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا سَتَأْتِي كُلُّها.
عَنْ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ، عَنْ داوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ نافِعٍ،
«عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: ”نَهى أنْ يُصَلّى في سَبْعَةِ مَواطِنَ: في المَزْبَلَةِ، والمَجْزَرَةِ، والمَقْبَرَةِ، وقارِعَةِ الطَّرِيقِ، وفي الحَمّامِ وفي أعْطانِ الإبِلِ، وفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ»“ . رَواهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ في مُسْنَدِهِ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ. وقالَ التِّرْمِذِيُّ في إسْنادِهِ: لَيْسَ بِذاكَ. وقَدْ رَوى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ هَذا الحَدِيثَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ العُمَرِيِّ، عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ. والحَدِيثُ ضَعِيفٌ لا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ؛ لِأنَّ الإسْنادَ الأوَّلَ فِيهِ زَيْدُ بْنُ جَبِيرَةَ وهو مَتْرُوكٌ، قالَ فِيهِ ابْنَ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ. وقالَ في تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: قالَ ابْنُ مَعِينٍ: هو لا شَيْءَ. وقالَ البُخارِيُّ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ. وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: مَتْرُوكُ الحَدِيثِ. وقالَ النَّسائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: ضَعِيفُ الحَدِيثِ، مُنْكَرُ الحَدِيثِ جِدًّا، مَتْرُوكُ الحَدِيثِ لا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وقالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عامَّةٌ ما يَرْوِيهِ لا يُتابِعُهُ عَلَيْهِ أحَدٌ. قُلْتَ: وقالَ السّاجِيُّ: حَدَّثَ عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ جِدًّا، يَعْنِي حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ في سَبْعِ مَواطِنَ. وقالَ الفَسَوِيُّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الحَدِيثِ. وقالَ الأزْدِيُّ: مَتْرُوكٌ. وقالَ ابْنُ حِبّانَ: يَرْوِي المَناكِيرَ عَنِ المَشاهِيرِ؛ فاسْتَحَقَّ التَّنَكُّبَ عَنْ رِوايَتِهِ. وقالَ الحاكِمُ: رَوى عَنْ أبِيهِ وداوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ وغَيْرِهِما المَناكِيرَ. وقالَ الدّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ. قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ ضَعِيفٌ اهـ كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ. وأحَدُ إسْنادَيِ ابْنِ ماجَهْ فِيهِ أبُو صالِحٍ كاتِبُ اللَّيْثِ، وهو كَثِيرُ الغَلَطِ، وفِيهِ ابْنُ عُمَرَ العُمَرِيُّ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ وأخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ. وقالَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ في العِلَلِ: هُما جَمِيعًا - يَعْنِي الحَدِيثَيْنِ - واهِيانِ. وصَحَّحَ الحَدِيثَ المَذْكُورَ ابْنُ السَّكَنِ وإمامُ الحَرَمَيْنِ.
اعْلَمْ أوَّلًا أنَّ المَواضِعَ الَّتِي ورَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ فِيها، هي السَّبْعَةُ المَذْكُورَةُ، والصَّلاةُ إلى المَقْبَرَةِ وإلى جِدارِ مِرْحاضٍ عَلَيْهِ نَجاسَةٌ، والكَنِيسَةِ والبَيْعَةِ، وإلى التَّماثِيلِ، وفي دارِ العَذابِ، وفي المَكانِ المَغْصُوبِ، والصَّلاةُ إلى النّائِمِ، والمُتَحَدِّثِ، وفي بَطْنِ الوادِي، وفي مَسْجِدِ الضِّرارِ، والصَّلاةُ إلى التَّنُّورِ، فالمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا. وسَنُبَيِّنُ أدِلَّةَ النَّهْيِ عَنْها مُفَصَّلَةً - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - أمّا في مَواضِعِ الخَسْفِ والعَذابِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ ذَلِكَ قَرِيبًا.
وَأمّا الصَّلاةُ في المَقْبَرَةِ والصَّلاةُ إلى القَبْرِ: فَكِلاهُما ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ النَّهْيُ عَنْهُ. أمّا الصَّلاةُ في المَقابِرِ: فَقَدْ ورَدَتْ أحادِيثُ صَحِيحَةٌ في النَّهْيِ عَنْها، مِنها ما رَواهُ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أنَّ
«النَّبِيَّ ﷺ قالَ في مَرَضِ مَوْتِهِ: ”لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ مَساجِدَ»“، يُحَذِّرُ ما صَنَعُوا، ولَوْلا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ﷺ غَيْرَ أنَّهُ خَشِيَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وفي الصَّحِيحَيْنِ أيْضًا نَحْوُهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - وفي بَعْضِ الرِّواياتِ المُتَّفَقِ عَلَيْها:
«لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ والنَّصارى»، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ الِاقْتِصارُ عَلى اليَهُودِ. والنَّبِيُّ ﷺ لا يَلْعَنُ إلّا عَلى فِعْلٍ حَرامٍ شَدِيدِ الحُرْمَةِ. وعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيانَ البَجَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قالَ:
«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وهو يَقُولُ: ”إنِّي أبْرَأُ إلى اللَّهِ أنْ يَكُونَ لِي مِنكم خَلِيلٌ؛ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَما اتَّخَذَ إبْراهِيمَ خَلِيلًا، ولَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِن أُمَّتِي خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ خَلِيلًا. ألا وإنَّ مَن كانَ قَبْلَكم كانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ وصالِحِيهِمْ مَساجِدَ. إلّا فَلا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَساجِدَ إنِّي أنْهاكم عَنْ ذَلِكَ»“ . أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ بِهَذا اللَّفْظِ، رَواهُ النَّسائِيُّ أيْضًا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«اجْعَلُوا مِن صَلاتِكم في بُيُوتِكم، ولا تَتَّخِذُوها قُبُورًا» أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ، والإمامُ أحْمَدُ، وأصْحابُ السُّنَنِ، إلّا ابْنَ ماجَهْ، وقَوْلُهُ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ: ”وَلا تَتَّخِذُوها قُبُورًا“ دَلِيلٌ عَلى أنَّ القُبُورَ لَيْسَتْ مَحَلَّ صَلاةٍ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعْنى الحَدِيثِ: صَلُّوا ولا تَكُونُوا كالأمْواتِ في قُبُورِهِمْ؛ فَإنَّهم لا يُصَلُّونَ. وأخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا:
«إنَّ مِن شَرارِ النّاسِ مَن تُدْرِكُهُمُ السّاعَةُ وهم أحْياءٌ، والَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَساجِدَ» . ورَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ أيْضًا.
والأحادِيثُ في هَذا البابِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ لا مَطْعَنَ فِيها، وهي تَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى تَحْرِيمِ الصَّلاةِ في المَقْبَرَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ صُلِّيَ فِيهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ المَسْجِدِ؛ لِأنَّ المَسْجِدَ في اللُّغَةِ مَكانُ السُّجُودِ، ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
«وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا» . الحَدِيثَ. أيْ: كُلُّ مَكانٍ مِنها تَجُوزُ الصَّلاةُ فِيهِ. وظاهِرُ النُّصُوصِ المَذْكُورَةِ العُمُومُ، سَواءٌ نُبِشَتِ المَقْبَرَةُ واخْتَلَطَ تُرابُها بِصَدِيدِ الأمْواتِ أوْ لَمْ تُنْبَشْ؛ لِأنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ لَيْسَتْ بِنَجاسَةِ المَقابِرِ كَما يَقُولُهُ الشّافِعِيَّةُ؛ بِدَلِيلِ اللَّعْنِ الوارِدِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلى مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ الأنْبِياءِ مَساجِدَ. ومَعْلُومٌ أنَّ قُبُورَ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ لَيْسَتْ نَجِسَةً، فالعِلَّةُ لِلنَّهْيِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ؛ لِأنَّهم إذا عَبَدُوا اللَّهَ عِنْدَ القُبُورِ آلَ بِهِمُ الأمْرُ إلى عِبادَةِ القُبُورِ.
فالظّاهِرُ مِنَ النُّصُوصِ المَذْكُورَةِ: مَنعُ الصَّلاةِ عِنْدَ المَقابِرِ مُطْلَقًا، وهو مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ، وفي صِحَّتِها عِنْدَهُ رِوايَتانِ وإنْ تَحَقَّقَتْ طَهارَتُها. وذَهَبَ مالِكٌ: إلى أنَّ الصَّلاةَ فِيها مَكْرُوهَةٌ. وذَهَبَ الشّافِعِيَّةُ: إلى أنَّها إذا كانَتْ نَجِسَةً لِاخْتِلاطِ أرْضِها بِصَدِيدِ الأمْواتِ لِأجْلِ النَّبْشِ؛ فالصَّلاةُ فِيها باطِلَةٌ، وإنْ كانَتْ لَمْ تُنْبَشْ؛ فالصَّلاةُ فِيها مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهم. وذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ المُنْذِرِ: أنَّهُ قالَ: رُوِّينا عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ، وعَطاءٍ، والنَّخَعِيِّ، أنَّهم كَرِهُوا الصَّلاةَ في المَقْبَرَةِ. قالَ: ولَمْ يَكْرَهْها أبُو هُرَيْرَةَ، وواثِلَةُ بْنُ الأسْقَعِ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، ونَقَلَ صاحِبُ الحاوِي عَنْ داوُدَ: أنَّهُ قالَ: تَصِحُّ الصَّلاةُ وإنْ تَحَقَّقَ نَبْشُها. وذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ النَّهْيَ عَنِ الصَّلاةِ في المَقْبَرَةِ عَنْ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ وهم: عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وأنَسٌ وابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ: ما نَعْلَمُ لَهم مُخالِفًا، وحَكاهُ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ: إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ، ونافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وطاوُسٍ، وعَمْرِو بْنِ دِينارٍ، وخَيْثَمَةَ، وغَيْرِهِمْ. وقَدْ حَكى الخَطّابِيُّ ”في مَعالِمِ السُّنَنِ“ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّهُ رَخَّصَ في الصَّلاةِ في المَقْبَرَةِ. وحُكِيَ أيْضًا عَنِ الحَسَنِ: أنَّهُ صَلّى في المَقْبَرَةِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قالَ: قُلْتُ لِنافِعٍ: أكانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أنْ يُصَلّى وسْطَ القُبُورِ ؟ قالَ: لَقَدْ صَلَّيْنا عَلى عائِشَةَ، وأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - وسْطَ البَقِيعِ والإمامُ يَوْمَ صَلَّيْنا عَلى عائِشَةَ أبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وحَضَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. رَواهُ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ. ومِمَّنْ كَرِهَ الصَّلاةَ في المَقْبَرَةِ: أبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ. واحْتَجَّ مَن قالَ بِجَوازِ الصَّلاةِ في المَقْبَرَةِ: بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى عَلى المِسْكِينَةِ السَّوْداءِ بِالمَقْبَرَةِ. وسَيَأْتِي قَرِيبًا - إنْ شاءَ اللَّهُ - حُكْمُ الصَّلاةِ إلى جِهَةِ القَبْرِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: أظْهَرُ الأقْوالِ دَلِيلًا في هَذِهِ المَسْألَةِ عِنْدِي قَوْلُ الإمامِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى -؛ لِأنَّ النُّصُوصَ صَرِيحَةٌ في النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ في المَقابِرِ، ولَعْنِ مَنِ اتَّخَذَ المَساجِدَ عَلَيْها، وهي ظاهِرَةٌ جِدًّا في التَّحْرِيمِ. أمّا البُطْلانُ فَمُحْتَمَلٌ؛ لِأنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الفَسادَ لِقَوْلِهِ ﷺ:
«مَن أحْدَثَ مِن أمْرِنا هَذا ما لَيْسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ» . والصَّلاةُ في المَقابِرِ مَنهِيٌّ عَنْها، فَلَيْسَتْ مِن أمْرِنا فَهي رَدٌّ. ويَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ: الصَّلاةُ مِن أمْرِنا فَلَيْسَتْ رَدًّا، وكَوْنُها في المَكانِ المَنهِيِّ عَنْهُ هو الَّذِي لَيْسَ مِن أمْرِنا.
كَما عُلِمَ الخِلافُ بَيْنَ العُلَماءِ في كُلِّ مَنهِيٍّ عَنْهُ لَهُ جِهَتانِ: إحْداهُما مَأْمُورٌ بِهِ مِنها: كَكَوْنِهِ صَلاةً، والأُخْرى مَنهِيٌّ عَنْهُ مِنها: كَكَوْنِهِ في مَوْضِعِ نَهْيٍ، أوْ وقْتِ نَهْيٍ، أوْ أرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، أوْ بِحَرِيرٍ، أوْ ذَهَبٍ، ونَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإنَّهم يَقُولُونَ: إنِ انْفَكَّتْ جِهَةُ الأمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ لَمْ يَقْتَضِ النَّهْيُ الفَسادَ، وإنْ لَمْ تَنْفَكَّ عَنْها اقْتَضاهُ. ولَكِنَّهم عِنْدَ التَّطْبِيقِ يَخْتَلِفُونَ، فَيَقُولُ أحَدُهم: الجِهَةُ هُنا مُنْفَكَّةٌ. ويَقُولُ الآخَرُ: لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً كالعَكْسِ، فَيَقُولُ الحَنْبَلِيُّ مَثَلًا: الصَّلاةُ في الأرْضِ المَغْصُوبَةِ لا يُمْكِنُ أنْ تَنْفَكَّ فِيها جِهَةُ الأمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ؛ لِكَوْنِ حَرَكَةِ أرْكانِ الصَّلاةِ كالرُّكُوعِ والسُّجُودِ والقِيامِ كُلُّها يَشْغَلُ المُصَلِّي بِهِ حَيِّزًا مِنَ الفَراغِ لَيْسَ مَمْلُوكًا لَهُ، فَنَفْسُ شَغْلِهِ لَهُ بِبَدَنِهِ أثْناءَ الصَّلاةِ حَرامٌ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِحالٍ. فَيَقُولُ المُعْتَرِضُ كالمالِكِيِّ والشّافِعِيِّ: الجِهَةُ مُنْفَكَّةٌ هُنا؛ لِأنَّ هَذا الفِعْلَ مِن حَيْثُ كَوْنِهِ صَلاةً قُرْبَةٌ، ومِن حَيْثُ كَوْنِهِ غَصْبًا حَرامٌ، فَلَهُ صَلاتُهُ وعَلَيْهِ غَصْبُهُ كالصَّلاةِ بِالحَرِيرِ. وإلى هَذا المَسْألَةِ وأقْوالِ العُلَماءِ فِيها أشارَ في مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
دُخُولُ ذِي كَراهَةٍ فِيما أُمِرَ بِهِ بِلا قَيْدٍ وفَصْلٍ قَدْ حُظِرْ
فَنَفْيُ صِحَّةٍ ونَفْيُ الأجْرِ ∗∗∗ في وقْتِ كُرْهٍ لِلصَّلاةِ يَجْرِي
وَإنْ يَكُ النَّهْيُ عَنِ الأمْرِ انْفَصَلْ ∗∗∗ فالفِعْلُ بِالصِّحَّةِ لا الأجْرُ اتَّصَلْ
وَذا إلى الجُمْهُورِ ذُو انْتِسابِ ∗∗∗ وقِيلَ بِالأجْرِ مَعَ العِقابِ
وَقَدْ رُوِي البُطْلانُ والقَضاءُ ∗∗∗ وقِيلَ ذا فَقَطْ لَهُ انْتِفاءُ
مِثْلَ الصَّلاةِ بِالحَرِيرِ والذَّهَبِ ∗∗∗ أوْ في مَكانِ الغَصْبِ والوُضُو انْقَلَبْ
وَمَعْطَنٍ ومَنهَجٍ ومَقْبَرَهْ ∗∗∗ كَنِيسَةٍ وذِي حَمِيمٍ مَجْزَرَهْ
وَأمّا الصَّلاةُ إلى القُبُورِ فَإنَّها لا تَجُوزُ أيْضًا، بِدَلِيلِ ما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، والإمامُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، عَنْ أبِي مَرْثَدٍ الغَنَوِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قالَ:
«قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”لا تُصَلُّوا إلى القُبُورِ ولا تَجْلِسُوا عَلَيْها»“ . هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وفي لَفْظٍ لَهُ أيْضًا:
«لا تَجْلِسُوا عَلى القُبُورِ ولا تُصَلُّوا إلَيْها» . والقاعِدَةُ المُقَرَّرَةُ في الأُصُولِ: أنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. فَأظْهَرُ الأقْوالِ دَلِيلًا مَنعُ الصَّلاةِ في المَقْبَرَةِ وإلى القَبْرِ؛ لِأنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ المُتَجَرِّدَةَ مِنَ القَرائِنِ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. أمّا اقْتِضاءُ النَّهْيِ الفَسادَ إذا كانَ لِلْفِعْلِ جِهَةُ أمْرٍ وجِهَةُ نَهْيٍ، فَفِيهِ الخِلافُ الَّذِي قَدَّمْناهُ آنِفًا، وإنْ كانَتْ جِهَتُهُ واحِدَةً اقْتَضى الفَسادَ. وقالَ صاحِبُ المَراقِي في اقْتِضاءِ النَّهْيِ الفَسادَ:
وَجاءَ في الصَّحِيحِ لِلْفَسادِ ∗∗∗ إنْ لَمْ يَجِي الدَّلِيلُ لِلسَّدادِ
وَقَدْ نَهى ﷺ في هَذا الحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الصَّلاةِ إلى القُبُورِ، وقَدْ قالَ:
«وَإذا نَهَيْتُكم عَنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ»، وقالَ تَعالى:
﴿وَما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ لَعْنَهُ ﷺ مَنِ اتَّخَذَ القُبُورَ مَساجِدَ يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى التَّحْرِيمِ. واحْتَجَّ مَن قالَ بِصِحَّةِ الصَّلاةِ في المَقابِرِ وإلى القُبُورِ بِأدِلَّةٍ مِنها: عُمُومُ قَوْلِهِ ﷺ الثّابِتُ في الصَّحِيحِ:
«وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا» الحَدِيثَ. قالُوا: عُمُومُهُ يَشْمَلُ المَقابِرَ، ويُجابُ عَنْ هَذا الِاسْتِدْلالِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ أحادِيثَ النَّهْيِ مِنهُ ﷺ عَنِ الصَّلاةِ في المَقْبَرَةِ وإلى القَبْرِ خاصَّةً، وحَدِيثُ
«جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا» عامٌّ، والخاصُّ يُقْضى بِهِ عَلى العامِّ كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ عِنْدَ الجُمْهُورِ.
والثّانِي: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَثْنى مِن عُمُومِ كَوْنِ الأرْضِ مَسْجِدًا المَقْبَرَةَ والحَمّامَ، فَقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، والشّافِعِيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ حِبّانَ، والحاكِمُ، وصَحَّحاهُ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدٌ إلّا المَقْبَرَةَ والحَمّامَ»، قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِ البُخارِيِّ بابُ ”كَراهِيَةِ الصَّلاةِ في المَقابِرِ“ في حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ هَذا: رَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ، ورِجالُهُ ثِقاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ في وصْلِهِ وإرْسالِهِ، وحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّتِهِ الحاكِمُ وابْنُ حِبّانَ. وقالَ الشَّوْكانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ”نَيْلِ الأوْطارِ“: صَحَّحَهُ الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ، وابْنُ حَزْمٍ الظّاهِرِيُّ، وأشارَ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ إلى صِحَّتِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: التَّحْقِيقُ أنَّ الحَدِيثَ إذا اخْتُلِفَ في وصْلِهِ وإرْسالِهِ، وثَبَتَ مَوْصُولًا مِن طَرِيقٍ صَحِيحِةٍ حُكِمَ بِوَصْلِهِ، ولا يَكُونُ الإرْسالُ في الرِّوايَةِ الأُخْرى عِلَّةً فِيهِ؛ لِأنَّ الوَصْلَ زِيادَةٌ وزِياداتُ العَدْلِ مَقْبُولَةٌ. وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِ صاحِبِ ”مَراقِي السُّعُودِ“:
والرَّفْعُ والوَصْلُ وزِيدَ اللَّفْظُ ∗∗∗ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إمامِ الحِفْظِ
مِن أدِلَّةِ مَن قالَ: تَصِحُّ الصَّلاةُ في القُبُورِ - ما رَواهُ الشَّيْخانِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ:
«أنَّ امْرَأةً سَوْداءَ كانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ أوْ شابًا، فَقَدَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَألَ عَنْها أوْ عَنْهُ، فَقالُوا: ماتَ قالَ: ”أفَلا آذَنْتُمُونِي“، قالَ: فَكَأنَّهم صَغَّرُوا أمْرَها أوْ أمْرَهُ. فَقالَ: ”دَلُّونِي عَلى قَبْرِهِ“ فَدَلُّوهُ فَصَلّى عَلَيْها. ثُمَّ قالَ: ”هَذِهِ القُبُورُ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلى أهْلِها، وإنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُها لَهم بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ»“ . ولَيْسَ لِلْبُخارِيِّ: ”إنَّ هَذِهِ القُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً“ إلى آخِرِ الخَبَرِ، قالُوا: فَهَذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاةِ إلى القَبْرِ.
وَمِن أدِلَّتِهِمْ أيْضًا ما رَواهُ الشَّيْخانِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قالَ:
«انْتَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى قَبْرٍ رَطْبٍ، فَصَلّى عَلَيْهِ، وصَفُّوا خَلْفَهُ، وكَبَّرَ أرْبَعًا» .
وَمِن أدِلَّتِهِمْ أيْضًا ما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ أنَسٍ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى عَلى قَبْرٍ» .
وَمِن أدِلَّتِهِمْ ما قَدَّمْنا مِنَ الصَّلاةِ عَلى عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - وسْطَ البَقِيعِ، وهَذِهِ الأدِلَّةُ يُسْتَدَلُّ بِها عَلى جَوازِ الصَّلاةِ إلى القُبُورِ وصِحَّتِها؛ لا مُطْلَقِ صِحَّتِها دُونَ الجَوازِ.
وَمِن أدِلَّتِهِمْ ما ذَكَرَهُ البُخارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلَفْظِ: ”وَرَأى عُمَرُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ. فَقالَ: القَبْرَ، القَبْرَ، ولَمْ يَأْمُرْهُ بِالإعادَةِ“ اهـ. وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ: أُورِدَ أثَرُ عُمَرَ الدّالُّ عَلى أنَّ النَّهْيَ في ذَلِكَ لا يَقْتَضِي فَسادَ الصَّلاةِ. والأثَرُ المَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رُوِّيناهُ مَوْصُولًا في كِتابِ الصَّلاةِ لِأبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ البُخارِيِّ. ولَفْظُهُ: ”بَيْنَما أنَسٌ يُصَلِّي إلى قَبْرٍ ناداهُ عُمَرُ: القَبْرَ، القَبْرَ؛ فَظَنَّ أنَّهُ يَعْنِي القَمَرَ. فَلَمّا رَأى أنَّهُ يَعْنِي القَبْرَ، جاوَزَ القَبْرَ وصَلّى“ ولَهُ طُرُقٌ أُخْرى بَيَّنْتُها في تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ. مِنها: مِن طَرِيقِ حُمَيْدٍ عَنْ أنَسٍ نَحْوَهُ، زادَ فِيهِ: فَقالَ بَعْضُ مَن يَلِينِي: إنَّما يَعْنِي القَبْرَ فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ. وقَوْلُهُ: القَبْرَ القَبْرَ، بِالنَّصْبِ فِيهِما عَلى التَّحْذِيرِ. وقَوْلُهُ: ولَمْ يَأْمُرْهُ بِالإعادَةِ اسْتَنْبَطَهُ مِن تَمادِي أنَسٍ عَلى الصَّلاةِ. ولَوْ كانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي فَسادَها لَقَطَعَها واسْتَأْنَفَ. اهـ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: هَذِهِ الأدِلَّةُ يَظْهَرُ لِلنّاظِرِ أنَّها مُتَعارِضَةٌ، ومَعْلُومٌ أنَّ الجَمْعَ واجِبٌ إذا أمْكَنَ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْ وجَبَ التَّرْجِيحُ، وفي هَذِهِ المَسْألَةِ يَجِبُ الجَمْعُ والتَّرْجِيحُ مَعًا. أمّا وجْهُ الجَمْعِ: فَإنَّ جَمِيعَ الأدِلَّةِ المَذْكُورَةِ في الصَّلاةِ إلى القُبُورِ كُلُّها في الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ، ولَيْسَ فِيها رُكُوعٌ ولا سُجُودٌ، وإنَّما هي دُعاءٌ لِلْمَيِّتِ: فَهي مِن جِنْسِ الدُّعاءِ لِلْأمْواتِ عِنْدَ المُرُورِ بِالقُبُورِ.
وَلا يُفِيدُ شَيْءٌ مِن تِلْكَ الأدِلَّةِ جَوازَ صَلاةِ الفَرِيضَةِ أوِ النّافِلَةِ الَّتِي هي صَلاةٌ ذاتُ رُكُوعٍ وسُجُودٍ. ويُؤَيِّدُهُ تَحْذِيرُ عُمَرَ لِأنَسٍ مِنَ الصَّلاةِ عِنْدَ القَبْرِ. نَعَمْ تَتَعارَضُ تِلْكَ الأدِلَّةُ مَعَ ظاهِرِ عُمُومِ:
«لا تَجْلِسُوا عَلى القُبُورِ، ولا تُصَلُّوا إلَيْها»؛ فَإنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلاةِ، فَيَشْمَلُ الصَّلاةَ عَلى المَيِّتِ، فَيَتَحَصَّلُ أنَّ الصَّلاةَ ذاتَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ لَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلى جَوازِها إلى القَبْرِ أوْ عِنْدَهُ، بَلِ العَكْسُ. أمّا الصَّلاةُ عَلى المَيِّتِ: فَهي الَّتِي تَعارَضَتْ فِيها الأدِلَّةُ. والمُقَرَّرُ في الأُصُولِ: أنَّ الدَّلِيلَ الدّالَّ عَلى النَّهْيِ مُقَدَّمٌ عَلى الدَّلِيلِ عَلى الجَوازِ، ولِلْمُخالِفِ أنْ يَقُولَ: لا يَتَعارَضُ عامٌّ وخاصٌّ. فَحَدِيثُ:
«لا تُصَلُّوا إلى القُبُورِ» عامٌّ في ذاتِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ والصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ. والأحادِيثُ الثّابِتَةُ في الصَّلاةِ عَلى قَبْرِ المَيِّتِ خاصَّةٌ، والخاصُّ يُقْضى بِهِ عَلى العامِّ.
فَأظْهَرُ الأقْوالِ بِحَسَبِ الصِّناعَةِ الأُصُولِيَّةِ: مَنعُ الصَّلاةِ ذاتِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ عِنْدَ القَبْرِ وإلَيْهِ مُطْلَقًا؛ لِلَعْنِهِ ﷺ لِمُتَّخِذِي القُبُورِ مَساجِدَ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ، وأنَّ الصَّلاةَ عَلى قَبْرِ المَيِّتِ - الَّتِي هي لِلدُّعاءِ لَهُ الخالِيَةَ مِنَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ - تَصِحُّ؛ لِفِعْلِهِ ﷺ الثّابِتِ في الصَّحِيحِ، مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وأنَسٍ، ويُومِئُ لِهَذا الجَمْعِ حَدِيثُ لَعْنِ مُتَّخِذِي القُبُورِ مَساجِدَ؛ لِأنَّها أماكِنُ السُّجُودِ. وصَلاةُ الجِنازَةِ لا سُجُودَ فِيها؛ فَمَوْضِعُها لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لُغَةً؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ سُجُودٍ.
* * *تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أنَّ ما يَزْعُمُهُ بَعْضُ مَن لا عِلْمَ عِنْدَهُ: مِن أنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ دَلّا عَلى اتِّخاذِ القُبُورِ مَساجِدَ، يَعْنِي بِالكِتابِ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: ٢١]، ويَعْنِي بِالسُّنَّةِ ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن أنْ: مَوْضِعَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ كانَ فِيهِ قُبُورُ المُشْرِكِينَ، في غايَةِ السُّقُوطِ، وقائِلُهُ مِن أجْهَلِ خَلْقِ اللَّهِ.
أمّا الجَوابُ عَنِ الِاسْتِدْلالِ بِالآيَةِ فَهو أنْ تَقُولَ: مَن هَؤُلاءِ القَوْمِ الَّذِينَ قالُوا:
﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ ؟ أهم مِمَّنْ يُقْتَدى بِهِ ؟ أمْ هم كَفَرَةٌ لا يَجُوزُ الِاقْتِداءُ بِهِمْ ؟، وقَدْ قالَ أبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - في هَؤُلاءِ القَوْمِ
[الكهف: ٢١]، ما نَصُّهُ: " وقَدِ اخْتُلِفَ في قائِلِ هَذِهِ المَقالَةِ، أهُمُ الرَّهْطُ المُسْلِمُونَ أمْ هُمُ الكُفّارُ ؟ فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّهم عَلى القَوْلِ بِأنَّهم كُفّارٌ فَلا إشْكالَ في أنَّ فِعْلَهم لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ إذْ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ بِالِاحْتِجاجِ بِأفْعالِ الكُفّارِ كَما هو ضَرُورِيٌّ. وعَلى القَوْلِ: بِأنَّهم مُسْلِمُونَ كَما يَدُلُّ لَهُ ذِكْرُ المَسْجِدِ؛ لِأنَّ اتِّخاذَ المَساجِدِ مِن صِفاتِ المُسْلِمِينَ، فَلا يَخْفى عَلى أدْنى عاقِلٍ أنَّ قَوْلَ قَوْمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ في القُرُونِ الماضِيَةِ: إنَّهم سَيَفْعَلُونَ كَذا، لا يُعارِضُ بِهِ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ إلّا مَن طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ فَقابَلَ قَوْلَهم:
﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: ٢١] بِقَوْلِهِ ﷺ في مَرَضِ مَوْتِهِ قَبْلَ انْتِقالِهِ إلى الرَّفِيقِ الأعْلى بِخَمْسٍ:
«لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ مَساجِدَ» . الحَدِيثَ. يَظْهَرُ لَكَ أنَّ مَنِ اتَّبَعَ هَؤُلاءِ القَوْمَ في اتِّخاذِهِمُ المَسْجِدَ عَلى القُبُورِ، مَلْعُونٌ عَلى لِسانِ الصّادِقِ المَصْدُوقِ ﷺ كَما هو واضِحٌ، ومَن كانَ مَلْعُونًا عَلى لِسانِهِ ﷺ، فَهو مَلْعُونٌ في كِتابِ اللَّهِ كَما صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧]؛ ولِهَذا صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بِأنَّ الواصِلَةَ والواشِمَةَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُما في الحَدِيثِ، كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ مَلْعُونَةٌ في كِتابِ اللَّهِ. وقالَ لِلْمَرْأةِ الَّتِي قالَتْ لَهُ: قَرَأْتُ ما بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ فَلَمْ أجِدْ، إنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وجَدْتِيهِ، ثُمَّ تَلا الآيَةَ الكَرِيمَةَ، وحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما، وبِهِ تُعْلَمُ أنَّ مَنِ اتَّخَذَ المَساجِدَ عَلى القُبُورِ مَلْعُونٌ في كِتابِ اللَّهِ - جَلَّ وعَلا - عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ وأنَّهُ لا دَلِيلَ في آيَةِ:
﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: ٢١] .
وَأمّا الِاسْتِدْلالُ: بِأنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ بِالمَدِينَةِ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ مَقابِرِ المُشْرِكِينَ فَسُقُوطُهُ ظاهِرٌ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُمِرَ بِها فَنُبِشَتْ وأُزِيلَ ما فِيها. فَفي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ”
«فَكانَ فِيهِ ما أقُولُ لَكم: قُبُورُ المُشْرِكِينَ، وفِيهِ خَرِبٌ، وفِيهِ نَخْلٌ، فَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، وجَعَلُوا عِضادَتَيْهِ الحِجارَةَ» . . . . .“ . الحَدِيثَ. هَذا لَفْظُ البُخارِيِّ. ولَفْظُ مُسْلِمٍ قَرِيبٌ مِنهُ بِمَعْناهُ. فَقُبُورُ المُشْرِكِينَ لا حُرْمَةَ لَها؛ ولِذَلِكَ أمَرَ ﷺ بِنَبْشِها وإزالَةِ ما فِيها. فَصارَ المَوْضِعُ كَأنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْرٌ أصْلًا لِإزالَتِهِ بِالكُلِّيَّةِ. وهو واضِحٌ كَما تَرى ا هـ.
والتَّحْقِيقُ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ: أنَّهُ لا يَجُوزُ البِناءُ عَلى القُبُورِ ولا تَجْصِيصُها. كَما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، وغَيْرُهُ عَنْ أبِي الهَيّاجِ الأسَدِيِّ:
«أنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ لَهُ: ألا أبْعَثُكَ عَلى ما بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ ألّا تَدَعَ تِمْثالًا إلّا طَمَسْتَهُ، ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إلّا سَوَّيْتَهُ» " .
وَلِما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ أيْضًا عَنْ جابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ:
«نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وأنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وأنْ يُبْنى عَلَيْهِ» .
فَهَذا النَّهْيُ ثابِتٌ عَنْهُ ﷺ، وقَدْ قالَ:
«وَإذا نَهَيْتُكم عَنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ» . وقالَ - جَلَّ وعَلا -:
﴿وَما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ .
وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمّا ذَكَرْنا حُكْمَ الصَّلاةِ في مَواضِعِ الخَسْفِ، وفي المَقْبَرَةِ، وإلى القَبْرِ، وفي الحَمّامِ.
وَأمّا أعْطانُ الإبِلِ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أيْضًا النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ فِيها، فَقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
«أنَّ رَجُلًا سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أأتَوَضَّأُ مِن لُحُومِ الغَنَمِ ؟ قالَ: ”إنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وإنْ شِئْتَ فَلا تَوَضَّأُ“، قالَ: أتَوَضَّأُ مِن لُحُومِ الإبِلِ ؟ قالَ: ”نَعَمْ؛ تَوَضَّأْ مِن لُحُومِ الإبِلِ“ . قالَ: أُصَلِّي في مَرابِضِ الغَنَمِ ؟ قالَ: ”نَعَمْ“، قالَ: أُصَلِّي في ”مَبارَكِ الإبِلِ“: قالَ ”لا“» . هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ.
وَأخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وابْنُ ماجَهْ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”صَلُّوا في مَرابِضِ الغَنَمِ، ولا تُصَلُّوا في أعْطانِ الإبِلِ»“ .
وَأخْرَجَ النَّسائِيُّ، والبَيْهَقِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنِ الصَّلاةِ في أعْطانِ الإبِلِ» .
وَقالَ النَّوَوِيُّ في (شَرْحِ المُهَذَّبِ): إنَّ الإسْنادَ الَّذِي أخْرَجَهُ بِهِ البَيْهَقِيُّ حَسَنٌ. وأخْرَجَ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ في (بابِ الوُضُوءِ مِن لُحُومِ الإبِلِ)، وفي (بابِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ في مَبارَكِ الإبِلِ)، عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ:
«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الصَّلاةِ في مَبارَكِ الإبِلِ، فَقالَ: ”لا تُصَلُّوا في مَبارَكِ الإبِلِ؛ فَإنَّها مِنَ الشَّياطِينِ“، وسُئِلَ عَنِ الصَّلاةِ في مَرابِضِ الغَنَمِ، فَقالَ: ”صَلُّوا فِيها؛ فَإنَّها بَرَكَةٌ»“ .
وَأخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«صَلُّوا في مُراحِ الغَنَمِ؛ ولا تُصَلُّوا في مَعاطِنِ الإبِلِ» .
وَأخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«لا يُصَلّى في أعْطانِ الإبِلِ، ويُصَلّى في مُراحِ الغَنَمِ» .
وَتَرْجَمَ البُخارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صَحِيحِهِ لِهَذِهِ المَسْألَةِ، فَقالَ: (بابُ الصَّلاةِ في مَواضِعِ الإبِلِ)، ثُمَّ قالَ: حَدَّثَنا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، قالَ: أخْبَرَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَيّانَ، قالَ: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نافِعٍ، قالَ:
«رَأيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إلى بَعِيرِهِ، وقالَ: رَأيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَفْعَلُهُ» .
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ في الكَلامِ عَلى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، الَّتِي لَمْ يَأْتِ البُخارِيُّ بِحَدِيثٍ يُطابِقُها ما نَصُّهُ: كَأنَّهُ يُشِيرُ إلى أنَّ الأحادِيثَ الوارِدَةَ في التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الإبِلِ والغَنَمِ لَيْسَتْ عَلى شَرْطِهِ، ولَكِنْ لَها طُرُقٌ قَوِيَّةٌ، مِنها حَدِيثُ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وحَدِيثُ البَراءِ بْنِ عازِبٍ عِنْدَ أبِي داوُدَ، وحَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ النَّسائِيِّ، وحَدِيثُ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عِنْدَ ابْنِ ماجَهْ، وفي مُعْظَمِها التَّعْبِيرُ بِمَعاطِنِ الإبِلِ. ووَقَعَ في حَدِيثِ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ والبَراءِ: ”مَبارَكِ الإبِلِ“، ومِثْلُهُ في حَدِيثِ سُلَيْكٍ عِنْدَ الطَّبَرانِيِّ، وفي حَدِيثِ سَبْرَةَ، وكَذا في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: ”أعْطانِ الإبِلِ“ . وفي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ عِنْدَ الطَّبَرانِيِّ: ”مَناخِ الإبِلِ“، وفي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عِنْدَ أحْمَدَ: ”مَرابِدِ الإبِلِ“ فَعَبَّرَ المُصَنِّفُ بِالمَواضِعِ لِأنَّها أشْمَلُ، والمَعاطِنُ أخَصُّ مِنَ المَواضِعِ؛ لِأنَّ المَعاطِنَ مَواضِعُ إقامَتِها عِنْدَ الماءِ خاصَّةً.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ النَّهْيَ خاصٌّ بِالمَعاطِنِ دُونَ غَيْرِها مِنَ الأماكِنِ الَّتِي تَكُونُ فِيها الإبِلُ. وقِيلَ مَأْواها مُطْلَقًا، نَقَلَهُ صاحِبُ المُغْنِي عَنْ أحْمَدَ. ا هـ كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ.
وَقالَ ابْنُ حَزْمٍ: إنَّ أحادِيثَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ في أعْطانِ الإبِلِ مُتَواتِرَةٌ بِنَقْلِ تَواتُرٍ يُوجِبُ العِلْمَ.
فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ؛ فاعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في صِحَّةِ الصَّلاةِ في أعْطانِ الإبِلِ.
فَذَهَبَتْ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّها لا تَصِحُّ فِيها، وهو الصَّحِيحُ مِن مَذْهَبِ الإمامِ أحْمَدَ، وعَلَيْهِ جُلُّ أصْحابِهِ.
قالَ صاحِبُ (الإنْصافِ): هَذا المَذْهَبُ وعَلَيْهِ الأصْحابُ. وفي الفُرُوعِ هو أشْهَرُ وأصَحُّ في المَذْهَبِ. وقالَ المُصَنَّفُ وغَيْرُهُ: هَذا ظاهِرُ المَذْهَبِ وهو مِنَ المُفْرَداتِ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ (ابْنُ حَزْمٍ) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ النَّهْيَ لِلْكَراهَةِ، وأنَّهُ لَوْ صَلّى فِيها لَصَحَّتْ صَلاتُهُ. وقَدْ قَدَّمْنا كَلامَ أهْلِ الأُصُولِ في مِثْلِ هَذِهِ المَسْألَةِ.
واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ في أعْطانِ الإبِلِ.
فَقِيلَ: لِأنَّها خُلِقَتْ مِنَ الشَّياطِينِ، كَما تَقَدَّمَ في الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وهَذا هو الصَّحِيحُ في التَّعْلِيلِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«لا تُصَلُّوا في مَبارَكِ الإبِلِ؛ فَإنَّها خُلِقَتْ مِنَ الشَّياطِينِ»، وتَرْتِيبُهُ كَوْنُها خُلِقَتْ مِنَ الشَّياطِينِ بِالفاءِ عَلى النَّهْيِ، يَدُلُّ عَلى أنَّهُ هو عِلَّتُهُ كَما تَقَرَّرَ في مَبْحَثِ مَسْلَكِ النَّصِّ، ومَسْلَكِ الإيماءِ والتَّنْبِيهِ.
وَقالَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: مَعْنى كَوْنِها: ”خُلِقَتْ مِنَ الشَّياطِينِ“، أنَّها رُبَّما نَفَرَتْ وهو في الصَّلاةِ فَتُؤَدِّي إلى قَطْعِ صَلاتِهِ، أوْ أذاهُ، أوْ تَشْوِيشِ خاطِرِهِ. وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ كُلَّ عاتٍ مُتَمَرِّدٍ تُسَمِّيهِ العَرَبُ شَيْطانًا. والإبِلُ إذا نَفَرَتْ فَهي عاتِيَةٌ مُتَمَرِّدَةٌ، فَتَسْمِيَتُها بِاسْمِ الشَّياطِينِ مُطابِقٌ لِلُغَةِ العَرَبِ.
والعَرَبُ تَقُولُ: خُلِقَ مِن كَذا لِلْمُبالَغَةِ، كَما يَقُولُونَ: خُلِقَ هَذا مِنَ الكَرَمِ، ومِنهُ قَوْلُهُ:
﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧]، عَلى أصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَعَلى هَذا فَيُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الإبِلِ في مَعاطِنِها، وبَيْنَ غَيْبَتِها عَنْها؛ إذْ يُؤْمَنُ نُفُورُها حِينَئِذٍ.
قالَ الشَّوْكانِيُّ في (نَيْلِ الأوْطارِ): ويُرْشِدُ إلى صِحَّةِ هَذا حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ أحْمَدَ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ:
«لا تُصَلُّوا في أعْطانِ الإبِلِ؛ فَإنَّها خُلِقَتْ مِنَ الجِنِّ، ألا تَرَوْنَ إلى عُيُونِها وهَيْئاتِها إذا نَفَرَتْ» .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أنْ عِلَّةَ النَّهْيِ أنْ يُجاءَ بِها إلى مَعاطِنِها بَعْدَ شُرُوعِهِ في الصَّلاةِ فَيَقْطَعُها، أوْ يَسْتَمِرُّ فِيها مَعَ شَغْلِ خاطِرِهِ، ا هــ كَلامُ الشَّوْكانِيِّ.
وَمِن هَذا التَّعْلِيلِ المَنصُوصِ؛ فَهِمَ العُلَماءُ القائِلُونَ بِعَدَمِ بُطْلانِها أنَّهُ: لَمّا كانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ ما ذُكِرَ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الصَّلاةَ إذا فَعَلَها تامَّةً أنَّها غَيْرُ باطِلَةٍ.
وَقِيلَ: العِلَّةُ أنَّ أصْحابَ الإبِلِ يَتَغَوَّطُونَ في مَبارِكِها بِخِلافِ أهْلِ الغَنَمِ.
وَقِيلَ: العِلَّةُ أنَّ النّاقَةَ تَحِيضُ، والجَمَلَ يَمْنِي.
وَكُلُّها تَعْلِيلاتٌ لا مُعَوِّلَ عَلَيْها. والصَّحِيحُ التَّعْلِيلُ المَنصُوصُ عَنْهُ ﷺ بِأنَّها خُلِقَتْ مِنَ الشَّياطِينِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *تَنْبِيهٌ.
فَإنْ قِيلَ: ما حُكْمُ الصَّلاةِ في مَبارَكِ البَقَرِ ؟ .
فالجَوابُ أنَّ أكْثَرَ العُلَماءِ يَقُولُونَ: إنَّها كَمَرابِضِ الغَنَمِ. ولَوْ قِيلَ: إنَّها كَمَرابِضِ الإبِلِ؛ لَكانَ لِذَلِكَ وجْهٌ.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ (في فَتْحِ البارِي): وقَعَ في مُسْنَدِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُصَلِّي في مَرابِضِ الغَنَمِ، ولا يُصَلِّي في مَرابِضِ الإبِلِ والبَقَرِ»، اهـ. قالَ: وسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. فَلَوْ ثَبَتَ لَأفادَ أنَّ حُكْمَ البَقَرِ حُكْمُ الإبِلِ. بِخِلافِ ما ذَكَرَهُ ابْنُ المُنْذِرِ: أنَّ البَقَرَ في ذَلِكَ كالغَنَمِ. اهـ كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ.
وَما يَقُولُهُ أبُو داوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مِن أنَّ العَمَلَ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ بِالرَّأْيِ لَهُ وجْهٌ وجِيهٌ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَأمّا الصَّلاةُ في المَزْبَلَةِ، والمَجْزَرَةِ، وقارِعَةِ الطَّرِيقِ، وفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ، فَدَلِيلُ النَّهْيِ عَنْها هو ما تَقَدَّمَ مِن حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ، عَنْ داوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْهُ ﷺ، وقَدْ قَدَّمْنا ما في إسْنادِهِ مِنَ الكَلامِ.
وَأمّا الصَّلاةُ إلى جِدارِ مِرْحاضٍ عَلَيْهِ نَجاسَةٌ، فَلِما رُوِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - .
قالَ العَلّامَةُ الشَّوْكانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (نَيْلِ الأوْطارِ): وأمّا الصَّلاةُ إلى جِدارِ مِرْحاضٍ؛ فَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ بِلَفْظِ:
«نَهى عَنِ الصَّلاةِ في المَسْجِدِ تُجاهَهُ حُشٌّ»، أخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. قالَ العِراقِيُّ ولَمْ يَصِحَّ إسْنادُهُ.
وَرَوى ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قالَ: لا يُصَلّى إلى الحُشِّ.
وَعَنْ عَلِيٍّ قالَ: لا يُصَلّى تُجاهَ حُشٍّ.
وَعَنْ إبْراهِيمَ: كانُوا يَكْرَهُونَ ثَلاثَةَ أشْياءَ. . فَذَكَرَ مِنها الحُشَّ.
وَفِي كَراهَةِ اسْتِقْبالِهِ خِلافٌ بَيْنَ العُلَماءِ. اهـ كَلامُ الشَّوْكانِيِّ.
والمُرادُ بِالحُشِّ - بِضَمِّ الحاءِ وفَتْحِها - بَيْتُ الخَلاءِ.
وَأمّا الصَّلاةُ في الكَنِيسَةِ والبَيْعَةِ - والمُرادُ بِهِما مُتَعَبَّداتُ اليَهُودِ والنَّصارى -، فَقَدْ كَرِهَها جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ.
قالَ النَّوَوِيُّ في (شَرْحِ المَذْهَبِ): حَكاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، وابْنِ عَبّاسٍ، ومالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - .
قالَ الشَّوْكانِيُّ: وقَدْ رُويَتِ الكَراهَةُ أيْضًا عَنِ الحَسَنِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: الظّاهِرُ أنَّ ما رُوِيَ مِن ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ، وإنَّما هو في الكَنائِسِ والبِيَعِ الَّتِي فِيها الصُّوَرُ خاصَّةً. ومِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما ذَكَرَهُ البُخارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صَحِيحِهِ، قالَ: (بابُ الصَّلاةِ في البِيعَةِ)، وقالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ”إنّا لا نَدْخُلُ كَنائِسَكم مِن أجْلِ التَّماثِيلِ الَّتِي فِيها الصُّوَرُ“ . وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُصَلِّي في البِيعَةِ إلّا بِيعَةً فِيها تَماثِيلُ.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في (الفَتْحِ): إنَّ الأثَرَ الَّذِي عَلَّقَهُ البُخارِيُّ عَنْ عُمَرَ، وصَلَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ مِن طَرِيقِ أسْلَمَ - مَوْلى عُمَرَ - . والأثَرُ الَّذِي عُلِّقَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وصَلَهُ البَغَوِيُّ في الجَعْدِيّاتِ. اهـ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ البُخارِيَّ لا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الجَزْمِ إلّا ما هو ثابِتٌ عِنْدَهُ.
وَرَخَّصَ في الصَّلاةِ في الكَنِيسَةِ والبِيعَةِ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ، مِنهم: أبُو مُوسى، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، والشَّعْبِيُّ، وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، وابْنُ سِيرِينَ، والنَّخَعِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وغَيْرُهم.
قالَ العَلّامَةُ الشَّوْكانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولَعَلَّ وجْهَ الكَراهَةِ هو ما تَقَدَّمَ مِنِ اتِّخاذِ قُبُورِ أنْبِيائِهِمْ وصُلَحائِهِمْ مَساجِدَ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ جَمِيعُ البِيَعِ والكَنائِسِ مَظِنَّةً لِذَلِكَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ العِلَّةُ أنَّ الكَنِيسَةَ والبِيعَةَ: مَوْضِعٌ يُعْصى اللَّهُ فِيهِ ويُكْفَرُ بِهِ فِيهِ، فَهي بُقْعَةُ سُخْطٍ وغَضَبٍ. وأمّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ إلى التَّماثِيلِ: فَدَلِيلُهُ ثابِتٌ في الصَّحِيحِ.
فَمِن ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ (في كِتابِ الصَّلاةِ)، قالَ: (بابُ إنْ صَلّى في ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ، أوْ تَصاوِيرَ: هَلْ يُفْسِدُ صَلاتَهُ ؟ وما يُنْهى عَنْ ذَلِكَ، حَدَّثَنا أبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الوارِثِ، قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أنَسٍ:
«كانَ قِرامٌ لِعائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جانِبَ بَيْتِها، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”أمِيطِي عَنّا قِرامَكِ هَذا؛ إنَّهُ لا تَزالُ تَصاوِيرُهُ تَعْرِضُ في صَلاتِي»“ .
وَقالَ البُخارِيُّ أيْضًا ( في كِتابِ اللِّباسِ، بابُ كَراهِيَةِ اللِّباسِ في التَّصاوِيرِ): حَدَّثَنا عِمْرانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوارِثِ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قالَ:
«كانَ قِرامٌ لِعائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جانِبَ بَيْتِها، فَقالَ لَها النَّبِيُّ ﷺ: ”أمِيطِي عَنِّي؛ فَإنَّهُ لا تَزالُ تَصاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي في صَلاتِي»“ .
وَقالَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القاسِمِ، قالَ:
«سَمِعْتُ القاسِمَ يُحَدِّثُ عَنْ عائِشَةَ: أنَّهُ كانَ لَها ثَوْبٌ فِيهِ تَصاوِيرُ مَمْدُودٌ إلى سَهْوَةٍ، فَكانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي إلَيْهِ، فَقالَ: ”أخِّرِيهِ عَنِّي“، قالَتْ: فَأخَّرْتُهُ فَجَعَلْتُهُ وسائِدَ» .
والثَّوْبُ في هَذِهِ الرِّوايَةِ هو القِرامُ المَذْكُورُ، والقِرامُ - بِالكَسْرِ -: سِتْرٌ فِيهِ رَقْمٌ ونُقُوشٌ، أوِ السِّتْرُ الرَّقِيقُ، ومِنهُ قَوْلُ لَبِيدٍ في مُعَلَّقَتِهِ يَصِفُ الهَوْدَجَ:
مِن كُلِّ مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّهُ زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلَّةٌ وقِرامُها
وَقَوْلُ الآخَرِ يَصِفُ دارًا:
عَلى ظَهْرِ جَرْعاءِ العَجُوزِ كَأنَّها ∗∗∗ دَوائِرُ رَقْمٍ في سَراةِ قِرامِ
والكِلَّةُ في بَيْتِ لَبِيدٍ: هي القِرامُ إذا خِيطَ فَصارَ كالبَيْتِ.
فَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ إلى التَّماثِيلِ. ومِمّا يَدُلُّ لِذَلِكَ ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما مِن حَدِيثِ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -:
«أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتا كَنِيسَةً رَأيْنَها بِالحَبَشَةِ، فِيها تَصاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”إنَّ أُولَئِكَ إذا كانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصّالِحُ فَماتَ، بَنَوْا عَلى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ»“ . اهـ. هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ، ولَفْظُ البُخارِيِّ قَرِيبٌ مِنهُ. اهـ.
أمّا بُطْلانُ صَلاةِ مَن صَلّى إلى التَّماثِيلِ، فَفِيهِ اخْتِلافٌ بَيْنَ العُلَماءِ، وقَدْ أشارَ لَهُ البُخارِيُّ بِقَوْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنا عَنْهُ (بابُ إنْ صَلّى في ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ، أوْ تَصاوِيرَ: هَلْ تَفْسُدُ صَلاتَهُ ؟) الخَ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ مَنشَأ الخِلافِ في البُطْلانِ هو الِاخْتِلافُ في انْفِكاكِ جِهَةِ النَّهْيِ عَنْ جِهَةِ الأمْرِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَأمّا مَنعُ تَصْوِيرِ الحَيَوانِ، وتَعْذِيبُ فاعِلِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ أشَدَّ العَذابِ، وأمْرُهم بِإحْياءِ ما صَوَّرُوا، وكَوْنُ المَلائِكَةِ لا تَدْخُلُ مَحَلًّا فِيهِ صُورَةٌ أوْ كَلْبٌ، فَكُلُّهُ مَعْرُوفٌ ثابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
وَأمّا الصَّلاةُ في المَكانِ المَغْصُوبِ: فَإنَّها لا تَجُوزُ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّ اللُّبْثَ فِيها حَرامٌ في غَيْرِ الصَّلاةِ، فَلَأنْ يَحْرُمَ في الصَّلاةِ أوْلى.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ: إلى أنَّهُ لَوْ صَلّى في أرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَصَلاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِانْفِكاكِ الجِهَةِ أنَّهُ آثِمٌ بِغَصْبِهِ، مُطِيعٌ بِصَلاتِهِ: كالمُصَلِّي بِحَرِيرٍ.
وَذَهَبَ الإمامُ أحْمَدُ في أصَحِّ الرِّواياتِ عَنْهُ، والجُبّائِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ: إلى أنَّها باطِلَةٌ؛ لِعَدَمِ انْفِكاكِ جِهَةِ الأمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ كَما قَدَّمْنا، وقَدْ قَدَّمْنا أقْوالَ عامَّةِ العُلَماءِ في هَذِهِ المَسْألَةِ في أبْياتِ مَراقِي السُّعُودِ الَّتِي اسْتَشْهَدْنا بِها. وأمّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ إلى النّائِمِ والمُتَحَدِّثِ: فَدَلِيلُهُ ما أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ، قالَ: (بابُ الصَّلاةِ إلى المُتَحَدِّثِينَ والنِّيامِ)، حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أيْمَنَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، قالَ: قُلْتُ لَهُ - يَعْنِي لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ -: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«لا تُصَلُّوا خَلْفَ النّائِمِ ولا المُتَحَدِّثُ» . اهـ.
وَهَذا الحَدِيثُ لا يَخْفى ضَعْفُهُ؛ لِأنَّ الرّاوِيَ في هَذا الإسْنادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ لا يُدْرى مَن هو كَما تَرى.
وَقالَ ابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْماعِيلَ، ثَنا زَيْدُ بْنُ الحُبابِ، حَدَّثَنِي أبُو المِقْدامِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ:
«نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُصَلّى خَلْفَ المُتَحَدِّثِ، أوِ النّائِمِ» . وإسْنادُ ابْنِ ماجَهْ هَذا لا يُحْتَجُّ بِهِ أيْضًا؛ لِأنَّ الرّاوِيَ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أبُو المِقْدامِ وهو هِشامُ بْنُ زِيادِ بْنِ أبِي يَزِيدَ، وهو هِشامُ بْنُ أبِي هِشامٍ، ويُقالُ لَهُ أيْضًا: هِشامُ بْنُ أبِي الوَلِيدِ المَدَنِيُّ، وهو لا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ. وقالَ في تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ، وأبُو زُرْعَةَ: ضَعِيفُ الحَدِيثِ. وقالَ الدُّورِيُّ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ. وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ضَعِيفٌ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقالَ البُخارِيُّ: يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ. وقالَ أبُو داوُدَ: غَيْرُ ثِقَةٍ. وقالَ التِّرْمِذِيُّ: يُضَعَّفُ. وقالَ النَّسائِيُّ وعَلِيُّ بْنُ الجُنَيْدِ الأزْدِيُّ: مَتْرُوكُ الحَدِيثِ. وقالَ النَّسائِيُّ أيْضًا: ضَعِيفٌ. وقالَ النَّسائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، ومَرَّةً: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: ضَعِيفُ الحَدِيثِ لَيْسَ بِالقَوِيِّ، وكانَ جارًا لِأبِي الوَلِيدِ، فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ، وكانَ لا يَرْضاهُ. ويُقالُ: إنَّهُ أخَذَ كِتابَ حَفْصٍ المِنقَرِيِّ، عَنِ الحَسَنِ فَرَوى عَنِ الحَسَنِ. وعِنْدَهُ عَنِ الحَسَنِ أحادِيثُ مُنْكَرَةٌ.
قُلْتُ: وقالَ ابْنُ حِبّانَ: يَرْوِي المَوْضُوعاتِ عَنِ الثِّقاتِ: لا يَجُوزُ الِاحْتِجاجُ بِهِ. وقالَ الدّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ، وتَرَكَ ابْنُ المُبارَكِ حَدِيثَهُ. وقالَ ابْنُ سَعْدٍ: كانَ ضَعِيفًا في الحَدِيثِ. وقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ: لا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وقالَ العِجْلِيُّ: ضَعِيفٌ. وقالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيانَ: ضَعِيفٌ لا يُفْرَحُ بِحَدِيثِهِ. اهـ كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ. وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ الصَّلاةَ إلى النّائِمِ والمُتَحَدِّثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّهْيُ عَنْها مِن طَرِيقٍ صَحِيحٍ.
وَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فاعْلَمْ أنَّ الصَّلاةَ إلى النّائِمِ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ فَعَلَها. قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ (بابُ الصَّلاةِ خَلْفَ النّائِمِ): حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى، قالَ: حَدَّثَنا هِشامٌ، قالَ: حَدَّثَنِي أبِي، عَنْ عائِشَةَ قالَتْ:
«كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي وأنا راقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلى فِراشِهِ، فَإذا أرادَ أنْ يُوتِرَ أيْقَظَنِي فَأوْتَرْتُ» .
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ: أوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عائِشَةَ أيْضًا مِن وجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ؛ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ قَدْ يُفَرِّقُ مُفَرِّقٌ بَيْنَ كَوْنِها نائِمَةً أوْ يَقْظى. وكَأنَّهُ أشارَ أيْضًا إلى تَضْعِيفِ الحَدِيثِ الوارِدِ في النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ إلى النّائِمِ، فَقَدْ أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ وابْنُ ماجَهْ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ. اهـ. وقالَ أبُو داوُدَ: طُرُقُهُ كُلُّها واهِيَةٌ - يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ - اهـ.
وَفِي البابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ، وهُما واهِيانِ أيْضًا. وكَرِهَ مُجاهِدٌ وطاوُسٌ ومالِكٌ الصَّلاةَ إلى النّائِمِ؛ خَشْيَةَ أنْ يَبْدُوَ مِنهُ ما يُلْهِي المُصَلِّي عَنْ صَلاتِهِ، وظاهِرُ تَصَرُّفِ المُصَنِّفِ: أنَّ عَدَمَ الكَراهَةِ حَيْثُ يَحْصُلُ الأمْنُ مِن ذَلِكَ، انْتَهى كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ في (فَتْحِ البارِي) .
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - أنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ خاصٌّ في النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ إلى النّائِمِ والمُتَحَدِّثِ، ولَكِنْ ذَلِكَ لا يُنافِي أخْذَ الكَراهَةِ مِن عُمُومِ نُصُوصٍ أُخَرَ، كَتَعْلِيلِ كَراهَةِ الصَّلاةِ إلى النّائِمِ بِما ذُكِرَ مِن خَشْيَةِ أنْ يَبْدُوَ مِنهُ ما يُلْهِي المُصَلِّي عَنْ صَلاتِهِ؛ لِأنَّ النّائِمَ لا يَدْرِي عَنْ نَفْسِهِ.
وَكَتَعْلِيلِ كَراهَةِ الصَّلاةِ إلى المُتَحَدِّثِ؛ بِأنَّ الحَدِيثَ يُشَوِّشُ عَلى المُصَلِّي في صَلاتِهِ، - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - .
وَأمّا كَراهَةُ الصَّلاةِ في بَطْنِ الوادِي؛ فَيُسْتَدَلُّ لَها بِما جاءَ في بَعْضِ رِواياتِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ المُتَقَدِّمِ في المَواضِعِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلاةِ فِيها ”وَبَطْنِ الوادِي“ بَدَلَ ”المَقْبَرَةِ“، قالَ الشَّوْكانِيُّ قالَ الحافِظُ: وهي زِيادَةٌ باطِلَةٌ لا تُعْرَفُ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: كَراهَةُ الصَّلاةِ في بَطْنِ الوادِي مُخْتَصَّةٌ بِالوادِي الَّذِي حَضَرَ فِيهِ الشَّيْطانُ النَّبِيَّ ﷺ وأصْحابَهُ، فَنامُوا عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ حَتّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ.
وَأمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِأنْ يَتَأخَّرُوا عَنْ ذَلِكَ المَوْضِعِ الَّذِي حَضَرَهم فِيهِ الشَّيْطانُ.
وَيُجابُ عَنْ هَذا: بِأنَّ الشَّيْطانَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ذَهَبَ عَنِ الوادِي. - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - .
وَأمّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ في مَسْجِدِ الضِّرارِ؛ فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا﴾ [التوبة: ١٠٨]، وقَوْلُهُ - جَلَّ وعَلا -:
﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرارًا وكُفْرًا وتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وإرْصادًا لِمَن حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾ الآيَةَ
[التوبة: ١٠٧] . وقَوْلُهُ:
﴿أفَمَن أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ ورِضْوانٍ خَيْرٌ أمْ مَن أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فانْهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ إلّا أنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ الآيَةَ
[التوبة: ١٠٩ - ١١٠] . فَهَذِهِ الآياتُ تَدُلُّ عَلى التَّباعُدِ عَنْ مَوْضِعِ ذَلِكَ المَسْجِدِ، وعَدَمِ القِيامِ فِيهِ كَما هو ظاهِرٌ.
وَأمّا كَراهَةُ الصَّلاةِ إلى التَّنُّورِ؛ فَلِما رَواهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أنَّهُ كَرِهَ الصَّلاةَ إلى التَّنُّورِ، وقالَ: هو بَيْتُ نارٍ.
وَظاهِرُ صَنِيعِ البُخارِيِّ: أنَّ الصَّلاةَ إلى التَّنُّورِ عِنْدَهُ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وأنَّ عَرْضَ النّارِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ في صَلاتِهِ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الكَراهَةِ. قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ (بابُ مَن صَلّى وقُدّامُهُ تَنُّورٌ أوْ نارٌ، أوْ شَيْءٌ مِمّا يُعْبَدُ فَأرادَ بِهِ اللَّهَ)، وقالَ الزُّهْرِيُّ: أخْبَرَنِي أنَسٌ، قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«عُرِضَتْ عَلَيَّ النّارُ وأنا أُصَلِّي»، حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ، قالَ:
«انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ فَصَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قالَ: " رَأيْتُ النّارَ فَلَمْ أرَ مَنظَرًا كاليَوْمِ قَطُّ أفْظَعَ» . اهـ.
وَعَرْضُ النّارِ عَلَيْهِ ﷺ وهو في صَلاتِهِ، دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ الكَراهَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ.
وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الرِّواياتِ الثّابِتَةِ في الصَّحِيحِ عَلى أنَّ النّارَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ وجْهِهِ، لا مِن جِهَةِ اليَمِينِ ولا الشِّمالِ، فَفي بَعْضِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ: أنَّهم قالُوا لَهُ بَعْدَ أنِ انْصَرَفَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، رَأيْناكَ تَناوَلْتَ شَيْئًا في مَقامِكَ، ثُمَّ رَأيْناكَ تَكَعْكَعْتَ - أيْ: تَأخَّرْتَ - إلى خَلْفٍ ؟ وفي جَوابِهِ: أنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ ”أُرِيَ النّارَ. .“ إلَخْ.
فَهَذا هو حاصِلُ كَلامِ العُلَماءِ في الأماكِنِ الَّتِي ورَدَ نَهْيٌ عَنِ الصَّلاةِ فِيها، الَّتِي لَها مُناسَبَةٌ بِآيَةِ الحِجْرِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.