الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾، مَعْنى ”خَتَمَ“ - في اللُّغَةِ - و”طَبَعَ“، مَعْنًى واحِدٌ، وهُوَ: اَلتَّغْطِيَةُ عَلى الشَّيْءِ، والِاسْتِيثاقُ مِن ألّا يَدْخُلَهُ شَيْءٌ، كَما قالَ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ [محمد: ٢٤]، وقالَ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: ﴿كَلا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [المطففين: ١٤]، مَعْناهُ: غَلَبَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ، وكَذَلِكَ طَبَعَ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ، وهم كانُوا يَسْمَعُونَ، ويُبْصِرُونَ، ويَعْقِلُونَ، ولَكِنَّهم لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذِهِ الحَواسَّ اسْتِعْمالًا يَجْزِي عَنْهُمْ، فَصارُوا كَمَن لا يَسْمَعُ، ولا يُبْصِرُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎أصَمُّ عَمّا ساءَهُ سَمِيعُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - جَلَّ وعَزَّ -: ”وَعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ“، هي الغِطاءُ، فَأمّا قَوْلُهُ: ”وَعَلى سَمْعِهِمْ“، وهو يُرِيدُ: ”وَعَلى أسْماعِهِمْ“، فَفِيهِ (p-٨٣)ثَلاثَةُ أوْجُهٍ، فَوَجْهٌ مِنها أنَّ السَّمْعَ في مَعْنى المَصْدَرِ، فَوُحِّدَ، كَما تَقُولُ: ”يُعْجِبُنِي حَدِيثُكم“، و”يُعْجِبُنِي ضَرْبُكم“، فَوُحِّدَ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَمّا أضافَ السَّمْعَ إلَيْهِمْ دَلَّ عَلى مَعْنى ”أسْماعِهِمْ“، قالَ الشّاعِرُ: ؎بِها جِيَفُ الحَسْرى فَأمّا عِظامُها ∗∗∗ فَبِيضٌ وأمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ وَقالَ الشّاعِرُ أيْضًا: ؎لا تُنْكِرِي القَتْلَ وقَدْ سُبِينا ∗∗∗ في حَلْقِكم عَظْمٌ وقَدْ شَجِينا مَعْناهُ: في حُلُوقِكُمْ، وقالَ: ؎كَأنَّهُ وجْهُ تُرْكِيَّيْنِ قَدْ غَضِبا ∗∗∗ مُسْتَهْدَفٍ لِطِعانٍ غَيْرِ تَذْيِيبِ أمّا ”غِشاوَةٌ“، فَكُلُّ ما كانَ مُشْتَمِلًا عَلى الشَّيْءِ فَهو في كَلامِ العَرَبِ مَبْنِيٌّ عَلى ”فِعالَةٌ“، نَحْوَ: ”اَلْغِشاوَةُ“، و”اَلْعِمامَةُ“، و”اَلْقِلادَةُ“، و”اَلْعِصابَةُ“، وكَذَلِكَ أسْماءُ الصِّناعاتِ، لِأنَّ مَعْنى الصِّناعَةِ الِاشْتِمالُ عَلى كُلِّ ما فِيها، نَحْوَ: ”اَلْخِياطَةُ“، (p-٨٤)و”اَلْقِصارَةُ“، وكَذَلِكَ عَلى كُلِّ مَنِ اسْتَوْلى عَلى شَيْءٍ ما، اسْتَوْلى عَلَيْهِ الفِعالَةُ، نَحْوَ: ”اَلْحِلاقَةُ“، و”اَلْإمارَةُ“، والرَّفْعُ في ”غِشاوَةٌ“، هو البابُ، وعَلَيْهِ مَذْهَبُ القُرّاءِ، والنَّصْبُ جائِزٌ في النَّحْوِ، عَلى أنَّ المَعْنى: ”وَجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً“، كَما قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - في مَوْضِعٍ آخَرَ -: ﴿وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣]، ومَثِيلُهُ مِنَ الشِّعْرِ مِمّا حُمِلَ عَلى مَعْناهُ قَوْلُهُ: ؎يا لَيْتَ بَعْلَكِ قَدْ غَدا ∗∗∗ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحا مَعْناهُ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وحامِلًا رُمْحًا، ويُرْوى: ”غَشْوَةٌ“، والوَجْهُ ما ذَكَرْناهُ، وإنَّما ”غَشْوَةٌ“، رَدٌّ إلى الأصْلِ، لِأنَّ المَصادِرَ كُلَّها تُرَدُّ إلى ”فَعْلَةٌ“، والرَّفْعُ والنَّصْبُ في ”غَشْوَةٌ“، مِثْلُهُ في ”غِشاوَةٌ“ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب