القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ العلم بكلام العرب في مُرَافع"المثل"، [[في المطبوعة:" رافع" والذي في المخطوطة خالص الصواب. وانظر ما سيأتي ص: ٥٥٢.]]
فقال بعض نحويي الكوفيين: الرافع للمثل قوله: ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ ، في المعنى، وقال: هو كما تقول:"حِلْيَةُ فلان، أسمرُ كذا وكذا" فليس"الأسمر" بمرفوع بالحلية، إنما هو ابتداءٌ، أي هو أسمر هو كذا. قال: ولو دخل"أنّ" في مثل هذا كان صوابًا. قال: ومِثْلُه في الكلام:"مَثَلُك أنَّك كذا وأنك كذا"، وقوله: ﴿فَلْيَنْظَرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا﴾ [سورة عبس: ٢٤، ٢٥] مَنْ وجَّه، ﴿مثلُ الجنة التي وعد المتقون فيها﴾ ، ومن قال: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ﴾ ، أظهر الاسم لأنه مردودٌ على"الطعام" بالخفض، ومستأنف، أي: طَعامُهُ أنَّا صببنا ثم فعلنا. وقال: معنى قوله: ﴿مثل الجنة﴾ ، صفات الجنّة.
* * *
وقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: صفةُ الجنة قال: ومنه قول الله تعالى: ﴿ولَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى﴾ [سورة الروم:٢٧] ، معناه: ولله الصِفة العُليَا. قال: فمعنى الكلام في قوله: ﴿مثلُ الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتِها الأنهار﴾ ، أو فيها أنهار، [[العبارة مبهمة، ويبدو لي أن صوابها بعد الآية:" صفة الجنة التي وعد المتقون، صفة جنة تجري من تحتها الأنهار، أو فيها أنهار".]] كأنه قال: وَصْف الجنة صفة تجري من تحتها الأنهار، أو صفة فيها أنهار، والله أعلم.
قال: ووجه آخر كأنه إذا قيل: ﴿مَثَلُ الجنة﴾ ، قيل: الجنَّة التي وُعِدَ المتقون. قال. وكذلك قوله: ﴿وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [سورة النمل:٣٠] ، كأنه قال: بالله الرحمن الرحيم، والله أعلم.
قال: وقوله: ﴿عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾ [سورة الزمر:٥٦] ، في ذات الله، كأنه عندَنا قيل: في الله.
قال: وكذلك قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى:١١] ، إنما المعنى: ليس كشيء، وليس مثله شيء، لأنه لا مثْلَ له. قال: وليس هذا كقولك للرجل:"ليس كمثلك أحدٌ"، لأنه يجوز أن يكون له مثلٌ، والله لا يجوز ذلك عليه. قال: ومثلُه قول لَبيد:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا [[سلف البيت وتخريجه وشرحه ١: ١١٩، تعليق ١ / ١٤: ٤١٧، تعليق: ١، وعجزه: * وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ *]]
قال: وفُسِّر لنا أنه أراد: السلام عليكما:
قال أوس بن حجر:
وَقَتْلَى كِرَامٍ كَمِثْلِ الجُذُوعِ ... تَغَشَّاهُمُ سَبَلُ مُنْهِمرْ [[سيأتي البيت بعد ٢٥: ٩ (بولاق) ، وروايته هناك:" مُسْبِلٌ"، وكان في المطبوعة:" سيل"، تصحيف، و" السبل"، بالتحريك، المطر.]]
قال: والمعنى عندنا: كالجذوع، لأنه لم يرد أن يجعل للجذوع مَثَلا ثمّ يشبه القتلى به. قال: ومثله قول أمية:
زُحَلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ... وَالنَّسْرُ لِلأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصِدُ [[سلف البيت: ١: ٣٤٥، وهناك" رجل وثور"، ورجحت أنها" رجل"، لما جاء في الخبر قبله رقم: ٤٤٨.]]
قال فقال:"تحت رجل يمينه" كأنه قال: تَحْتَ رِجله، أو تحت رِجله اليُمْنَى. قال: وقول لَبيد:
أَضَلَّ صِوَارَهُ وَتَضَيَّفَتْهُ ... نَطُوفٌ أَمْرُهَا بِيَدِ الشَّمَالِ [[ديوانه: ٧٧، وتخريجه: ٣٧٣، يزاد عليه ما هنا واللسان (يدي) . والبيت في سياق أبيات من القصيدة، يصف فيها ثور الوحش، والضمير في" أضل، إليه. و" الصوار"، قطيع بقر الوحش، أضل الثور قطيعة وبقي فردًا وحيدًا، كئيبًا متحيرًا." تضيفته"، نزلت به وطرقته، والضمير في" تضيفته" لإحدى الليالي التي ذكرها في البيت قبله: كَأَخْنَسَ نَاشِطٍ جَادَتْ عَلَيْهِ ... ببُرْقَةِ وَاحِفٍ إحْدَى اللَّيالي
و" ليلة نطوف"، قاطرة تمطر حتى الصباح. وقال أبو عمرو:" تطوف": سحابة تسيل قليلا قليلا"، والأول عندي أجود هنا، وفي اللسان (يدي) :" نِطَافٌ"]]
كأنه قال: أمرها بالشمال، وإلى الشمال ؛ وقول لَبيد أيضًا:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِر [[ديوانه: ٢١٦، تخريجه: ٣٩٦، ويزاد عليه ما هنا، وتمام البيت: * وأجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلامُهَا *
" ألقت"، يعني الشمس، ولم يجر لها ذكر قبل. و" الكافر"، الليل المظلم، يستر ما يشتمل عليه.]]
فكأنه قال: حتى وَقَعت في كافر.
* * *
وقال آخر منهم: هو من المكفوف عن خبَره. [[هذه مقالة أبي عبيدة مجاز القرآن ١: ٣٣٣، ٣٣٤.]] قال: والعرب تفعل ذلك. قال: وله معنى آخر: ﴿للَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى﴾ ، مَثَلُ الجنة، موصولٌ، صفةٌ لها على الكلام الأوَل. [[هو أيضًا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ٣٣٤. وقوله:" للذين استجابوا"، هي الآية ١٨ من سورة الرعد، وهذه الآية: ٣٥ منها، فلذلك قال:" على الكلام الأول".]]
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال ذَكر المَثَل، فقال ﴿مثل الجنة﴾ ، والمراد الجنة، ثم وُصِفت الجنة بصفتها، وذلك أن مَثَلَها إنما هو صِفتَهُا وليست صفتها شيئًا غيرها. وإذْ كان ذلك كذلك، ثم ذكر"المثل"، فقيل: ﴿مثل الجنة﴾ ، ومثلها صفَتُها وصفة الجنّة، فكان وصفها كوصف"المَثَل"، وكان كأنَّ الكلام جرى بذكر الجنة، فقيل: الجنةُ تجري من تحتها الأنهار، كما قال الشاعر: [[هو جرير.]]
أَرَى مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلالِ [[سلف البيت ٧: ٨٦، تعليق: ١ / ١٥: ٥٦٧ وسيأتي ١٩: ٣٩ (بولاق) ، ويزاد في المراجع: اللسان (خضع) .]]
فذكر"المرّ"، ورَجَع في الخبر إلى"السنين".
وقوله: ﴿أكلها دائمٌ وظلها﴾ ، يعني: ما يؤكل فيها، [[انظر تفسير" الأكل" فيما سلف من هذا الجزء: ٣٤٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.]] يقول: هو دائم لأهلها، لا ينقطع عنهم، ولا يزول ولا يبيد، ولكنه ثابتٌ إلى غير نهاية= ﴿وظلها﴾ ، يقول: وظلها أيضًا دائم، لأنه لا شمس فيها. [[سلف" الظل" غير مبين ٨: ٤٨٩.]]
* * *
﴿تلك عقبى الذين اتقَوْا﴾ ، يقول: هذه الجنة التي وصف جل ثناؤه، عاقبة الذين اتَّقَوا الله، فاجتنبوا مَعَاصيه وأدَّوْا فرائضه. [[انظر تفسير" العاقبة" و" العقبى" فيما سلف ١٥: ٣٥٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك.]]
وقوله: ﴿وعُقْبَى الكافرين النار﴾ ، يقول: وعاقبةُ الكافرين بالله النارُ.
{"ayah":"۞ مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ أُكُلُهَا دَاۤىِٕمࣱ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ۚ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٱلنَّارُ"}