الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - جَلَّ وعَزَّ -: ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّهُ قالَ: ”اَلْمُحْكَماتُ“: اَلْآياتُ في آخِرِ ”اَلْأنْعامِ“، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١]، إلى آخِرِ هَذِهِ الآياتِ، والآياتُ المُتَشابِهاتُ: ”الم“، و”المر“، وما اشْتَبَهَ عَلى اليَهُودِ مِن هَذِهِ، ونَحْوِها ”، وقالَ قَوْمٌ: مَعْنى“ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ": أيْ: أُحْكِمَتْ في الإبانَةِ، فَإذا سَمِعَها السّامِعُ لَمْ يَحْتَجْ إلى تَأْوِيلِها، لِأنَّها ظاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ، نَحْوَ ما أنْبَأ اللَّهُ مِن أقاصِيصِ الأنْبِياءِ، مِمّا اعْتَرَفَ بِهِ أهْلُ الكِتابِ، وما أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِن إنْشاءِ الخَلْقِ، مِن قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤]، فَهَذا اعْتَرَفَ القَوْمُ بِهِ، وأقَرُّوا بِأنَّ اللَّهَ هو خالِقُهُمْ، وما أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِن خَلْقِهِ مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وما خَلَقَ لَهم مِنَ الثِّمارِ، وسَخَّرَ لَهم مِنَ الفُلْكِ، والرِّياحِ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذا ما لَمْ يُنْكِرُوهُ، وأنْكَرُوا ما احْتاجُوا فِيهِ إلى النَّظَرِ والتَّدَبُّرِ، مِن أنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - يَبْعَثُهم بَعْدَ أنْ يَصِيرُوا تُرابًا، فَقالَ: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [سبإ: ٧] ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبإ: ٨]، ﴿وَكانُوا يَقُولُونَ أإذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا وعِظامًا أإنّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الواقعة: ٤٧] ﴿أوَآباؤُنا الأوَّلُونَ﴾ [الواقعة: ٤٨]، (p-٣٧٧)فَهَذا الَّذِي هو المُتَشابِهُ عَلَيْهِمْ، فَأعْلَمَهُمُ اللَّهُ الوَجْهَ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلى أنَّ هَذا المُتَشابِهَ عَلَيْهِمْ كالظّاهِرِ، إنْ تَدَبَّرُوهُ، ونَظَرُوا فِيهِ، فَقالَ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلا ونَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ وهو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٩] ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نارًا﴾ [يس: ٨٠]، وقالَ: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: ٨١]، أيْ: إذا كُنْتُمْ قَدْ أقْرَرْتُمْ بِالإنْسانِ والِابْتِداءِ، فَما تُنْكِرُونَ مِنَ البَعْثِ والنُّشُورِ؟ وهَذا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، وهو بَيِّنٌ واضِحٌ، والقَوْلُ الأوَّلُ حَسَنٌ أيْضًا. فَأمّا ”أُخَرُ“، فَغَيْرُ مَصْرُوفَةٍ، زَعَمَ سِيبَوَيْهِ، والخَلِيلُ، أنَّ ”أُخَرُ“، فارَقَتْ أخَواتِها، والأصْلَ الَّذِي عَلَيْهِ بِناءُ أخَواتِها، لِأنَّ ”أُخَرُ“، أصْلُها أنْ تَكُونَ صِفَةً بِالألِفِ واللّامِ، كَما تَقُولُ: ”اَلصُّغْرى“، و”اَلصُّغَرُ“، و”اَلْكُبْرى“، و”اَلْكُبَرُ“، فَلَمّا عَدَلَتْ عَنْ مُجْرى الألِفِ واللّامِ، وأصْلِ ”أفْعَلُ مِنكَ“، وهي مِمّا لا تَكُونُ إلّا صِفَةً، مُنِعَتِ الصَّرْفَ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾، ”اَلزَّيْغُ“: اَلْجَوْرُ، والمَيْلُ عَنِ القَصْدِ، ويُقالُ: ”زاغَ، يَزِيغُ“، إذا جارَ، ومَعْنى ﴿ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ﴾، أيْ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِطَلَبِ الفِتْنَةِ، ولِطَلَبِ التَّأْوِيلِ، والفِتْنَةُ في اللُّغَةِ عَلى ضُرُوبٍ: فالضَّرْبُ الَّذِي ابْتَغاهُ هَؤُلاءِ هو فَسادُ ذاتِ البَيْنِ، (p-٣٧٨)فِي الدِّينِ والحُرُوبِ، و”اَلْفِتْنَةُ“، في اللُّغَةِ: اَلِاسْتِهْتارُ بِالشَّيْءِ، والغُلُوُّ فِيهِ، يُقالُ: ”فُلانٌ مَفْتُونٌ في طَلَبِ الدُّنْيا“، أيْ: قَدْ غَلا في طَلَبِها، وتَجاوَزَ القُدْرَةَ، و”اَلْفِتْنَةُ“: اَلِاخْتِبارُ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣]، أيْ: اِخْتَبَرْنا، ومَعْنى ابْتِغائِهِمْ تَأْوِيلَهُ أنَّهم طَلَبُوا تَأْوِيلَ بَعْثِهِمْ، وإحْيائِهِمْ، فَأعْلَمَ اللَّهُ أنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ ووَقْتَهُ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾ [الأعراف: ٥٣]، أيْ: يَوْمَ يَرَوْنَ ما وُعِدُوا بِهِ مِنَ البَعْثِ، والنُّشُورِ، والعَذابِ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ، أيْ: اَلَّذِينَ تَرَكُوهُ، وتَرَكُوا ما أنْبَأ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - مِن بَعْثِهِمْ، ومُجازاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ﴾ [الأعراف: ٥٣]، أيْ: قَدْ رَأيْنا ما أنْبَأتْنا بِهِ الرُّسُلُ، فالوَقْفُ التّامُّ قَوْلُهُ: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾، أيْ: لا يَعْلَمُ أحَدٌ مَتى البَعْثُ غَيْرُ اللَّهِ، ومَعْنى: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ أيْ: اَلثّابِتُونَ، يُقالُ: ”رَسَخَ الشَّيْءُ، يَرْسَخُ، رُسُوخًا“، إذا ثَبَتَ، أيْ: يَقُولُونَ صَدَّقْنا بِأنَّ اللَّهَ يَبْعَثُنا، ويُؤْمِنُونَ بِأنَّ البَعْثَ حَقٌّ، كَما أنَّ الإنْشاءَ حَقٌّ، ويَقُولُونَ: ﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾، (p-٣٧٩)وَيَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَتَدَبَّرُوهُ، قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَما يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الألْبابِ﴾، أيْ: ذَوُو العُقُولِ، أيْ: ما يَتَذَكَّرُ القُرْآنَ وما أتى بِهِ الرَّسُولُ ﷺ إلّا أُولُو الألْبابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب