الباحث القرآني

(p-١٩٥)سُورَةُ البَيِّنَةِ وَفِيها قَوْلانِ أحَدُهُما: مَدَنِيَّةٌ، قالَهُ الجُمْهُورُ. والثّانِي: مَكِّيَّةٌ، قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، واخْتارَهُ يَحْيى بْنُ سَلامٍ. (p-١٩٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ يَعْنِي اليَهُودَ والنَّصارى ﴿والمُشْرِكِينَ﴾ أيْ: ومِنَ المُشْرِكِينَ، وهم عَبَدَةُ الأوْثانِ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ أيْ: مُنْفَصِلِينَ وزائِلِينَ يُقالُ: فَكَكْتُ الشَّيْءَ، فانْفَكَّ، أيِ: انْفَصَلَ- والمَعْنى: لَمْ يَكُونُوا زائِلِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وشِرْكِهِمْ ﴿حَتّى تَأْتِيَهُمُ﴾ أيْ: حَتّى أتَتْهُمْ، فَلَفْظُهُ لَفْظُ المُسْتَقْبَلِ، ومَعْناهُ الماضِي. و ﴿البَيِّنَةُ﴾ الرَّسُولُ، وهو مُحَمَّدٌ ﷺ، وذَلِكَ أنَّهُ بَيَّنَ لَهم ضَلالَهم وجَهْلَهم. وهَذا بَيانٌ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلى مَن آمَنَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ إذْ أنْقَذَهم. وذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ مَعْنى الآيَةِ: لَمْ يَخْتَلِفُوا أنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتّى بُعِثَ فافْتَرَقُوا. وقالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُونُوا لِيُتْرَكُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ حُجَجِ اللَّهِ حَتّى أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ البَيِّنَةُ. والوَجْهُ هو الأوَّلُ. والرَّسُولُ هاهُنا مُحَمَّدٌ ﷺ . ومَعْنى ﴿يَتْلُو صُحُفًا﴾ أيْ: ما تَضَمَّنَتْهُ الصُّحُفُ مِنَ المَكْتُوبِ فِيها، وهو القُرْآنُ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ كانَ يَتْلُو القُرْآنَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ لا مِن كِتابٍ. ومَعْنى ﴿مُطَهَّرَةً﴾ أيْ: مِنَ الشِّرْكِ والباطِلِ. ﴿فِيها﴾ أيْ: في الصُّحُفِ ﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ أيْ: عادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ تُبَيِّنُ الحَقَّ مِنَ الباطِلِ، وهي الآياتُ. قالَ مُقاتِلٌ: وإنَّما قِيلَ لَها: كُتُبٌ لِما جَمَعَتْ مِن أُمُورٍ شَتّى. (p-١٩٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ يَعْنِي: مَن لَمْ يُؤْمِن مِنهم ﴿إلا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ وفِيها ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّها مُحَمَّدٌ ﷺ . والمَعْنى: لَمْ يَزالُوا مُجْتَمِعِينَ عَلى الإيمانِ بِهِ حَتّى بُعِثَ، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: القُرْآنُ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ. والثّالِثُ: ما في كُتُبِهِمْ مِن بَيانِ نُبُوَّتِهِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. وقالَ الزَّجّاجُ: وما تَفَرَّقُوا في كُفْرِهِمْ بِالنَّبِيِّ إلّا مِن بَعْدِ أنْ تَبَيَّنُوا أنَّهُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ في كُتُبِهِمْ. (p-١٩٨)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أُمِرُوا﴾ أيْ: في كُتُبِهِمْ ﴿إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أيْ: إلّا أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ. قالَ الفَرّاءُ: والعَرَبُ تَجْعَلُ اللّامَ في مَوْضِعِ " أنْ " في الأمْرِ والإرادَةِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النِّساءِ: ٢٦]، و ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ [الصَّفِّ: ٨] . وقالَ في الأمْرِ ﴿وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ﴾ [الأنْعامِ: ٧١] . (p-١٩٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أيْ: مُوَحِّدِينَ لا يَعْبُدُونَ سِواهُ ﴿حُنَفاءَ﴾ عَلى دِينِ إبْراهِيمَ ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ المَكْتُوبَةَ في أوْقاتِها ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ﴾ عِنْدَ وُجُوبِها ﴿وَذَلِكَ﴾ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ هو ﴿دِينُ القَيِّمَةِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: أيْ دِينُ الأُمَّةِ القَيِّمَةِ بِالحَقِّ. ويَكُونُ المَعْنى: ذَلِكَ الدِّينُ دِينُ المِلَّةِ المُسْتَقِيمَةِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾ قَرَأ نافِعٌ، وابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ بِالهَمْزِ بِالكَلِمَتَيْنِ. وقَرَأ الباقُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ فِيهِما. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: البَرِيَّةُ: الخَلْقُ. وأكْثَرُ العَرَبِ والقُرّاءِ عَلى تَرْكِ هَمْزِها لِكَثْرَةِ ما جَرَتْ عَلى الألْسِنَةِ، وهي فَعِيلَةٌ بِمَعْنى مَفْعُولَةٍ. ومِنَ النّاسِ مَن يَزْعُمُ أنَّها مَأْخُوذَةٌ مَن بَرَيْتُ العُودَ، ومِنهم مَن يَزْعُمُ أنَّها مِنَ البَرى وهو التُّرابُ [أيْ: خُلِقَ مِنَ التُّرابِ، وقالُوا: لِذَلِكَ لا يُهْمَزُ، وقالَ الزَّجّاجُ: لَوْ كانَ مِنَ البَرى وهو التُّرابُ] لَما قُرِنَتْ بِالهَمْزِ، وإنَّما اشْتِقاقُها مَن بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ. وقالَ الخَطابِيُّ: أصْلُ البَرِيَّةِ الهَمْزُ، إلّا أنَّهُمُ اصْطَلَحُوا عَلى تَرْكِ الهَمْزِ فِيها. وما بَعْدَهُ ظاهِرٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بِطاعَتِهِمْ ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ بِثَوابِهِ. وكانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: إذا كُنْتَ لا تَرْضى عَنِ اللَّهِ، فَكَيْفَ تَسْألُهُ الرِّضى عَنْكَ؟! (p-٢٠٠)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ﴾ أيْ: خافَهُ في الدُّنْيا، وتَناهى عَنْ مَعاصِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب