الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، مَعْنى ”مَن“، اَلتَّقْرِيرُ والتَّوْبِيخُ، ولَفْظُها لَفْظُ الِاسْتِفْهامِ، ومَوْضِعُها رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ، والمَعْنى: ما يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ، و”اَلْمِلَّةُ“، قَدْ بَيَّنّاها، وهِيَ: اَلسُّنَّةُ، والمَذْهَبُ، وقَدْ أكْثَرَ النَّحْوِيُّونَ، واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ سَفِهَ نَفْسَهُ، وكَذَلِكَ أهْلُ اللُّغَةِ، فَقالَ الأخْفَشُ: أهْلُ التَّأْوِيلِ يَزْعُمُونَ أنَّ المَعْنى: سَفِهَ نَفْسَهُ، وقالَ يُونُسُ النَّحْوِيُّ: أراها لُغَةً، وذَهَبَ يُونُسُ إلى أنَّ ”فَعِلَ“، لِلْمُبالَغَةِ، كَما أنَّ ”فَعُلَ“، لِلْمُبالَغَةِ، فَذَهَبَ في هَذا مَذْهَبَ التَّأْوِيلِ، ويَجُوزُ عَلى (p-٢١٠)هَذا القَوْلِ: ”سَفِهْتُ زَيْدًا“، بِمَعْنى: ”سَفَّهْتُ زَيْدًا“، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَعْناهُ: أهْلَكَ نَفْسَهُ، وأوْبَقَ نَفْسَهُ، فَهَذا غَيْرُ خارِجٍ مِن مَذْهَبِ أهْلِ التَّأْوِيلِ، ومَذْهَبِ يُونُسَ، وقالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إنَّ ”نَفْسَهُ“، مَنصُوبٌ عَلى التَّفْسِيرِ، وقالَ: اَلتَّفْسِيرُ في النَّكِراتِ أكْثَرُ، نَحْوَ: ”طابَ زَيْدٌ بِأمْرِهِ نَفْسًا، وقَرَّ بِهِ عَيْنًا“، وزَعَمَ أنَّ هَذِهِ المُفَسِّراتِ المَعارِفَ أصْلُ الفِعْلِ لَها، ثُمَّ نُقِلَ إلى الفاعِلِ، نَحْوَ: ”وَجِعَ زَيْدٌ رَأسَهُ“، وزَعَمَ أنَّ أصْلَ الفِعْلِ لِلرَّأْسِ، وما أشْبَهَهُ، وأنَّهُ لا يُجِيزُ تَقْدِيمَ شَيْءٍ مِن هَذِهِ المَنصُوباتِ، وجَعَلَ ”سَفِهَ نَفْسَهُ“، مِن هَذا البابِ، قالَ أبُو إسْحاقَ: وعِنْدِي أنَّ مَعْنى التَّمْيِيزِ لا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ، لِأنَّ التَّمْيِيزَ إنَّما هو واحِدٌ يَدُلُّ عَلى جِنْسٍ، أوْ خَلَّةٌ تَخْلُصُ مِن خِلالٍ، فَإذا عَرَّفَهُ صارَ مَقْصُودًا قَصْدُهُ، وهَذا لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وقالَ أبُو إسْحاقَ: إنَّ ”سَفِهَ نَفْسَهُ“، بِمَعْنى: ”سَفُهَ في نَفْسِهِ“، إلّا أنَّ ”في“، حُذِفَتْ، كَما حُذِفَتْ حُرُوفُ الجَرِّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ”وَلا جُناحَ عَلَيْكم أن تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكم“، والمَعْنى: أنْ تَسْتَرْضِعُوا لِأوْلادِكُمْ، فَحُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ في غَيْرِ ظَرْفٍ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٥]، أيْ: ”عَلى عُقْدَةِ النِّكاحِ“، ومِثْلُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎نُغالِي اللَّحْمَ لِلْأضْيافِ نَيْئًا ∗∗∗ ونَبْذُلُهُ إذا نَضِجَ القُدُورُ اَلْمَعْنى: ”نُغالِي بِاللَّحْمِ“، ومِثْلُهُ قَوْلُ العَرَبِ: ”ضَرَبَ فُلانٌ الظَّهْرَ والبَطْنَ“، (p-٢١١)والمَعْنى: ”عَلى الظَّهْرِ والبَطْنِ“، فَهَذا الَّذِي اسْتُعْمِلَ مِن حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ مَوْجُودٌ في كِتابِ اللَّهِ، وفي أشْعارِ العَرَبِ، وألْفاظِها المَنثُورَةِ، وهو عِنْدِي مَذْهَبٌ صالِحٌ، والقَوْلُ الجَيِّدُ عِنْدِي في هَذا أنَّ ”سَفِهَ“، في مَوْضِعِ ”جَهِلَ“، فالمَعْنى - واللَّهُ أعْلَمُ -: ”إلّا مَن جَهِلَ نَفْسَهُ، أيْ: لَمْ يُفَكِّرْ في نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١]، فَوَضَعَ“ جَهِلَ ”، وعَدّى كَما عَدّى، فَهَذا جَمِيعُ ما قالَ النّاسُ في هَذا، وما حَضَرَنا مِنَ القَوْلِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيا﴾، مَعْناهُ اخْتَرْناهُ، ولَفْظُهُ مُشْتَقٌّ مِن“ اَلصَّفْوَةُ "، ﴿وَإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾، فالصّالِحُ في الآخِرَةِ: اَلْفائِزُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب