قالت محققة الكتاب، الدكتورة هدى محمود قراعة:
* منهج الأخفش في كتابه :
الكتاب - كما وضح - في «معانى القرآن» أى: التفسير النحوى للقرآن .
وقد اتبع الأخفش نهجاً لم يسبق إليه . فقد ابتدأ كتابه بتفسير وإعراب وإيراد قراءات البسملة وسورة الحمد .
ثم أورد الحروف المقطعة في أوائل سورة البقرة ، وفي أوائل السور التى وردت بها هذه الحروف المقطعة، وأورد الأقوال والآراء التى قيلت فيها، والقراءات التى تجوز القراءة بها . ثم أورد تفسيرا وقراءات وأوجها إعرابية للآيات من أوائل سورة البقرة إلى الآية ٢٨ منها.
ثم بعد ذلك اتبع منهجاً آخر يخضع لبعض أبواب النحو ؛ وهو في إيراده لهذه الأبواب يحاول قدر الاستطاعة إيراد الآيات مرتبة في سورة البقرة ؛ فنراه يورد ما يلى :
۱- هذا باب من المجاز .
٢- هذا باب الاستثناء .
٢- هذا باب الدعاء .
٤- هذا باب الفاء.
٥- باب الإضافة .
٦- باب المجازاة .
٧- باب تفسير أنا وأنت وهو .
٨- باب الواو .
٩- باب اسم الفاعل .
١٠- باب إضافة الزمان إلى الفعل .
١١- باب من التأنيث والتذكير .
۱۲- باب أهل وآل .
۱۳- باب الفعل .
١٤- باب زيادة ( من ) .
١٥- باب من تفسير الهمز .
١٦- باب إن وأن .
١٧- باب من الاستثناء .
۱۸- باب الجمع .
١٩- باب اللام .
والأخفش يعنون أبوابه النحوية هذه من واقع الآيات التى ترد مرتبة، وهو يورد في هذه الأبواب جل ما يتصل بها من قواعد وأحكام مستشهداً لها بآيات من سور أخر.
فكأنه بإيراده لمسائله هكذا في أبواب ، قد وضع أمام النحويين منهجاً للتصنيف يتبعونه، فيقسمون مسائل كتبهم أبواباً نحوية، يجمعون فيها كل ما يتعلق بالمسألة أو بالأداة.
أما بالنسبة للقراءات :
فيورد الأخفش الآية أو جزءاً من الآية ؛ وفي أحيان ليست بالقليلة، يورد الآية بقراءة غير قراءة حفص ، ثم يتبع ذلك بقراءة حفص ، ثم يورد القراءات الأخر ؛ إن وجدت ؛ بعد ذلك . وله قراءات لم أهتد إليها . وهو في إيراده للقراءات يوجهها إعرابياً ليبث من خلال توجيهه الإعرابى آراءه النحوية .
وهو يشرح الآيات ، ويشرح مفرداتها ؛ ويأتى بتصاريف الكلمة ومشتقاتها في بعض الأحيان ، وقد يورد لغاتها .
والأخفش يكثر من الشواهد :
فقد ورد لديه سبعة عشر وثلثمائة شاهد من الشعر . شرح بعضها أو بعض ألفاظها ، وقد يأتى بمشتقات كلماتها وتصاريف لها ، وقد يشير إلى لغاتها .
أما الآيات التى يستشهد بها فتكثر عنده كثرة واضحة .
وهو يكثر من الأمثلة التجريديه ، التى تساعد وتعين على إبانة ما يريد شرحه وتوضيحه ، ويقربه إلى الأذهان . كما يورد أساليب ونماذج نحوية وأقوالاً للعرب .
لكنه لا يستشهد بالأحاديث النبوية الشريفة والأمثال إلا نادراً؛ ففى الكتاب حديثان فقط ، وموضعان بهما ألفاظ من الأحاديث ، وثلاثة أمثال فقط .
ومصطلحات الأخفش النحوية تبدو واضحة محددة في غالبيتها ، وإن كان بعضها أقرب إلى تعريف للمصطلح ؛ كما هو الحال في الكتاب لسيبويه .
وقليلاً ما ينسب الأخفش الأبيات .
ونادراً ما ينسب القراءات .
وقد يذ كر لغويات منسوبة لقائليها .
ولم يورد آراء ذات أهمية لنحويين سابقين .
* سبب تأليف الأخفش كتابه معاني القرآن :
الأخفش «أحفظ من أخذ عن سيبويه»، و«كان أعلم من أخذ عن سيبويه» و«كان أبو الحسن قد أخذ عمن أخذ عنه سيبويه».
علم الأخفش إذن علم غزير وقد ثبت ذلك في مناظرته للكسائى في مائة مسألة، وفي مجالسه مع العلماء ، وفي مناقشاته معهم ، وللأخفش آراء ومباحث في النحو والصرف يريد لها أن تظهر ، وهو قد وجد أن سيبويه عمل كتاباً في النحو ومسائل العربية ؛ استحسنه الناس وكلِفوا به حتى قال فيه المازنى : «من أراد أن يعمل كتابا في النحو بعد سيبويه فليستح» ، وقال فيه العلماء ما قالوا . والأخفش يريد أن تخرج مباحثه وآراؤه إلى الناس ، فماذا يصنع ؟
لقد وجد سبيله في النص القرآنى ، وجد في توجيهه الإعرابى للآيات متسعا لبث كل هذه الآراء والمباحث النحوية والصرفية. فلو جمعنا ما في كتاب الأخفش من مسائل النحو والصرف ، ورتبناها أبواباً حسب أى من كتب النحو، لوجدنا أنه لم يترك بابا من أبواب الكتب التى أفردت للنحو والصرف إلا أورده ، ولخرج لنا كتاب نحو للأخفش يفوق كثيراً من كتب النحو والصرف التى ألفت بعده . وإن كثرة ما نقل عنه من أراء نحوية لأكبر دليل على الاعتداد بهذه الآراء والمباحث التى تؤلف في مجموعها كتاب نحو للأخفش .
* سبق كتاب الأخفش على كتاب الفراء :
جاء في ترجمة الأخفش التى أوردها السيوطى «فلما اتصلت الأيام بالاجتماع ، سألني ( الكسائي) أن أؤلف له كتابا في معاني القرآن، فالفت كتاباً في المعاني ، فجعله أمامه ، وعمل عليه كتابا في المعانى ، وعمل الفراء كتاباً في ذلك عليهما» . وعلى هذا فكتاب الأخفش سابق على كتابى الكسائى والفراء، ولم يصل إلينا كتاب الكساني ، أما كتاب الفراء فقد كان له حظ الوصول إلينا، بل السبق والشهرة والظهور قبل كتاب الأخفش . وعلى الرغم من أن كتاب الأخفش أول كتاب معان يؤلف إلا أن منهجه كان منهج عبقرى النحو وعبقرى العروض ، الذى استدرك على الخليل البحر السادس عشر «المتدارك» .
تاريخ تأليف الكتاب :
يقول السمرى في صدر الكتاب : «هذا كتاب فيه معانى القرآن ، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء - يرحمه الله - عن حفظه من غير نسخة في مجالسه أول النهار من أيام الثلاثاوات والجمع في شهر رمضان وما بعده من سنة اثنتين وفي شهور سنة ثلاث و شهور من سنة أربع ومائتين».
وبما أن كتاب الفراء قد عمله على كتابى الأخفش والكسائى فلابد أن يكون الأخفش قد انتهى من كتابه قبل هذا التاريخ بوقت كاف ليخرج إلى الناس ويجعله الكسائى إماما له ، ثم يعمل عليه الفراء من بعده كتابه المشهور في معانى القرآن .
وإذا تأكد لدينا أنّ الأخفش ألف كتابه قبل وفاة الكسائى والكسائي قد توفي في حدود عام ۱۸۳ إذن يكون الأخفش قد ألف كتابه قبل هذا التاريخ ؛ أى : قبل عام ١٨٣ هـ .
* عقيدة الأخفش : أبو الحسن الأخفش معتزلي.
يقول السيوطي : «وكان معتزليا حدث عن الكلبي والنخعي وهشام بن عروة».
- ويقول : «كان الأخفش أعلم الناس بالكلام وأحذقهم بالجدل» .
ويقول الزبيدي : «كان قدريا شمريا و لم يكن يغلو في القدر».
ويقول القفطي : «كان الاخفش غلام أبي شمر و كان على مذهبه ، وهم صنف من القدرية نسبوإلى أبى شمر».
ويقول : «وكان الأخفش يقول بالعدل».
ومن شواهد اعتزالية الأخفش :
۱ - يقول عند تفسيره للآية ۷۷ من سورة آل عمران : ﴿ولايكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة﴾:
«فهذا مثل قولك للرجل : ما تنظر إلى ؛ إذا كان لا ينيلك شيئا» .
٢ - وفي قوله تعالى عند تفسيره للآية ٢٣ من سورة القيامة : ﴿إلى ربها ناظرة﴾:
«يعنى - والله أعلم بالنظر إلى الله - إلى ما يأتيهم من نعمه ورزقه، وقد تقول : والله ما أنظر إلا إلى الله وإليك ، أى : انتظر ما عند الله وما عندك».
٣ - وعند تفسيره للآية ٦٤ من سورة المائدة يقول تعالى : ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم﴾:
«فذكروا أنها العطية والنعمة وكذلك قوله : ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ ؛ كما تقول : «إن لفلان عندى يدا» ، أي : نعمة . وقال [تعالى] : ﴿أولى الايدى والابصار﴾ [ص : ٤٥] ، آي : أولي النعم . وقد تكون اليد في وجوه تقول : بين يدي الدار يعني : قدامها ؛ و ليست للدار يدان» .
٤ - وكذلك عند تفسيره للآية ٢٥٧ من سورة البقرة قال تعالى : ﴿يخرجهم من الظلمات إلى النور﴾: «فيقول : يحكم بأنهم كذاك ، كما تقول قد أخرجكم الله من ذا الأمر، ولم تكن فيه قط ، وتقول : أخرجنى فلان من الكتبة، ولم تكن فيها قط أى : لم يجعلنى من أهلها ولا فيها» .
٥ - وعند تفسيره للاية ٢٩ من سورة البقرة في قوله تعالى : ﴿استوى إلى السماء فسواهن﴾ .
قدم لهذه الآية بقوله : «هذا باب من المجاز» .
ثم قال : «وأما قوله : ﴿استوى إلى السماء﴾ .
فإن ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحول ؛ ولكنه يعنى : فعله ؛ كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحول إلى أهل الشام ؛ إنما يريد : تحول فعله» .
٦ - معني قوله تعال : ﴿وكلم الله موسي تكليما﴾ (الاية ١٦٤ من سورة النساء):
يفسره الأخفش فيقول : «الكلام خلق من الله على غير الكلام منك ، وبغير ما يكون منك ، خلقه الله ثم أوصله إلى موسي».
۷ - يقول في تفسير قوله تعالى : ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي﴾
(الآية ١٧ من سورة الأنفال):
«تقول العرب : (والله ما ضربت غيرى) ؛ وإنما ضربت أخاه ، كما تقول : ضربه الأمير ، والأمير لم يلِ ضربه، ومثل هذا في كلام العرب كثير».
وقد وردت أدلة كثيرة تشير إلى مذهبه في الاعتزال في كتابه هذا ؛ وما أوردته منها إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والاستقصاء .
ومذهب الاعتزال كان على ما يبدو عقيدة كثير من علماء ذلك العصر منهم :
۱ - الفراء : أبو زكريا يحيي بن زياد الفراء .
٢ - قطرب : أبو على محمد بن المستنير .
* مذهبه النحوي :
لسنا في حاجة إلى القول بأن أبا الحسن الأخفش بصرى المذهب ، فهو الطريق إلى كتاب سيبويه البصرى . وإن كنت أرى أن الأخفش لم يكن متعصبا لبصريته، فهذا الكسائى رئيس الطبقة الثانية الكوفية يناظره فيقتنع بآرائه ويطلب بقاءه معه وملازمته له وتأديبه أولاده ، ويتخذ من كتابه «معانى القرآن» إماما له، يعمل على شاكلته كتابه في معانى القرآن .
وكان الفراء يكرم الأخفش ويقدره ، فحينما امتدحه سعيد بن سالم بقوله لأصحابه : «قد جاء سيد أهل اللغة وسيد أهل العربية» ، قال أبو زكريا الفراء : «أما ما دام الأخفش يعيش فلا» ، بل لقد عمل كتابه «معانى القرآن» على كتاب «معانى القرآن» للأخفش .