الباحث القرآني
(p-١٦٢)سُورَةُ الِانْشِراحِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّها بِإجْماعِهِمْ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ الشَّرْحُ: الفَتْحُ بِإذْهابِ ما يَصُدُّ عَنِ الإدْراكِ. واللَّهُ تَعالى فَتَحَ صَدْرَ نَبِيِّهِ لِلْهُدى والمَعْرِفَةِ بِإذْهابِ الشَّواغِلِ الَّتِي تُصْدِرُ عَنْ إدْراكِ الحَقِّ. ومَعْنى هَذا الِاسْتِفْهامِ: التَّقْرِيرُ، أيْ: قَدْ فَعَلْنا ذَلِكَ ﴿وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ أيْ: حَطَطْنا عَنْكَ إثْمَكَ الَّذِي سَلَفَ في الجاهِلِيَّةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ، والفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ في آخَرِينَ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى: أنَّهُ غَفَرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وأصْلُ (p-١٦٣)الوِزْرِ: ما حَمَلَهُ الإنْسانُ عَلى ظَهْرِهِ، فَشُبِّهَ بِالحِمْلِ فَجُعِلَ مَكانَهُ. ومَعْنى ﴿أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ أثْقَلَهُ حَتّى سُمِعَ نَقِيضُهُ، أيْ: صَوْتُهُ. وهَذا مَثَلٌ، يَعْنِي: أنَّهُ لَوْ كانَ حِمْلًا يُحْمَلُ لَسُمِعَ نَقِيضُ الظَّهْرِ مِنهُ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ المُرادَ بِهَذا تَخْفِيفُ أعْباءِ النُّبُوَّةِ الَّتِي يُثْقِلُ القِيامُ بِها الظَّهْرَ، فَسَهَّلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ حَتّى تَيَسَّرَ عَلَيْهِ الأمْرُ. ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى هَذا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيى.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ فِيهِ خَمْسَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: ما رَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ «عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ سَألَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: إذا ذُكِرْتُ [ذُكِرْتَ] مَعِي.» قالَ قَتادَةُ: فَلَيْسَ خَطِيبٌ، ولا مُتَشَهِّدٌ، ولا صاحِبُ صَلاةٍ إلّا يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ.
والثّانِي: رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بِالنُّبُوَّةِ، قالَهُ يَحْيى بْنُ سَلامٍ.
والثّالِثُ: رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ في الآخِرَةِ كَما رَفَعْناهُ في الدُّنْيا، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ.
(p-١٦٤)والرّابِعُ: رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ عِنْدَ المَلائِكَةِ في السَّماءِ.
والخامِسُ: بِأخْذِ المِيثاقِ لَكَ عَلى الأنْبِياءِ، وإلْزامِهِمُ الإيمانَ بِكَ، والإقْرارِ بِفَضْلِكَ، حَكاهُما الثَّعْلَبِيُّ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ضَمَّ سِينَ " العُسْرِ "، وسِينَ " اليُسْرِ " أبُو جَعْفَرٍ و " العُسْرُ " مَذْكُورٌ في الآيَتَيْنِ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ. و " اليُسْرُ " مَذْكُورٌ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ العُسْرَ واحِدٌ، واليُسْرَ اثْنانِ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ في هَذِهِ [الآيَةِ]: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. قالَ الفَرّاءُ: العَرَبُ إذا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثُمَّ أعادَتْها بِنَكِرَةٍ صارَتِ اثْنَتَيْنِ، كَقَوْلِكَ: إذا كَسَبْتَ دِرْهَمًا فَأنْفِقْ دِرْهَمًا، فالثّانِي غَيْرُ الأوَّلِ، وإذا أعادَتْها مَعْرِفَةً، فَهي كَقَوْلِكَ: إذا كَسَبْتَ دِرْهَمًا فَأنْفِقِ الدِّرْهَمَ، فالثّانِي هو الأوَّلُ. ونَحْوَ هَذا قالَ الزَّجّاجُ: ذَكَرَ العُسْرَ بِالألِفِ واللّامِ، ثُمَّ ثَنّى ذِكْرَهُ، فَصارَ المَعْنى: إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَيْنِ. وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ يَحْيى الجُرْجانِيُّ -وَيُقالُ لَهُ: صاحِبُ النَّظْمِ-: مَعْنى الكَلامِ: لا يُحْزِنْكَ ما يُعَيِّرُكَ بِهِ المُشْرِكُونَ مِنَ الفَقْرِ ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ [عاجِلًا في الدُّنْيا، فَأنْجَزَهُ بِما وعَدَهُ، بِما فَتَحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ابْتَدَأ فَصْلًا آخَرَ فَقالَ: ﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ] والدَّلِيلُ عَلى ابْتِدائِهِ تَعَرِّيهِ مِنَ الفاءِ والواوِ، وهو وعْدٌ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ أنَّ مَعَ عُسْرِ المُؤْمِنِينَ يُسْرًا في الآخِرَةِ، فَمَعْنى قَوْلِهِمْ: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرُ الدُّنْيا اليُسْرَ الَّذِي وعَدَهُ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا، فاليُسْرَ الَّذِي وعَدَهم في الآخِرَةِ، (p-١٦٥)إنَّما يَغْلِبُ أحَدُهُما، وهو يُسْرُ الدُّنْيا. فَأمّا يُسْرُ الآخِرَةِ، فَدائِمٌ لا يَنْقَطِعُ، كَقَوْلِهِ [ﷺ]: " «شَهْرا عِيدٍ لا يَنْقُصانِ» "، أيْ: لا يَجْتَمِعانِ في النَّقْصِ. وحُكِيَ عَنِ العَتَبِيِّ قالَ: (p-١٦٦)كُنْتُ ذاتَ لَيْلَةٍ في البادِيَةِ بِحالَةٍ مِنَ الغَمِّ، فَأُلْقِيَ في رُوعِي بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ، فَقُلْتُ:
؎ أرى المَوْتَ لِمَن أصْبَ حَ مَغْمُومًا لَهُ أرْوَحْ
فَلَمّا جَنَّ اللَّيْلُ سَمِعْتُ هاتِفًا يَهْتِفُ:
؎ ألا يا أيُّها المَرْءُ الَّـ ∗∗∗ ـذِي الهَمُّ بِهِ بَرَّحْ
؎ وقَدْ أنْشَدَ بَيْتًا لَمْ ∗∗∗ يَزَلْ في فِكْرِهِ يَسْنَحْ
؎ إذا اشْتَدَّ بِكَ العُسْرُ ∗∗∗ فَفَكِّرْ في " ألَمْ نَشْرَحْ ∗∗∗ "
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ ∗∗∗ إذا أبْصَرْتَهُ فافْرَحْ
فَحَفِظْتُ الأبْياتَ وفَرَّجَ اللَّهُ غَمِّي.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ﴾ أيْ: فادْأبْ في العَمَلِ، وهو مِنَ النَّصَبِ، والنَّصَبُ: التَّعَبُ، الدُّؤُوبُ في العَمَلِ.
وَفِي مَعْنى الكَلامِ خَمْسَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: فَإذا فَرَغْتَ مِنَ الفَرائِضِ فانْصَبْ في قِيامِ اللَّيْلِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
والثّانِي: فَإذا فَرَغْتَ مِنَ الصَّلاةِ فانْصَبْ في الدُّعاءِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ، ومُقاتِلٌ.
(p-١٦٧)والثّالِثُ: فَإذا فَرَغْتَ مِن أمْرِ دُنْياكَ فانْصَبْ في عَمَلِ آخِرَتِكَ، قالَهُ مُجاهِدٌ.
والرّابِعُ: فَإذا فَرَغْتَ مِنَ التَّشَهُّدِ فادْعُ لِدُنْياكَ وآخِرَتِكَ، قالَهُ الشَّعْبِيُّ، والزُّهْرِيُّ.
والخامِسُ: إذا صَحَّ بَدَنُكَ فاجْعَلْ صِحَّتَكَ نَصْبًا في العِبادَةِ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ ﴿وَإلى رَبِّكَ فارْغَبْ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: اجْعَلْ رَغْبَتَكَ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وحْدَهُ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ","وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ","ٱلَّذِیۤ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ","وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ","فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرًا","إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرࣰا","فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ","وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب"],"ayah":"فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق