الباحث القرآني

(p-١٦٨)سُورَةُ التِّينِ وَفِيها قَوْلانِ: أحَدُهُما: مَكِّيَّةٌ، قالَهُ الجُمْهُورُ، مِنهُمُ الحَسَنُ، وعَطاءٌ. والثّانِي: أنَّها مَدَنِيَّةٌ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والتِّينِ والزَّيْتُونِ﴾ فِيهِما سَبْعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ التِّينُ المَعْرُوفُ، والزَّيْتُونُ المَعْرُوفُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وإبْراهِيمُ. وذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ (p-١٦٩)أنَّهُ إنَّما أقْسَمَ بِالتِّينِ لِأنَّها فاكِهَةٌ مُخَلَّصَةٌ مِن شائِبِ التَّنْغِيصِ، وهو يَدُلُّ عَلى قُدْرَةِ مَن هَيَّأهُ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ. وجَعَلَ الواحِدَةَ مِنهُ عَلى مِقْدارِ اللُّقْمَةِ، وإنَّما أقْسَمَ بِالزَّيْتُونِ لِكَثْرَةِ الِانْتِفاعِ بِهِ. والثّانِي: أنَّ التِّينَ: مَسْجِدُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي بُنِيَ عَلى الجُودِيِّ. والزَّيْتُونَ: بَيْتُ المَقْدِسِ، رَواهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: التِّينُ: المَسْجِدُ الحَرامُ، والزَّيْتُونُ: المَسْجِدُ الأقْصى، قالَهُ الضَّحّاكُ. والرّابِعُ: التِّينُ: مَسْجِدُ دِمَشْقَ، والزَّيْتُونُ: بَيْتُ المَقْدِسِ، قالَهُ كَعْبٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ. والخامِسُ: أنَّهُما جَبَلانِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ في رِوايَةٍ. ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ قالَ: التِّينُ: الجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ دِمَشْقُ، والزَّيْتُونُ: الجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ بَيْتُ المَقْدِسِ. والسّادِسُ: أنَّ التِّينَ: مَسْجِدُ أصْحابِ الكَهْفِ، والزَّيْتُونَ: مَسْجِدُ إيلِياءَ، قالَهُ القُرَظِيُّ. والسّابِعُ: أنَّ التِّينَ: جِبالٌ ما بَيْنَ حُلْوانَ إلى هَمَذانَ، والزَّيْتُونَ: جِبالٌ بِالشّامِ، حَكاهُ الفَرّاءُ. فَأمّا " طُور سِينِينَ " فالطُّورُ: جَبَلٌ. وفِيهِ قَوْلانِ. (p-١٧٠)أحَدُهُما: أنَّهُ الجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى عَلَيْهِ، قالَهُ كَعْبُ الأحْبارِ في الأكْثَرِينَ. والثّانِي: أنَّهُ جَبَلٌ بِالشّامِ، قالَهُ قَتادَةُ. فَأمّا " سِينِينَ " فَهو لُغَةٌ في سَيْناءَ. وقَدْ قَرَأ عَلِيٌّ، وسَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، وأبُو العالِيَةِ، وأبُو مِجْلَزٍ " وطُورِ سَيْناءَ " مَمْدُودَةً مَهْمُوزَةً، مَفْتُوحَةَ السِّينِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو الدَّرْداءِ، وأبُو حَيْوَةَ: " وطُورِ سِيناءَ " مِثْلَهم إلّا أنَّهم كَسَرُوا السِّينَ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، والجَحْدَرِيُّ: " سَيْنِينَ " كَما في المُصْحَفِ، لَكِنَّهُما فَتَحا السِّينَ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: " سِينِينَ " هو سَيْناءُ. واخْتَلَفُوا في مَعْناهُ، فَقِيلَ: مَعْناهُ: الحَسَنُ. وقِيلَ: المُبارَكُ. وقِيلَ: إنَّهُ اسْمٌ لِلشَّجَرِ الَّذِي حَوْلَهُ. وقَدْ شَرَحْنا هَذا في سُورَةِ [المُؤْمِنِينَ: ٢٠] قالَ الزَّجّاجُ: وقَدْ قُرِئَ هاهُنا " وطُورِ سَيْناءَ " وهو أشْبَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْناءَ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٢٠] . وقالَ مُقاتِلٌ: كُلُّ جَبَلٍ فِيهِ شَجَرٌ مُثْمِرٌ فَهو سِينِينَ، وسَيْناءُ بِلُغَةِ النَّبَطِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهَذا البَلَدِ الأمِينِ﴾ يَعْنِي: مَكَّةَ يَأْمَنُ فِيهِ الخائِفُ في الجاهِلِيَّةِ، (p-١٧١)والإسْلامِ. قالَ الفَرّاءُ: ومَعْنى " الأمِينُ " الآمِنُ. والعَرَبُ تَقُولُ لِلْأمِينِ: آمِنٌ. قالَ الشّاعِرُ: ؎ ألَمْ تَعْلَمِي يا أسْمَ ويْحَكِ أنَّنِي حَلَفْتُ يَمِينًا لا أخُونُ أمِينِي يُرِيدُ آمَنِي. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ﴾ هَذا جَوابُ القَسَمِ. وفي المُرادِ بِالإنْسانِ هاهُنا خَمْسَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ كَلَدَةُ بْنُ أُسَيْدٍ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، قالَهُ عَطاءٌ. والثّالِثُ: أبُو جَهْلِ بْنُ هِشامٍ. والرّابِعُ: عُتْبَةُ، وشَيْبَةُ، حَكاهُما الماوَرْدِيُّ. (p-١٧٢)والخامِسُ: أنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وهَذا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وهو مَعْنى قَوْلِ مُقاتِلٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: في أعْدَلِ خَلْقٍ. والثّانِي: مُنْتَصِبُ القامَةِ، رُوِيا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: في أحْسَنِ صُورَةٍ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ. والرّابِعُ: في شَبابٍ وقُوَّةٍ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: إلى أرْذَلَ العُمُرِ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ عِكْرِمَةُ، وإبْراهِيمُ، وقَتادَةُ. وقالَ الضَّحّاكُ: إلى الهَرَمِ بَعْدَ الشَّبابِ، والضَّعْفِ بَعْدَ القُوَّةِ. والسّافِلُونَ: هُمُ الضُّعَفاءُ، والزَّمْنى، والأطْفالُ، والشَّيْخُ الكَبِيرُ أسْفَلُ هَؤُلاءِ جَمِيعًا. قالَ الفَرّاءُ: وإنَّما قالَ: " سافِلِينَ " عَلى الجَمْعِ، لِأنَّ الإنْسانَ في (p-١٧٣)مَعْنى جَمْعٍ. تَقُولُ: هَذا أفْضَلُ قائِمٍ، ولا تَقُولُ: قائِمِينَ، لِأنَّكَ تُرِيدُ واحِدًا، فَإذا لَمْ تُرِدْ واحِدًا ذَكَرْتَهُ بِالتَّوْحِيدِ وبِالجَمْعِ. والثّانِي: إلى النّارِ، قالَهُ الحَسَنُ، وأبُو العالِيَةِ، ومُجاهِدٌ. والمَعْنى: إنّا نَفْعَلُ هَذا بِكَثِيرٍ مِنَ النّاسِ. تَقُولُ العَرَبُ: أنْفَقَ فُلانٌ مالَهُ عَلى فُلانٍ، وإنَّما أنْفَقَ بَعْضَهُ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى﴾ [اللَّيْلِ: ١٨] لَمْ يُرِدْ كُلَّ مالِهِ. ثُمَّ اسْتَثْنى مِنَ الإنْسانِ فَقالَ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لِأنَّ مَعْنى الإنْسانِ الكَثِيرُ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ في مَعْنى الِاسْتِثْناءِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: إلّا الَّذِينَ آمَنُوا، فَإنَّهم لا يُرَدُّونَ إلى الخَرَفِ وأرْذَلِ العُمُرِ وإنَّ عُمِّرُوا طَوِيلًا، وهَذا عَلى القَوْلِ الأوَّلِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَن قَرَأ القُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ. وقالَ النَّخْعِيُّ: إذا بَلَغَ المُؤْمِنُ مِنَ الكِبَرِ ما يَعْجَزُ عَنِ العَمَلِ كُتِبَ لَهُ ما كانَ يَعْمَلُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: المَعْنى: إلّا الَّذِينَ آمَنُوا في وقْتِ القُوَّةِ والقُدْرَةِ، فَإنَّهم حالَ الكِبَرِ غَيْرُ مَنقُوصِينَ وإنْ عَجَزُوا عَنِ الطّاعاتِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى عَلِمَ أنَّهم لَوْ لَمْ يَسْلُبْهُمُ القُوَّةَ لَمْ يَنْقَطِعُوا عَنْ أفْعالِ الخَيْرِ، فَهو يُجْرِي لَهم أجْرَ ذَلِكَ. والثّانِي: إلّا الَّذِينَ آمَنُوا، فَإنَّهم لا يُرَدُّونَ إلى النّارِ. وهَذا عَلى القَوْلِ الثّانِي. وَقَدْ شَرَحْنا مَعْنى " المَمْنُونِ " في " نْ " [آيَةُ: ٣] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. (p-١٧٤)أحَدُهُما: فَما يُكَذِّبُكَ أيُّها الإنْسانُ بَعْدَ هَذِهِ الحُجَّةِ " بِالدِّينِ " أيْ: ما الَّذِي يَجْعَلُكَ مُكَذِّبًا بِالجَزاءِ؟!، وهَذا تَوْبِيخٌ لِلْكافِرِ، وهو مَعْنى قَوْلِ مُقاتِلٍ. وزَعَمَ أنَّها نَزَلَتْ في عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ. والثّانِي: فَمَن يَقْدِرُ عَلى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوابِ والعِقابِ بَعْدَما تَبَيَّنَ لَهُ خَلْقُنا الإنْسانَ عَلى ما وصَفْنا، قالَهُ الفَرّاءُ. فَأمّا " الدِّينُ " فَهو الجَزاءُ. والمُشارُ بِذِكْرِهِ إلى البَعْثِ، كَأنَّهُ اسْتَدَلَّ بِتَقْلِيبِ الأحْوالِ عَلى البَعْثِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ أيْ: بِأقْضى القاضِينَ. قالَ مُقاتِلٌ: يَحْكُمُ بَيْنَكَ وبَيْنَ مُكَذِّبِيكَ. وذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: أنَّ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ تَسْلِيَتُهُ في تَرْكِهِمْ والإعْراضِ عَنْهم. ثُمَّ نُسِخَ هَذا المَعْنى بِآيَةِ السَّيْفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب