الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ لا زائِدَةٌ، والمَعْنى: أُقْسِمُ ﴿بِالخُنَّسِ﴾ وفِيها خَمْسَةُ أقْوالٍ. (p-٤٢)أحَدُها: أنَّها خَمْسَةُ أنْجُمٍ تَخْنَسُ بِالنَّهارِ فَلا تَرى، وهِيَ: زُحَلُ، وعُطارِدُ، والمُشْتَرِي، والمَرِّيخُ، والزُّهْرَةُ، قالَهُ عَلِيٌّ، وبِهِ قالَ مُقاتِلٌ، وابْنُ قُتَيْبَةَ. وقِيلَ: اسْمُ المُشْتَرِي: البُرْجُسُ. واسْمُ المَرِّيخِ: بُهْرامُ. والثّانِي: أنَّها النُّجُومُ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ عَلى الإطْلاقِ، وبِهِ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ. والثّالِثُ: أنَّها بَقَرُ الوَحْشِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. والرّابِعُ: الظِّباءُ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. والخامِسُ: المَلائِكَةُ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. والأكْثَرُونَ عَلى أنَّها النُّجُومُ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وإنَّما سَمّاها خُنَّسًا، لِأنَّها تَسِيرُ في البُرُوجِ والمَنازِلِ، كَسَيْرِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، ثُمَّ تَخْنَسُ، أيْ: تَرْجِعُ، بَيْنا يُرى أحَدُها في آخِرِ البُرُوجِ كَرَّ راجِعًا إلى أوَّلِهِ، وسَمّاها كُنَّسًا، لِأنَّها تَكْنُسُ، أيْ: تَسِيرُ كَما تَكْنُسُ الظِّباءُ. وقالَ الزَّجّاجُ: تَخْنَسُ، أيْ: تَغِيبُ، وكَذَلِكَ تَكْنُسُ، أيْ: تَغِيبُ في المَواضِعِ الَّتِي تَغِيبُ فِيها. وإذا كانَ المُرادُ الظِّباءَ فَهو يَدْخُلُ الكُناسَ، وهو الغُصْنُ مِن أغْصانِ الشَّجَرِ. ووَقَفَ يَعْقُوبُ عَلى " الجَوارِي " بِالياءِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: ولّى، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ زَيْدٍ، والفَرّاءُ. والثّانِي: إذا أقْبَلَ. قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ. قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ: إذا أقْبَلَ. وعَسْعَسَ: إذا أدْبَرَ. واسْتَدَلَّ مَن قالَ: إنَّ المُرادَ: إدْبارُهُ (p-٤٣)بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿والصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ﴾ وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ لِعَلْقَمَةَ بْنِ قُرْطٍ: ؎ حَتّى إذا الصُّبْحُ لَها تَنَفَّسا وانْجابَ عَنْها لَيْلُها وعَسْعَسا وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَنَفَّسَ﴾ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ طُلُوعُ الفَجْرِ، قالَهُ عَلِيٌّ وقَتادَةُ. والثّانِي: طُلُوعُ الشَّمْسِ، قالَهُ الضَّحّاكُ. قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: إذا امْتَدَّ حَتّى يَصِيرَ نَهارًا بَيِّنًا. وجَوابُ القَسَمِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ﴾ وما بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ يَعْنِي: أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ. وقَدْ بَيَّنّا هَذا في [الحاقَّةِ: ٤٠] . ثُمَّ وصَفَ جِبْرِيلَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ وقَدْ شَرَحْناهُ في [النَّجْمِ آيَةُ: ٦] ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ يَعْنِي: في المَنزِلَةِ ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ﴾ أيْ: في السَّمَواتِ تُطِيعُهُ المَلائِكَةُ. فَمِن طاعَةِ المَلائِكَةِ لَهُ: أنَّهُ أمَرَ خازِنَ الجَنَّةِ لَيْلَةَ المِعْراجِ حَتّى فَتَحَها لِمُحَمَّدٍ ﷺ فَدَخَلَها ورَأى ما فِيها، وأمَرَ خازِنَ جَهَنَّمَ فَفَتَحَ لَهُ عَنْها حَتّى نَظَرَ إلَيْها. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو حَيْوَةَ: " ثُمَّ " بِضَمِّ الثّاءِ. ومَعْنى: ﴿أمِينٍ﴾ عَلى وحْيِ اللَّهِ ورِسالاتِهِ. قالَ أبُو صالِحٍ: أمِينٌ عَلى أنْ يَدْخُلَ سَبْعِينَ سُرادَقًا مِن نُورٍ بِغَيْرِ إذْنٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ، والخِطابُ لِأهْلِ مَكَّةَ. قالَ الزَّجّاجُ: وهَذا أيْضًا مِن جَوابِ القَسَمِ، وذَلِكَ أنَّهُ أقْسَمَ أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ، وأنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِمَجْنُونٍ كَما يَقُولُ أهْلُ مَكَّةَ. (p-٤٤)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: رَأى مُحَمَّدٌ ﷺ جِبْرِيلَ عَلى صُورَتِهِ بِالأُفُقِ. وقَدْ ذَكَرْنا هَذا في سُورَةِ [النَّجْمِ:٧] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما هُوَ﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا ﷺ ﴿عَلى الغَيْبِ﴾ أيْ: عَلى خَبَرِ السَّماءِ الغائِبِ عَنْ أهْلِ الأرْضِ ﴿بِضَنِينٍ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، ورُوَيْسٌ " بِظَنِينَ " بِالظّاءِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالضّادِ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَن قَرَأ بِالظّاءِ، فالمَعْنى: ما هو بِمُتَّهَمٍ عَلى ما يُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ، ومَن قَرَأ بِالضّادِ، فالمَعْنى: لَيْسَ بِبَخِيلٍ عَلَيْكم بِعِلْمِ ما غابَ عَنْكم مِمّا يَنْفَعُكم. وقالَ غَيْرُهُ: ما يَكْتُمُهُ كَما يَكْتُمُ الكاهِنُ لِيَأْخُذَ الأجْرَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما هُوَ﴾ يَعْنِي: القُرْآنَ ﴿بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: وذَلِكَ أنَّ كُفّارَ مَكَّةَ قالُوا: إنَّما يَجِيءُ بِهِ الشَّيْطانُ، فَيُلْقِيهِ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: فَأيَّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أبْيَنَ مِن هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ؟ ﴿إنْ هُوَ﴾ أيْ: ما هُوَ، يَعْنِي: القُرْآنَ ﴿إلا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ أيْ: مَوْعِظَةٌ لِلْخَلْقِ أجْمَعِينَ ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ عَلى الحَقِّ والإيمانِ. والمَعْنى: أنَّ القُرْآنَ إنَّما يَتَّعِظُ بِهِ مَنِ اسْتَقامَ عَلى الحَقِّ. وقَدْ بَيَّنّا سَبِيلَ الِاسْتِقامَةِ، فَمَن شاءَ أخَذَ في تِلْكَ السَّبِيلِ. ثُمَّ أعْلَمَهم أنَّ المَشِيئَةَ في التَّوْفِيقِ إلَيْهِ بِما بَعْدَ هَذا، وقَدْ بَيَّنّا هَذا في سُورَةِ [الإنْسانِ: ٣٠] قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: لَمّا نَزَلَتْ ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ قالُوا: الأمْرُ إلَيْنا، إنْ شِئْنا اسْتَقَمْنا، وإنْ شِئْنا لَمْ نَسْتَقِمْ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما تَشاءُونَ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ وقِيلَ: القائِلُ لِذَلِكَ أبُو جَهْلٍ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو عِمْرانَ: " وما يَشاؤُونَ " بِالياءِ. (p-٤٥)* فَصْلٌ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ ناقِلِي التَّفْسِيرِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ وقَوْلَهُ تَعالى في [عَبَسَ: ١٢]: ﴿فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ﴾، وقَوْلَهُ تَعالى في سُورَةِ [الإنْسانِ: ٢٩] وفي سُورَةِ [المُزَّمِّلِ: ١٨]: " فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا " كُلُّهُ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما تَشاءُونَ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ ولا أرى هَذا القَوْلَ صَحِيحًا، لِأنَّهُ لَوْ جازَ وُقُوعُ مَشِيئَتِهِمْ مَعَ عَدَمِ مَشِيئَتِهِ تَوَجَّهَ النَّسْخُ. فَأمّا إذْ أخْبَرَ أنَّ مَشِيئَتَهم لا تَقَعُ إلّا بَعْدَ مَشِيئَتِهِ، فَلَيْسَ لِلنَّسْخِ وجْهٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب