الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ( ما كانَ لَلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرَوا مَسْجِدَ اللَّهِ ) قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "مَسْجِدُ اللَّهِ" عَلى التَّوْحِيدِ، "إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ" عَلى الجَمْعِ. وقَرَأ عاصِمٌ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ عَلى الجَمْعِ فِيهِما. وسَبَبُ نُزُولِها «أنَّ جَماعَةً مِن رُؤَساءِ قُرَيْشٍ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ فِيهِمُ العَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المَطَّلِبِ، فَأقْبَلَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَعَيَّرُوهم بِالشِّرْكِ، وجَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ يُوَبِّخُ العَبّاسَ بِقِتالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَقالَ العَبّاسُ: ما لَكم تَذْكُرُونَ مَساوِئَنا وتَكْتُمُونَ مَحاسِنَنا؟ فَقالُوا وهَلْ لَكَمَ مِن مَحاسِنَ؟ قالُوا: (p-٤٠٨)نَعَمْ، لَنَحْنُ أفْضَلُ مِنكم أجْرًا؛ إنّا لَنَعْمُرُ المَسْجِدَ الحَرامَ، ونَحْجُبَ الكَعْبَةَ، ونَسْقِيَ الحَجِيجَ، ونَفُكَّ العانِيَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآَيَةُ،» قالَهُ مُقاتِلٌ في جَماعَةٍ. وَفِي المُرادِ بِالعِمارَةِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: دُخُولُهُ والجُلُوسُ فِيهِ. والثّانِي: البِناءُ لَهُ وإصْلاحُهُ؛ فَكِلاهُما مَحْظُورٌ عَلى الكافِرِ. والمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ أيْ: يَجِبُ عَلى المُسْلِمِينَ مَنعُهم مِن ذَلِكَ. قالَ الزَّجّاجُ: وقَوْلُهُ: شاهِدَيْنِ حالٌ. المَعْنى: ما كانَتْ لَهم عِمارَتُهُ في حالِ إقْرارِهِمْ بِالكُفْرِ، ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ لِأنَّ كُفْرَهم أذْهَبَ ثَوابَها. فَإنْ قِيلَ كَيْفَ يَشْهَدُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ، وهم يَعْتَقِدُونَ أنَّهم عَلى الصَّوابِ؟ فَعَنْهُ ثَلاثَةُ أجْوِبَةٍ. أحَدُها: أنَّهُ قَوْلُ اليَهُودِيِّ: أنا يَهُودِيٌّ: وقَوْلُ النَّصْرانِيِّ: أنا نَصْرانِيٌّ، قالَهُ السُّدِّيُّ. والثّانِي: أنَّهم ثَبَتُوا عَلى أنْفُسِهِمُ الكُفْرَ بِعُدُولِهِمْ عَنْ أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، وهو حَقٌّ لا يَخْفى عَلى مُمَيَّزٍ، فَكانُوا بِمَنزِلَةِ مَن شَهِدَ عَلى نَفْسِهِ. والثّالِثُ: أنَّهم آَمَنُوا بِأنْبِياءٍ شَهِدُوا لَمُحَمَّدٍ ﷺ بِالتَّصْدِيقِ، وحَرَّضُوا عَلى اتِّباعِهِ، فَلَمّا آَمَنُوا بِهِمْ وكَذَّبُوهُ، دَلُّوا عَلى كُفْرِهِمْ، وجَرى ذَلِكَ مَجْرى الشَّهادَةِ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ، لِأنَّ الشَّهادَةَ هي تَبْيِينٌ وإظْهارٌ، ذَكَرَهُما ابْنُ الأنْبارِيِّ. فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ قَوْلِهِ: ﴿إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ ولَمْ يَذْكُرِ الرَّسُولَ، والإيمانُ لا يَتِمُّ إلّا بِهِ؟ فالجَوابُ: أنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلى الرَّسُولِ، لَقَوْلِهِ: ﴿وَأقامَ الصَّلاةَ﴾ أيِ: الصَّلاةُ الَّتِي جاءَ بِها الرَّسُولُ، قالَهُ الزَّجّاجُ. فَإنْ قِيلَ: (فَعَسى) تَرَجٍّ، وفاعِلُ هَذِهِ الخِصال مُهْتَدٍ بِلا شَكٍّ. فالجَوابُ: أنْ "عَسى" (p-٤٠٩)مِنَ اللَّهِ واجِبَةٌ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. فَإنْ قِيلَ: قَدْ يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الصِّفاتُ. فالجَوابُ: أنَّ المُرادَ أنَّهُ مَن كانَ عَلى هَذِهِ الصِّفاتِ المَذْكُورَةِ، كانَ مَن أهْلِ عِمارَتِها؛ ولَيْسَ المُرادُ أنَّ مَن عَمَّرَها كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب