الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قَدْ كانَ لَكم آيَةٌ في فِئَتَيْنِ التَقَتا﴾، ”آيَةٌ“: عَلامَةٌ مِن أعْلامِ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي تَدُلُّ عَلى تَصْدِيقِهِ، و”اَلْفِئَةُ“، في اللُّغَةِ: (p-٣٨١)اَلْفِرْقَةُ، وهي مَأْخُوذَةٌ مِن قَوْلِهِمْ: ”فَأوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ“، و”فَأيْتُهُ“، إذا فَلَقْتُهُ، ومَعْنى ”فِئَتَيْنِ“: فِرْقَتَيْنِ. ﴿فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةٌ﴾، اَلرَّفْعُ والخَفْضُ جائِزانِ جَمِيعًا، فَأمّا مَن رَفَعَ فالمَعْنى: إحْداهُما تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، والأُخْرى كافِرَةٌ، ومَن خَفَضَ جَعَلَ ”فِئَةٍ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةٍ“، بَدَلًا مِن فِئَتَيْنِ، المَعْنى: قَدْ كانَ لَكم آيَةٌ في فِئَةٍ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وفي أُخْرى كافِرَةٍ، وأنْشَدُوا بَيْتَ كُثَيِّرٍ عَلى جِهَتَيْنِ: ؎وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ ∗∗∗ ورِجْلٌ رَمى فِيها الزَّمانُ فَشُلَّتِ وَأنْشَدُوا أيْضًا: " ؎رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ∗∗∗ ورِجْلٍ رَمى فِيها الزَّمانُ ”، عَلى البَدَلِ مِن“ اَلرِّجْلَيْنِ ”، وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ اللُّغَةِ في قَوْلِهِ: ﴿يَرَوْنَهم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ﴾، ونَحْنُ نُبَيِّنُ ما قالُوهُ، إنْ شاءَ اللَّهُ، وما هو الوَجْهُ، واللَّهُ أعْلَمُ، زَعَمَ الفَرّاءُ أنَّ مَعْنى“ يَرَوْنَهم مِثْلَيْهِمْ ”: يَرَوْنَهم ثَلاثَةَ أمْثالِهِمْ، قالَ: لِأنَّكَ إذا قُلْتَ:“ عِنْدِي ألْفٌ وأحْتاجُ إلى مِثْلِها ”، فَأنْتَ تَحْتاجُ إلى ألْفَيْنِ، فَكَأنَّكَ قُلْتَ:“ أحْتاجُ إلى مِثْلَيْها ”، وإذا قُلْتَ:“ عِنْدِي ألْفٌ وأحْتاجُ إلى مِثْلَيْها ”، فَأنْتَ تَحْتاجُ إلى ثَلاثَةِ آلافٍ، وهَذا بابُ الغَلَطِ، فِيهِ غَلَطٌ بَيِّنٌ في جَمِيعِ المَقايِيسِ، وجَمِيعِ الأشْياءِ، لِأنّا إنَّما نَعْقِلُ مِثْلَ الشَّيْءِ ما هو مُساوٍ لَهُ، ونَعْقِلُ مِثْلَيْهِ ما يُساوِيهِ مَرَّتَيْنِ، فَإذا جَهِلْنا المِثْلَ فَقَدْ بَطَلَ التَّمَيُّزُ، وإنَّما قالَ هَذا لِأنَّ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ كانُوا ثَلاثَمِائَةٍ وأرْبَعَةَ (p-٣٨٢)عَشَرَ رَجُلًا، وكانَ المُشْرِكُونَ تِسْعَمِائَةٍ وخَمْسِينَ رَجُلًا، فالَّذِي قالَ يَبْطُلُ في اللَّفْظِ، ويَبْطُلُ في مَعْنى الدَّلالَةِ عَلى الآيَةِ الَّتِي تُعْجِزُ، لِأنَّهم إذا رَأوْهم عَلى هَيْئَتِهِمْ فَلَيْسَ هَذا آيَةً، فَإنْ زَعَمَ أنَّ الآيَةَ في هَذا غَلَبَةُ القَلِيلِ عَلى الكَثِيرِ، فَقَدْ أبْطَلَ أيْضًا، لِأنَّ القَلِيلَ يَغْلِبُ الكَثِيرَ، مَوْجُودٌ ذَلِكَ أبَدًا، فَهَذا الَّذِي قالَ يَبْطُلُ في اللُّغَةِ، وفي المَعْنى، وإنَّما الآيَةُ في هَذا أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا تِسْعَمِائَةٍ وخَمْسِينَ، وكانَ المُسْلِمُونَ ثَلاثَمِائَةٍ وأرْبَعَةَ عَشَرَ، فَأرى اللَّهُ - جَلَّ وعَزَّ - المُشْرِكِينَ أنَّ المُسْلِمِينَ أقَلُّ مِن ثَلاثِمِائَةٍ، واللَّهُ قَدْ أعْلَمَ المُسْلِمِينَ أنَّ المِائَةَ تَغْلِبُ المِائَتَيْنِ، فَأراهُمُ المُشْرِكِينَ عَلى قَدْرِ ما أعْلَمَهم أنَّهم يَغْلِبُونَهُمْ، لِيُقَوِّيَ قُلُوبَهُمْ، وأرى المُشْرِكِينَ المُسْلِمِينَ أقَلَّ مِن عَدَدِ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ ألْقى مَعَ ذَلِكَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَجَعَلُوا يَرَوْنَ عَدَدًا قَلِيلًا، مَعَ رُعْبٍ شَدِيدٍ، حَتّى غُلِبُوا، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَإذْ يُرِيكُمُوهم إذِ التَقَيْتُمْ في أعْيُنِكم قَلِيلا ويُقَلِّلُكم في أعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمْرًا كانَ مَفْعُولا﴾ [الأنفال: ٤٤]، فَهَذا هو الَّذِي فِيهِ آيَةٌ، أنْ يُرى الشَّيْءُ بِخِلافِ صُورَتِهِ - واللَّهُ أعْلَمُ -، ويَجُوزُ نَصْبُ“ فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةٌ ”، ولا أعْلَمُ أحَدًا قَرَأ بِها، ونَصْبُها مِن وجْهَيْنِ، أحَدُهُما الحالُ، المَعْنى: التَقَتا مُؤْمِنَةً وكافِرَةً، ويَجُوزُ نَصْبُها عَلى“ أعْنِي فِئَةً تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةً " .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب