الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا الإنْسانُ﴾ فِيمَن عَنى بِهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وأبُو حُذَيْفَةَ بْنُ المُغِيرَةِ، رَواهُ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ. والثّالِثُ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، قالَهُ مُقاتِلٌ. (p-١١٩)والرّابِعُ: أنَّهُ الكافِرُ الَّذِي لا يُؤْمِنُ بِالبَعْثِ، قالَ الزَّجّاجُ: وابْتَلاهُ بِمَعْنى اخْتَبَرَهُ بِالغِنى واليُسْرِ ﴿فَأكْرَمَهُ﴾ بِالمالِ ﴿وَنَعَّمَهُ﴾ بِما وسَّعَ عَلَيْهِ مِنَ الإفْضالِ ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ﴾ فَتَحَ ياءَ " رَبِّيَ " " أكْرَمَنِيَ " " رَبِّيَ " " أهانَنِيَ " أهْلُ الحِجازِ، وأبُو عَمْرٍو، أيْ: فَضَّلَنِي بِما أعْطانِي، ويَظُنُّ أنَّ ما أعْطاهُ مِنَ الدُّنْيا لِكَرامَتِهِ عَلَيْهِ ﴿وَأمّا إذا ما ابْتَلاهُ﴾ بِالفَقْرِ ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ عامِرٍ: " فَقَدَّرَ " بِتَشْدِيدِ الدّالِ، والمَعْنى: ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِأنْ جَعَلَهُ عَلى مِقْدارِ البُلْغَةِ ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ﴾ أيْ: هَذا الهَوانُ مِنهُ لِي حِينَ أذَلَّنِي بِالفَقْرِ. واعْلَمْ أنَّ مَن لا يُؤْمِنُ بِالبَعْثِ، فالكَرامَةُ عِنْدَهُ زِيادَةُ الدُّنْيا، والهَوانُ قِلَّتُها. (p-١٢٠)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلا﴾ أيْ: لَيْسَ الأمْرُ كَما يَظُنُّ. قالَ مُقاتِلٌ: ما أعْطَيْتُ [مَن أغْنَيْتُ] هَذا الغِنى لِكَرامَتِهِ عَلَيَّ، ولا أفْقَرْتُ [مَن] أفْقَرْتُ لِهَوانِهِ عَلَيَّ، وقالَ الفَرّاءُ: المَعْنى: لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَكُونَ هَكَذا، إنَّما يَنْبَغِي أنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَلى الأمْرَيْنِ: الفَقْرِ، والغِنى. ثُمَّ أخْبَرَ عَنِ الكُفّارِ فَقالَ تَعالى: ﴿بَلْ لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ قَرَأ أهْلُ البَصْرَةِ " يُكْرِمُونَ " و " يَحُضُّونَ " و " يَأْكُلُونَ " و يُحِبُّونَ " بِالياءِ فِيهِنَّ، والباقُونَ بِالتّاءِ. ومَعْنى الآيَةِ: إنِّي أهَنْتُ مَن أهَنْتُ مِن أجْلِ أنَّهُ لا يُكْرِمُ اليَتِيمَ. والآيَةُ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّهم كانُوا لا يَبَرُّونَهُ. والثّانِي: لا يُعْطُونَهُ حَقَّهُ مِنَ المِيراثِ، وكَذَلِكَ كانَتْ عادَةُ الجاهِلِيَّةِ لا يُوَرِّثُونَ النِّساءَ ولا الصِّبْيانَ. ويَدُلُّ عَلى المَعْنى الأوَّلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَحاضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ قَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وأهْلُ الكُوفَةِ " تَحاضُّونَ " بِألِفٍ مَعَ فَتْحِ التّاءِ. ورَوى الشَّيْرَزِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ ضَمَّ التّاءَ. والمَعْنى: لا يَأْمُرُونَ بِإطْعامِهِ لِأنَّهم لا يَرْجُونَ ثَوابَ الآخِرَةِ. ويَدُلُّ عَلى المَعْنى الثّانِي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أكْلا لَمًّا﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: التُّراثُ: المِيراثُ، والتّاءُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ، (p-١٢١)كَما قالُوا: تُجاهٌ، والأصْلُ: وُجاهٌ، وقالُوا: تُخَمَةٌ، والأصْلُ: وُخَمَةٌ. وَ ﴿لَمًّا﴾ أيْ: شَدِيدًا، وهو مِن قَوْلِكَ: لَمَمْتُ بِالشَّيْءِ: إذا جَمَعْتَهُ، وقالَ الزَّجّاجُ: هو مِيراثُ اليَتامى. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ المالَ﴾ أيْ: تُحِبُّونَ جَمْعَهُ ﴿حُبًّا جَمًّا﴾ أيْ: كَثِيرًا فَلا تُنْفِقُونَهُ في خَيْرٍ ﴿كَلا﴾ أيْ: ما هَكَذا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ [الأمْرُ] . ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ تَلَهُّفِهِمْ عَلى ما سَلَفَ مِنهم حِينَ لا يَنْفَعُهُمْ، فَقالَ تَعالى: ﴿إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ أيْ: مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَتَكَسَّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْها، ﴿وَجاءَ رَبُّكَ﴾ قَدْ ذَكَرْنا هَذا المَعْنى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢١٠] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ أيْ: تَأْتِي [مَلائِكَةُ] كُلِّ سَماءٍ صَفًّا [صَفًّا] عَلى حِدَةٍ. قالَ الضَّحّاكُ: يَكُونُونَ سَبْعَةَ صُفُوفٍ، ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ رَوى مُسْلِمٌ في أفْرادِهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ (p-١٢٢)ﷺ: " «يُؤْتى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مَعَ [كُلِّ زِمامٍ] سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها» " . قالَ مُقاتِلٌ: يُجاءُ بِها فَتُقامُ عَنْ يَسارِ العَرْشِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أيْ: يَوْمَ يُجاءُ بِجَهَنَّمَ ﴿يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ﴾ أيْ: يَتَّعِظُ الكافِرُ ويَتُوبُ. قالَ مُقاتِلٌ: هو أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ﴿وَأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ أيْ: كَيْفَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ وهي في القِيامَةِ لا تَنْفَعُ ﴿يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ﴾ العَمَلَ الصّالِحَ في الدُّنْيا ﴿لِحَياتِي﴾ في الآخِرَةِ الَّتِي لا مَوْتَ فِيها ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ﴾ قَرَأ الكِسائِيُّ، ويَعْقُوبُ، والمُفَضَّلُ: " لا يُعَذَّبُ " بِفَتْحِ الذّالِ، والباقُونَ بِكَسْرِها، فَمَن فَتَحَ، أرادَ: لا يُعَذَّبُ عَذابَ الكافِرِ أحَدٌ، ومَن كَسَرَ أرادَ: لا يُعَذِّبُ عَذابَ اللَّهِ أحَدٌ، أيْ كَعَذابِهِ، وهَذِهِ القِراءَةُ تَخْتَصُّ بِالدُّنْيا، والأُولى تَخْتَصُّ بِالآخِرَةِ. (p-١٢٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ اخْتَلَفُوا فِيمَن نَزَلَتْ عَلى خَمْسَةِ أقْوالٍ. أحَدُها: في حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ لَمّا اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، قالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ، وبُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ. والثّانِي: في عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ حِينَ أوْقَفَ بِئْرَ رُومَةَ، قالَهُ الضَّحّاكُ. والثّالِثُ: في خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمّا صَلَبَهُ أهْلُ مَكَّةَ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والرّابِعُ: في أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. والخامِسُ: [فِي] جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. وَفِي مَعْنى " المُطْمَئِنَّةِ " ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: المُؤْمِنَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ الزَّجّاجُ: المُطْمَئِنَّةُ بِالإيمانِ. والثّانِي: الرّاضِيَةُ بِقَضاءِ اللَّهِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والثّالِثُ: المُوقِنَةُ بِما وعَدَ اللَّهُ، قالَهُ قَتادَةُ. واخْتَلَفُوا في أيِّ حِينٍ يُقالُ لَها ذَلِكَ عَلى قَوْلَيْنِ. أحَدُهُما: عِنْدَ خُرُوجِها مِنَ الدُّنْيا، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: عِنْدَ البَعْثِ يُقالُ لَها: ارْجِعِي إلى صاحِبِكِ، وإلى جَسَدِكِ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ الأرْواحَ أنْ تَعُودَ إلى الأجْسادِ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ عَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ. (p-١٢٤)وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً﴾ أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: ارْجِعِي إلى صاحِبِكِ الَّذِي كُنْتِ في جَسَدِهِ، وهَذا المَعْنى في رِوايَةِ العَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ عِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ. والثّانِي: ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ بَعْدَ المَوْتِ في الدُّنْيا، قالَهُ أبُو صالِحٍ. والثّالِثُ: ارْجِعِي إلى ثَوابِ رَبِّكِ، قالَهُ الحَسَنُ. والرّابِعُ: يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ [إلى الدُّنْيا] ارْجِعِي إلى اللَّهِ تَعالى بِتَرْكِها، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ أيْ: في جُمْلَةِ عِبادِي المُصْطَفَيْنَ. قالَ أبُو صالِحٍ: يُقالُ لَها عِنْدَ المَوْتِ: ارْجِعِي إلى رَبِّكِ، فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ قِيلَ لَها: ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ وقالَ الفَرّاءُ: ادْخُلِي مَعَ عِبادِي. وقَرَأ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ، وأبُو العالِيَةِ، وأبُو عِمْرانَ: " في عَبْدِي " عَلى التَّوْحِيدِ. قالَ الزَّجّاجُ: فَعَلى هَذِهِ القِراءَةِ -واللَّهُ أعْلَمُ- (p-١٢٥)يَكُونُ المَعْنى: ارْجِعِي إلى رَبِّكِ، أيْ: إلى صاحِبِكِ الَّذِي خَرَجْتِ مِنهُ، فادْخُلِي فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب