الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ: ﴿قالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنا أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾، اَلْمَعْنى: ”لَيَكُونَنَّ أحَدُ الأمْرَيْنِ“، ولا تُقارُّ عَلى مُخالَفَتِنا. وَقَوْلُهُ: ﴿قالَ أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾، أيْ: أتُعِيدُونَنا في مِلَّتِكم وإنْ كَرِهْناها. فَإنْ قالَ قائِلٌ: كَيْفَ قالُوا لِشُعَيْبٍ: ”أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا“، وشُعَيْبٌ نَبِيٌّ؟ فَفِيهِ قَوْلانِ، أحَدُهُما: لَمّا أشْرَكُوا - الَّذِينَ كانُوا عَلى مِلَّتِهِمْ - قالُوا: أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا، وجائِزٌ أنْ يُقالَ: ”قَدْ عادَ عَلَيَّ مِن فُلانٍ مَكْرُوهٌ“، وإنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَهُ مَكْرُوهٌ قَبْلَ ذَلِكَ، وإنَّما تَأْوِيلُهُ: ”إنَّهُ قَدْ لَحِقَنِي مِنهُ مَكْرُوهٌ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٨٩]، اِخْتَلَفَ النّاسُ في تَأْوِيلِ هَذا، فَأوْلى التَّأْوِيلاتِ بِاللَّفْظِ أنْ يَكُونَ:“ وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ، لِأنَّهُ لا يَكُونُ غَيْرُ ما يَشاءُ اللَّهُ ”، وهَذا مَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ، قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَما تَشاءُونَ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠]، و“ اَلْمَشِيئَةُ ”، في اللُّغَةِ، بَيِّنَةٌ، لا تَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ. (p-٣٥٦)فالمَعْنى:“ ما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَكُونَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - قَدْ سَبَقَ في عِلْمِهِ ومَشِيئَتِهِ أنّا نَعُودُ فِيها ”، وتَصْدِيقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأعراف: ٨٩]، ثُمَّ قالَ: ﴿عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا﴾ [الأعراف: ٨٩]، وفي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿وَما تَوْفِيقِي إلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ [هود: ٨٨]، وقالَ قَوْمٌ:“ وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا ”، أيْ: فاللَّهُ لا يَشاءُ الكُفْرَ، قالُوا: هَذا مِثْلُ قَوْلِكَ:“ لا أُكَلِّمُكَ حَتّى يَبْيَضَّ القارُ، ويَشِيبَ الغُرابُ ”، والقارُ لا يَبْيَضُّ، والغُرابُ لا يَشِيبُ، قالُوا: فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ الآيَةِ، قالَ أبُو إسْحاقَ: وهَذا خَطَأٌ لِمُخالَفَتِهِ أكْثَرَ مِن ألْفِ مَوْضِعٍ في القُرْآنِ لا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ، ولا يَحْدُثُ شَيْءٌ إلّا بِمَشِيئَتِهِ، وعَنْ عِلْمِهِ، إمّا أنْ يَكُونَ عِلْمُهُ حادِثًا فَشاءَهُ حادِثًا، أوْ عِلْمُهُ غَيْرَ حادِثٍ فَشاءَهُ غَيْرَ حادِثٍ، ولا يَجُوزُ لِما مُكِّنَ الخَلْقُ مِنَ التَّصَرُّفِ أنْ يُحْدِثَ المُمْتَنِعَ مَوْجُودًا، ولا يَكُونُ ما عِلْمُهُ أنَّهُ يُوجَدُ مُمْتَنِعًا، وسُنَّةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَشْهَدُ بِذَلِكَ، ولَكِنَّ اللَّهَ - تَبارَكَ وتَعالى - غَيَّبَ عَنِ الخَلْقِ عِلْمَهُ فِيهِمْ، ومَشِيئَتَهُ مِن أعْمالِهِمْ، فَأمَرَهُمْ، ونَهاهُمْ، لِأنَّ الحُجَّةَ إنَّما تَثْبُتُ مِن جِهَةِ الأمْرِ، والنَّهْيِ، وكُلُّ ذَلِكَ جائِزٌ عَلى ما سَبَقَ في العِلْمِ، وجَرَتْ بِهِ المَشِيئَةُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلا يَعْلَمُها﴾ [الأنعام: ٥٩]، اَلْآيَةَ، فَسُقُوطُ الوَرَقَةِ مَنسُوبٌ إلَيْها، وهو خَلَقَهُ فِيها كَما خَلَقَها، وكَذَلِكَ إلى آخِرِ الآيَةِ. (p-٣٥٧)وَقالَ: ﴿يَعْلَمُ ما في أنْفُسِكم فاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥]، وما في النُّفُوسِ مِنَ الخَواطِرِ الجائِلَةِ، والهَمِّ الجائِلِ، والعَزْمِ الجائِلِ فِيها، فَلا يَجُوزُ عَدَمُ ما عَلِمَهُ كائِنًا فِيها، ولا يَجُوزُ كَوْنُ ما عَلِمَهُ مَعْدُومًا، فَحَذَّرَهم مُخالَفَةَ ظاهِرِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ، لِأنَّ عَلَيْهِمُ السَّمْعَ والطّاعَةَ لِلْأمْرِ إذا أُمِرُوا بِهِ، وهم جارُونَ عَلى ما عَلِمَ مِنهم أنَّهم يَخْتارُونَ الطّاعَةَ، ويَخْتارُونَ المَعْصِيَةَ، فَلا سَبِيلَ إلى أنْ يَخْتارُوا خِلافَ ما عَلِمَ أنَّهم يَخْتارُونَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ عَلى ما قُلْنا وجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهم: عِلْمُ اللَّهُ أفْعالَ العِبادِ قَبْلَ كَوْنِها، إنَّما هو عِلْمُ مَجازٍ، لا عِلْمَ حَقِيقَةٍ، واللَّهُ تَعالى عالِمٌ عَلى حَقِيقَةٍ، لا مَجازٍ، والحَمْدُ لِلَّهِ، وقالَ قَوْمٌ - وهو بَعْدَ القَوْلِ الأوَّلِ قَرِيبٌ -: إنَّ المَعْنى:“ وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا ”، أيْ: قَدْ تَبَرَّأْنا مِن جَمِيعِ مِلَّتِكُمْ، فَما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ في شَيْءٍ مِنها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ وجْهًا مِن وُجُوهِ البِرِّ الَّذِي تَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلى اللَّهِ، فَيَأْمُرَنا بِهِ، فَنَكُونَ بِهَذا قَدْ عُدْنا، قالَ أبُو إسْحاقَ: والَّذِي عِنْدِي - وهو إنْ شاءَ اللَّهُ الحَقُّ - القَوْلُ الأوَّلُ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ [الأعراف: ٨٩]، إنَّما هو النَّجاةُ مِنَ الكُفْرِ، وأعْمالِ المَعاصِي، لا مِن أعْمالِ البِرِّ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأعراف: ٨٩]،“ عِلْمًا ”، مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ. وَقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ﴾ [الأعراف: ٨٩]، أهْلُ عُمانَ يُسَمُّونَ القاضِي“ اَلْفاتِحَ ”، و“ اَلْفَتّاحَ ”. (p-٣٥٨)وَجائِزٌ أنْ يَكُونَ“ ﴿افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ﴾ [الأعراف: ٨٩] "، أيْ: أظْهِرْ أمْرَنا حَتّى يَنْفَتِحَ ما بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا ويَنْكَشِفَ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ يَسْألُونَ بِهَذا أنْ يَنْزِلَ بِقَوْمِهِمْ مِنَ العَذابِ والهَلَكَةِ ما يُظْهِرُ بِهِ أنَّ الحَقَّ مَعَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب