الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ﴾، قَرَأتِ القُرّاءُ: ”لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا“، بِالكَسْرِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ المَدَنِيُّ وحْدَهُ: ”لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا“، بِالضَّمِّ، وأبُو جَعْفَرٍ مِن جِلَّةِ أهْلِ المَدِينَةِ، (p-١١٢)وَأهْلِ الثَّبْتِ في القِراءَةِ، إلّا أنَّهُ غَلِطَ في هَذا الحَرْفِ، لِأنَّ المَلائِكَةَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُرْفَعَ المَخْفُوضُ، ولَكِنَّهُ شَبَّهَ تاءَ التَّأْنِيثِ بِكَسْرِ ألِفِ الوَصْلِ، لِأنَّكَ إذا ابْتَدَأْتَ قُلْتَ: ”اُسْجُدُوا“، ولَيْسَ يَنْبَغِي أنْ يُقْرَأ القُرْآنُ بِتَوَهُّمِ غَيْرِ الصَّوابِ، و”إذْ“، في مَوْضِعِ نَصْبٍ، عُطِفَ عَلى ”إذْ“، اَلَّتِي قَبْلَها، و”اَلْمَلائِكَةُ“: واحِدُهم ”مَلَكٌ“، والأصْلُ فِيهِ ”مَلْأكٌ“، أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎فَلَسْتَ لِإنْسِيٍّ ولَكِنْ لِمَلْأكٍ ∗∗∗ تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَّماءِ يَصُوبُ وَمَعْناهُ: صاحِبِ رِسالَةٍ، ويُقالُ: ”مَأْلُكَةٌ“، ومَأْلَكَةٌ ”، و“ مَأْلُكٌ ”، جَمْعُ“ مَأْلُكَةٌ "، قالَ الشّاعِرُ: ؎أبْلِغِ النُّعْمانَ عَنِّي مَأْلُكًا ∗∗∗ أنَّهُ قَدْ طالَ حَبْسِي وانْتِظارْ وَقَوْلُهُ: ”لِآدَمَ“، ”آدَمَ“، في مَوْضِعِ جَرٍّ، إلّا أنَّهُ لا يَنْصَرِفُ، لِأنَّهُ عَلى وزْنِ ”أفْعَلَ“، يَقُولُ أهْلُ اللُّغَةِ: إنَّ اشْتِقاقَهُ مِن ”أدِيمُ الأرْضِ“، لِأنَّهُ خُلِقَ مِن تُرابٍ، وكَذَلِكَ ”اَلْأُدْمَةُ“، إنَّما هي مُشَبَّهَةٌ بِلَوْنِ التُّرابِ، فَإذا قُلْتَ: ”مَرَرْتُ بِآدَمَ، وآدَمَ آخَرَ“، فَإنَّ النَّحْوِيِّينَ يَخْتَلِفُونَ في ”أفْعَلَ“، اَلَّذِي يُسَمّى بِهِ، وأصْلُهُ الصِّفَةُ، فَسِيبَوَيْهِ، (p-١١٣)والخَلِيلُ، ومَن قالَ بِقَوْلِهِما، يَقُولُونَ: إنَّهُ يَنْصَرِفُ في النَّكِرَةِ، لِأنَّكَ إذا نَكَّرْتَهُ رَدَدْتَهُ إلى حالٍ قَدْ كانَ فِيها يَنْصَرِفُ، وقالَ أبُو الحَسَنِ الأخْفَشُ: إذا سَمَّيْتَ بِهِ رَجُلًا فَقَدْ أخْرَجْتَهُ مِن بابِ الصِّفَةِ، فَيَجِبُ إذا نَكَّرْتَهُ أنْ تَصْرِفَهُ، فَتَقُولَ: ”مَرَرْتُ بِآدَمٍ، وآدَمٍ آخَرَ“ . وَمَعْنى السُّجُودِ لِآدَمَ عِبادَةُ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -، لا عِبادَةُ آدَمَ، لِأنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ -: إنَّما خَلَقَ ما يَعْقِلُ لِعِبادَتِهِ، فَإذا ابْتَدَأْتَ قُلْتَ: ”اُسْجُدُوا“، فَضَمَمْتَ الألِفَ، والألِفُ لا حَظَّ لَها في الحَرَكَةِ، أعْنِي هَذِهِ الهَمْزَةَ المُبْتَدَأ بِها، وإنَّما أُدْخِلَتْ لِلسّاكِنِ الَّذِي بَعْدَها، لِأنَّهُ لا يُبْتَدَأُ بِساكِنٍ، فَكانَ حَقُّها الكَسْرَ، لِأنَّ بَعْدَها ساكِنًا، وتَقْدِيرُها السُّكُونُ، فَيَجِبُ أنْ تُكْسَرَ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، ولَكِنَّها ضُمَّتْ لِاسْتِثْقالِ الضَّمَّةِ بَعْدَ الكَسْرِ، وكَذَلِكَ كُلُّ ما كانَ ثالِثُهُ مَضْمُومًا في الفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [النساء: ٥٠]، ونَحْوَ: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٩]، لِأنَّهُ مِن ”نَظَرَ، يَنْظُرُ“، و”قَتَلَ، يَقْتُلُ“، وإنَّما كُرِهَتِ الضَّمَّةُ بَعْدَ الكَسْرَةِ، لِأنَّها لا تَقَعُ في كَلامِ العَرَبِ، لِثِقَلِها، بَعْدَها، فَلَيْسَ في الكَلامِ مِثْلُ ”فِعُلَ“، ولا مِثْلُ ”إفْعُلْ“ . وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَسَجَدُوا إلا إبْلِيسَ أبى﴾، قالَ قَوْمٌ: إنَّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ المَلائِكَةِ، فاسْتُثْنِيَ مِنهم في السُّجُودِ، وقالَ قَوْمٌ مِن أهْلِ اللُّغَةِ: لَمْ يَكُنْ إبْلِيسُ مِنَ المَلائِكَةِ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إلا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ﴾ [الكهف: ٥٠]، فَقِيلَ لِهَؤُلاءِ: فَكَيْفَ جازَ أنْ يُسْتَثْنى مِنهُمْ؟ فَقالُوا: (p-١١٤)إنَّ المَلائِكَةَ، وإيّاهُ، أُمِرُوا بِالسُّجُودِ، قالُوا: ودَلِيلُنا عَلى أنَّهُ أُمِرَ مَعَهم قَوْلُهُ: ﴿إلا إبْلِيسَ أبى﴾، فَلَمْ يَأْبَ إلّا وهو مَأْمُورٌ، وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي نَخْتارُهُ، لِأنَّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ، كَما قالَ - عَزَّ وجَلَّ -، والقَوْلُ الآخَرُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، ويَكُونُ كانَ مِنَ الجِنِّ، أيْ: كانَ ضالًّا، كَما أنَّ الجِنَّ كانُوا ضالِّينَ، فَجُعِلَ مِنهُمْ، كَما قالَ في قِصَّتِهِ: ﴿وَكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾، فَتَأْوِيلُها أنَّهُ عَمِلَ عَمَلَهُمْ، فَصارَ بَعْضَهُمْ، كَما قالَ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٦٧]، وفي هَذِهِ الآيَةِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى تَثْبِيتِ الرِّسالَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، كَما في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها، والَّتِي تَلِيها، لِأنَّهُ إخْبارٌ بِما لَيْسَ مِن عِلْمِ العَرَبِ، ولا يَعْلَمُهُ إلّا أهْلُ الكِتابِ، أوْ نَبِيٌّ أُوحِيَ إلَيْهِ، و”إبْلِيسُ“، لَمْ يُصْرَفْ، لِأنَّهُ اسْمٌ أعْجَمِيٌّ، اجْتَمَعَ فِيهِ العُجْمَةُ والمَعْرِفَةُ، فَمُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب