الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ( إنّا أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سُلاسِلًا ) قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، "سَلاسِلَ" بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، ووَقَفُوا بِألِفٍ. ووَقَفَ أبُو عَمْرٍو بِألِفٍ. قالَ مَكِّيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ النَّحْوِيُّ: "سَلاسِلُ" و"قَوارِيرُ" أصْلُهُ أنْ لا يَنْصَرِفَ، ومَن صَرَفَهُ مِنَ القُرّاءِ، فَإنَّها لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ. وقِيلَ: إنَّما صَرَفَهَ لِأنَّهُ وقَعَ في المُصْحَفِ بِالألِفِ، فَصَرَفَهُ لِاتِّباعِ خَطِّ المُصْحَفِ. قالَ مُقاتِلٌ: السَّلاسِلُ في أعْناقِهِمْ، والأغْلالُ في أيْدِيهِمْ. وقَدْ شَرَحْنا مَعْنى "السَّعِيرِ" في [النِّساءِ: ١٠] .
قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ الأبْرارَ﴾ واحِدُهم بَرٌّ، وبارٌّ، وهُمُ الصّادِقُونَ. وقِيلَ: المُطِيعُونَ. وقالَ الحَسَنُ: هُمُ الَّذِينَ لا يُؤْذُونَ الذَّرَّ ﴿يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ﴾ أيْ: مِن إناءٍ فِيهِ شَرابٌ ﴿كانَ مِزاجُها﴾ يَعْنِي: مِزاجَ الكَأْسِ ﴿كافُورًا﴾ وفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهُ الكافُورُ المَعْرُوفُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، ومُقاتِلٌ، فَعَلى هَذا في المُرادِ "بِالكافُورِ" ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: بَرْدُهُ، قالَهُ الحَسَنُ. والثّانِي: رِيحُهُ، قالَهُ قَتادَةُ. والثّالِثُ: طَعْمُهُ، قالَهُ السُّدِّيُّ.
والثّانِي أنَّهُ اسْمُ عَيْنٍ في الجَنَّةِ، قالَهُ عَطاءٌ، وابْنُ السّائِبِ.
والثّالِثُ أنَّ المَعْنى: مِزاجُها كالكافُورِ لِطِيبِ رِيحِهِ، أجازَهُ الفَرّاءُ، والزَّجّاجُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَيْنًا﴾ قالَ الفَرّاءُ: هي المُفَسِّرَةُ لِلْكافُورِ، وقالَ الأخْفَشُ: هي مَنصُوبَةٌ عَلى مَعْنى: أعْنِي عَيْنًا. وقالَ الزَّجّاجُ: الأجْوَدُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: مِن عَيْنٍ، "يَشْرَبُ بِها" فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
(p-٤٣١)أحَدُها: يَشْرَبُ مِنها. والثّانِي: يَشْرَبُها، والباءُ صِلَةٌ. والثّالِثُ: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ الخَمْرَ يَمْزُجُونَها بِها. وفي هَذِهِ العَيْنِ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّها الكافُورُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ.
والثّانِي: التَّسْنِيمُ، "وَعِبادُ اللَّهِ" ها هُنا: أوْلِياؤُهُ ﴿يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا﴾ قالَ مُجاهِدٌ: يَقُودُونَها إلى حَيْثُ شاؤُوا مِنَ الجَنَّةِ. قالَ الفَرّاءُ: حَيْثُ ما أحَبَّ الرَّجُلُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَجَّرَها لِنَفْسِهِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ قالَ الفَرّاءُ: فِيهِ إضْمارُ "كانُوا" يُوفُونَ بِالنَّذْرِ. وفِيهِ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ إذا نَذَرُوا في طاعَةِ اللَّهِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ.
والثّانِي: يُوفُونَ بِما فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قالَهُ قَتادَةُ. ومَعْنى "النَّذْرِ" في اللُّغَةِ: الإيجابُ. فالمَعْنى: يُوفُونَ بِالواجِبِ عَلَيْهِمْ ﴿وَيَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فاشِيًا. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فاشِيًا مُنْتَشِرًا. يُقالُ: اسْتَطارَ الحَرِيقُ: إذا انْتَشَرَ، واسْتَطارَ الفَجْرُ إذا انْتَشَرَ الضَّوْءُ. وانْشُدُوا لِلْأعْشى:
؎ فَبانَتْ وقَدْ أسْأرَتْ في الفُؤا دِ صَدْعًا عَلى نَأْيِها مُسْتَطِيرًا
(p-٤٣٢)وَقالَ مُقاتِلٌ: كانَ شَرُّهُ فاشِيًا في السَّمَواتِ، فانْشَقَّتْ، وتَناثَرَتِ الكَواكِبُ، وفَزِعَتِ المَلائِكَةُ، وكُوِّرَتِ الشَّمْسُ والقَمَرُ في الأرْضِ، ونُسِفَتِ الجِبالُ، وغارَتِ المِياهُ، وتَكَسَّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَلى وجْهِ الأرْضِ مِن جَبَلِ، وبِناءٍ، وفَشا شَرُّ يَوْمِ القِيامَةِ فِيها.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ﴾ اخْتَلَفُوا فِيمَن نَزَلَتْ عَلى قَوْلَيْنِ.
أحَدُهُما: نَزَلَتْ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ. آجَرَ نَفْسَهُ لِيَسْقِيَ نَخْلًا بِشَيْءٍ مِن شَعِيرٍ لَيْلَةً حَتّى أصْبَحَ. فَلَمّا قَبَضَ الشَّعِيرَ طَحَنَ ثُلُثَهُ، وأصْلَحُوا مِنهُ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ، فَلَمّا اسْتَوى أتى مِسْكِينٌ، فَأخْرَجُوهُ إلَيْهِ، ثُمَّ عَمِلَ الثُّلُثَ الثّانِيَ، فَلَمّا تَمَّ أتى يَتِيمٌ، فَأطْعَمُوهُ، ثُمَّ عَمِلَ الثُّلُثَ الباقِيَ، فَلَمّا اسْتَوى جاءَ أسِيرٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأطْعَمُوهُ وطَوَوْا يَوْمَهم ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ، رَواهُ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
والثّانِي: أنَّها نَزَلَتْ في أبِي الدَّحْداحِ الأنْصارِيِّ صامَ يَوْمًا، فَلَمّا أرادَ أنْ يُفْطِرَ جاءَ مِسْكِينٌ، ويَتِيمٌ، وأسِيرٌ، فَأطْعَمَهم ثَلاثَةَ أرْغِفَةٍ، وبَقِيَ لَهُ ولِأهْلِهِ رَغِيفٌ واحِدٌ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَهُ مُقاتِلٌ.
(p-٤٣٣)وَفِي هاءِ الكِنايَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلى حُبِّهِ﴾ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: تَرْجِعُ إلى الطَّعامِ، فَكَأنَّهم كانُوا يُؤْثِرُونَ وهم مُحْتاجُونَ إلَيْهِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، والزَّجّاجِ، والجُمْهُورِ.
والثّانِي: تَرْجِعُ إلى اللَّهِ تَعالى، قالَهُ الدّارانِيُّ. وقَدْ سَبَقَ مَعْنى "المِسْكِينِ واليَتِيمِ" [البَقَرَةِ: ٨٣] . وفي الأسِيرِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهُ المَسْجُونُ مِن أهْلِ القِبْلَةِ، قالَهُ عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ. والثّانِي: أنَّهُ الأسِيرُ المُشْرِكُ، قالَهُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ. والثّالِثُ: المَرْأةُ، قالَهُ (p-٤٣٤)أبُو حَمْزَةَ الثَّمالِيُّ. والرّابِعُ: العَبْدُ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ.
* فَصْلٌ
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ الآيَةَ تَضَمَّنَتْ مَدْحَهم عَلى إطْعامِ الأسِيرِ المُشْرِكِ. قالَ: وهَذا مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. ولَيْسَ هَذا القَوْلُ بِشَيْءٍ، فَإنَّ في إطْعامِ الأسِيرِ المُشْرِكِ ثَوابًا، وهَذا مَحْمُولٌ عَلى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. فَأمّا الفَرْضُ فَلا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلى الكُفّارِ، ذَكَرَهُ القاضِي أبُو يَعْلى.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ أيْ: لِطَلَبِ ثَوابِ اللَّهِ. قالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ: أما إنَّهم ما تَكَلَّمُوا بِهَذا، ولَكِنْ عَلِمَهُ اللَّهُ مِن قُلُوبِهِمْ، فَأثْنى بِهِ عَلَيْهِمْ لِيَرْغَبَ في ذَلِكَ راغِبٌ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً﴾ أيْ: بِالفِعْلِ ﴿وَلا شُكُورًا﴾ بِالقَوْلِ ﴿إنّا نَخافُ مِن رَبِّنا يَوْمًا﴾ أيْ: ما في يَوْمٍ ﴿عَبُوسًا﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ: تَعْبَسُ فِيهِ الوُجُوهُ، فَجَعَلَهُ مِن صِفَةِ اليَوْمِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي يَوْمٍ عاصِفٍ﴾ [إبْراهِيمَ: ١٨]، أرادَ عاصِفِ الرِّيحِ. فَأمّا "القَمْطَرِيرُ" فَرَوى ابْنُ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ الطَّوِيلُ. ورَوى عَنْهُ العَوْفِيُّ أنَّهُ قالَ: هو الَّذِي يَقْبِضُ فِيهِ الرَّجُلُ ما بَيْنَ عَيْنَيْهِ. فَعَلى هَذا يَكُونُ اليَوْمُ مَوْصُوفًا بِما يَجْرِي فِيهِ، كَما قُلْنا في "العَبُوسِ" لِأنَّ اليَوْمَ لا يُوصَفُ بِتَقْبِيضِ ما بَيْنَ العَيْنَيْنِ. وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: (p-٤٣٥)"القَمْطَرِيرُ" الَّذِي يُقَلِّصُ الوُجُوهَ، ويَقْبِضُ الحَياةَ، وما بَيْنَ الأعْيُنِ مِن شِدَّتِهِ. وقالَ الفَرّاءُ: هو الشَّدِيدُ. يُقالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ، ويَوْمٌ قُماطِرُ. وأنْشَدَنِي بَعْضُهُمْ:
؎ بَنِي عَمِّنا هَلْ تَذْكُرُونَ بَلاءَنا ∗∗∗ عَلَيْكم إذا ما كانَ يَوْمٌ قُماطِرُ
وَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: العَبُوسُ، والقَمْطَرِيرُ، والقُماطِرُ، والعَصِيبُ، والعَصَبْصَبُ: أشَدُّ ما يَكُونُ مِنَ الأيّامِ، وأطْوَلُهُ في البَلاءِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ﴾ بِطاعَتِهِمْ في الدُّنْيا ﴿وَلَقّاهم نَضْرَةً﴾ أيْ: حُسْنًا وبَياضًا في الوُجُوهِ ﴿وَسُرُورًا﴾ لا انْقِطاعَ لَهُ. وقالَ الحَسَنُ: النُّضْرَةُ في الوُجُوهِ، والسُّرُورُ في القُلُوبِ ﴿وَجَزاهم بِما صَبَرُوا﴾ عَلى طاعَتِهِ، وعَنْ مَعْصِيَتِهِ ﴿جَنَّةً وحَرِيرًا﴾ وهو لِباسُ أهْلِ الجَنَّةِ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها﴾ قالَ الزَّجّاجُ: هو مَنصُوبٌ عَلى الحالِ، أيْ جَزاهم جَنَّةً في حالِ اتِّكائِهِمْ فِيها.
وَقَدْ شَرَحْنا هَذا في [الكَهْفِ: ٣١] .
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا﴾ فَيُؤْذِيهِمْ حَرُّها ولا ﴿زَمْهَرِيرًا﴾ وهو البَرْدُ الشَّدِيدُ. والمَعْنى: لا يَجِدُونَ فِيها الحَرَّ والبَرْدَ. وحُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ أنَّهُ قالَ: الزَّمْهَرِيرُ: القَمَرُ، وأنْشَدَ:
؎ ولَيْلَةٍ ظَلامُها قَدِ اعْتَكَرْ ∗∗∗ قَطَعْتُها والزَّمْهَرِيرُ ما زَهَرْ
أيْ: لَمْ يَطْلُعِ القَمَرُ.
(p-٤٣٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَدانِيَةً﴾ قالَ الفَرّاءُ: المَعْنى: وجَزاهم جَنَّةً، ﴿وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها﴾، أيْ: قَرِيبَةً مِنهم ظِلالُ أشْجارِها ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إذا هَمَّ أنْ يَتَناوَلَ مِن ثِمارِها تَدَلَّتْ إلَيْهِ حَتّى يَتَناوَلَ ما يُرِيدُ. وقالَ غَيْرُهُ: قُرِّبَتْ إلَيْهِمْ مُذَلَّلَةً كَيْفَ شاؤُوا، فَهم يَتَناوَلُونَها قِيامًا، وقُعُودًا، ومُضْطَجِعِينَ، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى:﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ [الحاقَّةِ: ٢٣] . فَأمّا "الأكْوابُ" فَقَدْ شَرَحْناها في [الزُّخْرُفِ: ٧١] ﴿كانَتْ قَوارِيرا﴾ أيْ: تِلْكَ الأكْوابُ هي قَوارِيرُ، ولَكِنَّها مِن فِضَّةٍ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَوْ ضَرَبْتَ فِضَّةَ الدُّنْيا حَتّى جَعَلْتَها مِثْلَ جَناحِ الذُّبابِ، لَمْ يُرَ الماءُ مِن ورائِها، وقَوارِيرُ الجَنَّةِ مِن فِضَّةٍ في صَفاءِ القارُورَةِ. وقالَ الفَرّاءُ: وابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذا عَلى التَّشْبِيهِ، المَعْنى: كَأنَّها مِن فِضَّةٍ، أيْ: لَها بَياضٌ كَبَياضِ الفِضَّةِ وصَفاءٌ كَصَفاءِ القَوارِيرِ. وكانَ نافِعٌ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ يَقْرَؤُونَ "قَوارِيرًا قَوارِيرًا" فَيَصِلُونَهُما جَمِيعًا بِالتَّنْوِينِ. ويَقِفُونَ عَلَيْهِما بِالألِفِ. وكانَ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ يَصِلانِهِما جَمِيعًا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، ويَقِفانِ عَلَيْهِما بِغَيْرِ ألِفٍ. وكانَ ابْنُ كَثِيرٍ يَصِلُ الأوَّلَ بِالتَّنْوِينِ، ويَقِفُ عَلَيْهِ بِالألْفِ، ويَصِلُ الثّانِي بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، ويَقِفُ بِغَيْرِ ألِفٍ. ورَوى حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ "سَلاسِلَ" و"قَوارِيرَ قَوارِيرَ" يَصِلُ الثَّلاثَةَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، ويَقِفُ عَلى الثَّلاثَةِ بِالألِفِ. وكانَ أبُو عَمْرٍو يَقْرَأُ الأوَّلَ "قَوارِيرا" فَيَقِفُ عَلَيْهِ بِالألْفِ، ويَصِلُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وقالَ الزَّجّاجُ: الِاخْتِيارُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أنْ لا يُصْرَفَ "قَوارِيرَ" لِأنَّ كُلَّ جَمْعٍ يَأْتِي بَعْدَ ألِفِهِ حَرْفانِ لا يَنْصَرِفُ. ومَن قَرَأ "قَوارِيرًا" يَصْرِفُ الأوَّلَ عَلّامَةَ رَأْسِ آيَةٍ، وتَرَكَ صَرْفَ الثّانِي لِأنَّهُ لَيْسَ بِآخِرِ آيَةٍ. ومَن صَرَفَ الثّانِيَ: أتْبَعَ اللَّفْظَ اللَّفْظَ، لِأنَّ العَرَبَ رُبَّما قَلَبَتْ إعْرابَ (p-٤٣٧)الشَّيْءِ لِتُتْبِعَ اللَّفْظَ اللَّفْظَ، كَما قالُوا: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. وإنَّما الخَرِبُ مِن نَعْتِ الجُحْرِ.
قَوْلُهُ تَعالى ﴿قَدَّرُوها تَقْدِيرًا﴾ وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وأبُو عِمْرانَ، والجَحْدَرِيُّ، وابْنُ يَعْمَرَ "قُدِّرُوها" بِرَفْعِ القافِ، وكَسْرِ الدّالِ، وتَشْدِيدِها. وقَرَأ حُمَيْدٌ، وعَمْرُو بْنُ دِينارٍ ﴿قَدَّرُوها﴾ بِفَتْحِ القافِ، والدّالِ، وتَخْفِيفِها.
ثُمَّ في مَعْنى الآيَةِ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: قَدَّرُوها في أنْفُسِهِمْ، فَجاءَتْ عَلى ما قَدَّرُوا، قالَهُ الحَسَنُ. وقالَ الزَّجّاجُ: جُعِلَ الإناءُ عَلى قَدْرِ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ ويُرِيدُونَهُ عَلى تَقْدِيرِهِمْ.
والثّانِي: قَدَّرُوها عَلى مِقْدارٍ لا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ، قالَهُ مُجاهِدٌ. وقالَ غَيْرُهُ: قُدِّرَ الكَأْسُ عَلى قَدْرِ رِيِّهِمْ، لا يَزِيدُ عَنْ رِيِّهِمْ فَيُثْقِلُ الكَفَّ، ولا يَنْقُصُ مِنهُ فَيَطْلُبُ الزِّيادَةَ، وهَذا ألَذُّ الشَّرابِ. فَعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ الضَّمِيرُ في "قَدَّرُوا" لِلسُّقاةِ والخَدَمِ. وعَلى الأوَّلِ لِلشّارِبِينَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيها﴾ يَعْنِي في الجَنَّةِ ﴿كَأْسًا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلا﴾ والعَرَبُ تَضْرِبُ المَثَلَ بِالزَّنْجَبِيلِ والخَمْرِ مَمْزُوجَيْنِ. قالَ المُسَيَّبُ بْنُ عَلَسٍ يَصِفُ فَمَ امْرَأةٍ:
؎ فَكَأنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيلِ بِهِ ∗∗∗ إذْ ذُقْتَهُ وسُلافَةُ الخَمْرِ
(p-٤٣٨)وَقالَ آخَرُ:
؎ كَأنَّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِي ∗∗∗ لـَ باتا بِفِيها وأرْيًا مُشارا
الأرْيُ: العَسَلُ. والمُشارُ: المُسْتَخْرَجُ مِن بُيُوتِ النَّحْلِ. قالَ مُجاهِدٌ: والزَّنْجَبِيلُ: اسْمُ العَيْنِ الَّتِي مِنها شَرابُ الأبْرارِ. وقَرَأْتُ عَلى شَيْخِنا أبِي مَنصُورٍ اللُّغَوِيِّ قالَ: الزَّنْجَبِيلُ مُعَرَّبٌ. وقالَ الدَّيْنُورِيُّ: يَنْبُتُ في أرْيافِ عَمّانَ، وهي عُرُوقٌ تَسْرِي في الأرْضِ، ولَيْسَ بِشَجَرَةٍ تُؤْكَلُ رُطَبًا، وأجْوَدُ ما يُحْمَلُ مِن بِلادِ الصِّينِ. قالَ الزَّجّاجُ: وجائِزٌ أنْ يَكُونَ فِيها طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ، والكَلامُ فِيهِ كالكَلامِ السّابِقِ في الكافُورِ. وقِيلَ: شَرابُ الجَنَّةِ عَلى بَرْدِ الكافُورِ، وطَعْمِ الزَّنْجَبِيلِ، ورِيحِ المِسْكِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَيْنًا فِيها﴾ قالَ الزَّجّاجُ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا. وسَلْسَبِيلٌ: اسْمُ العَيْنِ، إلّا أنَّهُ صُرِفَ لِأنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ. وهو في اللُّغَةِ: صِفَةٌ لِما كانَ في غايَةِ السَّلاسَةِ. فَكَأنَّ العَيْنَ وُصِفَتْ وسُمِّيَتْ بِصِفَتِها. وقَرَأْتُ عَلى شَيْخِنا أبِي مَنصُورٍ اللُّغَوِيِّ قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُسَمّى سَلْسَبِيلا﴾ قِيلَ: هو اسْمٌ أعْجَمِيٌّ نَكِرَةٌ، فَلِذَلِكَ انْصَرَفَ. وقِيلَ: هو اسْمٌ مَعْرِفَةٌ، إلّا أنَّهُ أُجْرِيَ، لِأنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ. وعَنْ مُجاهِدٍ قالَ: حَدِيدَةُ الجَرْيَةِ. وقِيلَ: سَلْسَبِيلٌ: سَلِسٌ ماؤُها، مُسْتَقِيدٌ لَهم. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: السَّلْسَبِيلُ صِفَةٌ لِلْماءِ، لِسَلَسِهِ وسُهُولَةِ مَدْخَلِهِ في الحَلْقِ. يُقالُ: شَرابٌ سَلْسَلٌ، وسَلْسالٌ، وسَلْسَبِيلٌ. وحَكى الماوَرْدِيُّ: أنَّ عَلِيًّا قالَ: المَعْنى: سَلْ سَبِيلًا إلَيْها، ولا يَصِحُّ.
(p-٤٣٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ قَدْ سَبَقَ بَيانُهُ [الواقِعَةِ: ١٧] ﴿إذا رَأيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤًا مَنثُورًا﴾ أيْ: في بَياضِ اللُّؤْلُؤِ وحُسْنِهِ، واللُّؤْلُؤُ إذا نُثِرَ مِنَ الخَيْطِ عَلى البِساطِ كانَ أحْسَنَ مِنهُ مَنظَرًا. وإنَّما شُبِّهُوا بِاللُّؤْلُؤِ المَنثُورِ، لِانْتِشارِهِمْ في الخِدْمَةِ. ولَوْ كانُوا صَفًّا لَشَبَّهُوهُ بِالمَنظُومِ. ﴿وَإذا رَأيْتَ ثَمَّ﴾ يَعْنِي: الجَنَّةَ ﴿رَأيْتَ نَعِيمًا﴾ لا يُوصَفُ ﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ أيْ: عَظِيمًا واسِعًا لا يُرِيدُونَ شَيْئًا إلّا قَدَرُوا عَلَيْهِ، ولا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مَلَكٌ إلّا بِاسْتِئْذانٍ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عالِيَهُمْ﴾ قَرَأ أهْلُ المَدِينَةِ، وحَمْزَةُ، والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ بِإسْكانِ الياءِ، وكَسْرِ الهاءِ. وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ الياءِ، إلّا أنَّ الجُعْفِيَّ عَنْ أبِي بَكْرٍ قَرَأ "عالِيَتُهُمْ" بِزِيادَةِ تاءٍ مَضْمُومَةٍ. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ "عَلَيْهِمْ" بِفَتْحِ اللّامِ، وإسْكانِ الياءِ مِن غَيْرِ تاءٍ، ولا ألِفٍ.
قالَ الزَّجّاجُ: فَأمّا تَفْسِيرُ إعْرابِ "عالِيهِمْ" بِإسْكانِ الياءِ، فَيَكُونُ رَفْعُهُ بِالِابْتِداءِ، ويَكُونُ الخَبَرُ"ثِيابُ سُنْدُسٍ" وأمّا "عالِيَهُمْ" بِفَتْحِ الياءِ، فَنَصْبُهُ عَلى الحالِ مِن شَيْئَيْنِ، أحَدُهُما: مِنَ الهاءِ والمِيمِ، والمَعْنى: يَطُوفُ عَلى الأبْرارِ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ عالِيًا لِلْأبْرارِ ثِيابُ سُنْدُسٍ، لِأنَّهُ وصَفَ أحْوالَهم في الجَنَّةِ، فَيَكُونُ المَعْنى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ في هَذِهِ الحالِ هَؤُلاءِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الوِلْدانِ. المَعْنى: إذا رَأيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤًا مَنثُورًا في حالِ عُلُوِّ الثِّيابِ. وأمّا "عالِيَتُهُمْ" فَقَدْ قُرِئَتْ بِالرَّفْعِ وبِالنَّصْبِ، وهُما وجْهانِ جَيِّدانِ في العَرَبِيَّةِ، إلّا أنَّهُما يُخالِفانِ المُصْحَفَ، فَلا أرى القِراءَةَ بِهِما، وتَفْسِيرُها كَتَفْسِيرِ ﴿ "عالِيَهُمْ" .﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثِيابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ﴾ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو "خُضْرٌ" رَفْعًا "وَإسْتَبْرَقٍ" خَفْضًا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ "خُضْرٍ" (p-٤٤٠)خَفْضًا "وَإسْتَبْرَقٌ" رَفْعًا. وقَرَأ نافِعٌ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ "خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ" كِلاهُما بِالرَّفْعِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ "خُضَرٍ وإسْتَبْرَقٍ" كِلاهُما بِالخَفْضِ. قالَ الزَّجّاجُ: مَن قَرَأ "خُضْرٌ" بِالرَّفْعِ، فَهو نَعْتُ الثِّيابِ، ولَفْظُ الثِّيابِ لَفْظُ الجَمْعِ، ومَن قَرَأ "خُضْرٍ" فَهو مِن نَعْتِ السُّنْدُسِ، والسُّنْدُسُ في المَعْنى راجِعٌ إلى الثِّيابِ. ومَن قَرَأ "وَإسْتَبْرَقٌ" فَهو نَسَقٌ عَلى "ثِيابٍ" المَعْنى: وعَلَيْهِمْ إسْتَبْرَقٌ. ومَن خَفَضَ، عَطَفَهُ عَلى السُّنْدُسِ، فَيَكُونُ المَعْنى: عَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِن هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. وقَدْ بَيَّنّا في [الكَهْفِ ٣١] مَعْنى السُّنْدُسِ، والإسْتَبْرَقِ، والأساوِرِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ فِيهِ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: لا يُحْدِثُونَ ولا يَبُولُونَ عَنْ شُرْبِ خَمْرِ الجَنَّةِ، قالَهُ عَطِيَّةُ.
والثّانِي: لِأنَّ خَمْرَ الجَنَّةِ طاهِرَةٌ، ولَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ كَخَمْرِ الدُّنْيا، قالَهُ الفَرّاءُ. وقالَ أبُو قُلابَةَ: يُؤْتَوْنَ بَعْدَ الطَّعامِ بِالشَّرابِ الطَّهُورِ فَيَشْرَبُونَ فَتَضْمُرُ بِذَلِكَ بُطُونُهُمْ، ويَفِيضُ مِن جُلُودِهِمْ عَرَقٌ مِثْلُ رِيحِ المِسْكِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا﴾ يَعْنِي: ما وصَفَ مِن نَعِيمِ الجَنَّةِ "كانَ لَكم جَزاءً" بِأعْمالِكم "وَكانَ سَعْيُكُمْ" أيْ: عَمَلُكم في الدُّنْيا بِطاعَتِهِ "مَشْكُورًا" قالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ: شَكَرْتُكم عَلَيْهِ، وأُثِيبُكم أفْضَلَ الثَّوابِ ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ تَنْزِيلا﴾ أيْ: فَصَّلْناهُ في الإنْزالِ، فَلَمْ نُنْزِلْهُ جُمْلَةً واحِدَةً ﴿فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ وقَدْ سَبَقَ بَيانُهُ في مَواضِعَ [الطَّوْرِ: ٤٨،والقَلَمِ: ٤٨] . والمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: هَذا مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، ولا يَصِحُّ، ﴿وَلا تُطِعْ مِنهُمْ﴾ أيْ: مِن مُشْرِكِي أهْلِ مَكَّةَ ﴿آثِمًا أوْ كَفُورًا﴾ "أوْ" بِمَعْنى الواوِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوِ الحَوايا﴾ [الأنْعامِ: ١٤٦] . وقَدْ سَبَقَ هَذا. ولِلْمُفَسِّرِينَ في المُرادِ بِالآثِمِ والكَفُورِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
(p-٤٤١)أحَدُها: أنَّهُما صِفَتانِ لِأبِي جَهْلٍ. والثّانِي: أنَّ الآثِمَ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، والكَفُورُ: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ. والثّالِثُ: الآثِمُ: الوَلِيدُ. والكَفُورُ: عُتْبَةُ، وذَلِكَ أنَّهُما قالا لَهُ: ارْجِعْ عَنْ هَذا الأمْرِ ونَحْنُ نُرْضِيكَ بِالمالِ والتَّزْوِيجِ.
"واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ" أيِ: اذْكُرْهُ بِالتَّوْحِيدِ في الصَّلاةِ "بُكْرَةً" يَعْنِي: الفَجْرَ "وَأصِيلًا" يَعْنِي: العَصْرَ. وبَعْضُهم يَقُولُ: صَلاةُ الظُّهْرِ والعَصْرِ ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فاسْجُدْ لَهُ﴾ يَعْنِي: المَغْرِبَ والعَشاءَ. ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا﴾ وهِيَ: صَلاةُ اللَّيْلِ، كانَتْ فَرِيضَةً عَلَيْهِ، وهي لِأُمَّتِهِ تَطَوُّعٌ "إنَّ هَؤُلاءِ" يَعْنِي: كُفّارَ مَكَّةَ ﴿يُحِبُّونَ العاجِلَةَ﴾ أيِ: الدّارَ العاجِلَةَ، وهي الدُّنْيا ﴿وَيَذَرُونَ وراءَهُمْ﴾ أيْ: أمامَهم ﴿يَوْمًا ثَقِيلا﴾ أيْ: عَسِيرًا شَدِيدًا. والمَعْنى: أنَّهم يَتْرُكُونَ الإيمانَ بِهِ، والعَمَلَ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ قُدْرَتَهُ، فَقالَ تَعالى: ﴿نَحْنُ خَلَقْناهم وشَدَدْنا أسْرَهُمْ﴾ أيْ: خَلْقَهُمْ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ، والزَّجّاجُ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: امْرَأةٌ حَسَنَةُ الأسْرِ، أيْ: حَسَنَةُ الخَلْقِ، كَأنَّها أُسِرَتْ، أيْ: شُدَّتْ. وأصْلُ هَذا مِنَ الإسارِ، وهُوَ: القَدُّ. [الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الأقْتابُ] يُقالُ: ما أحْسَنَ ما أسَرَ قَتَبَهُ، أيْ: ما أحْسَنَ ما شَدَّهُ [بِالقَدِّ] . ورُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: مَفاصِلُهم. وعَنِ الحَسَنِ قالَ: أوْصالُهم بَعْضُها إلى بَعْضٍ بِالعُرُوقِ والعَصَبِ "وَإذا شِئْنا بَدَّلْنا أمْثالَهُمْ" أيْ: إنْ شِئْنا أهْلَكْناهم وأتَيْنا بِأشْباهِهِمْ، فَجَعَلْناهم بَدَلًا مِنهم ﴿إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ قَدْ شَرَحْنا الآيَةَ في [المُزَّمِّلِ: ١٩] .
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما تَشاءُونَ﴾ إيجادَ السَّبِيلِ ﴿إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ ذَلِكَ لَكم. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، "وَما يَشاؤُونَ" بِالياءِ.
(p-٤٤٢)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُدْخِلُ مَن يَشاءُ في رَحْمَتِهِ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: الرَّحْمَةُ ها هُنا: الجَنَّةُ ﴿والظّالِمِينَ﴾ المُشْرِكُونَ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: نَصْبُ "الظّالِمِينَ" بِالجِوارِ. المَعْنى: ولا يُدْخِلُ الظّالِمِينَ في رَحْمَتِهِ. وقالَ الزَّجّاجُ: إنَّما نُصِبَ "الظّالِمِينَ" لِأنَّ قَبْلَهُ مَنصُوبًا. المَعْنى: يُدْخِلُ مَن يَشاءُ في رَحْمَتِهِ، ويُعَذِّبُ الظّالِمِينَ، ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أعَدَّ لَهُمْ﴾ تَفْسِيرًا لِهَذا المُضْمَرِ، وقَرَأ أبُو العالِيَةِ، وأبُو الجَوْزاءِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ "والظّالِمُونَ" رَفْعًا.
{"ayahs_start":4,"ayahs":["إِنَّاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ سَلَـٰسِلَا۟ وَأَغۡلَـٰلࣰا وَسَعِیرًا","إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ یَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسࣲ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا","عَیۡنࣰا یَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ یُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِیرࣰا","یُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ وَیَخَافُونَ یَوۡمࣰا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِیرࣰا","وَیُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِینࣰا وَیَتِیمࣰا وَأَسِیرًا","إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِیدُ مِنكُمۡ جَزَاۤءࣰ وَلَا شُكُورًا","إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا یَوۡمًا عَبُوسࣰا قَمۡطَرِیرࣰا","فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَ ٰلِكَ ٱلۡیَوۡمِ وَلَقَّىٰهُمۡ نَضۡرَةࣰ وَسُرُورࣰا","وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُوا۟ جَنَّةࣰ وَحَرِیرࣰا","مُّتَّكِـِٔینَ فِیهَا عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِۖ لَا یَرَوۡنَ فِیهَا شَمۡسࣰا وَلَا زَمۡهَرِیرࣰا","وَدَانِیَةً عَلَیۡهِمۡ ظِلَـٰلُهَا وَذُلِّلَتۡ قُطُوفُهَا تَذۡلِیلࣰا","وَیُطَافُ عَلَیۡهِم بِـَٔانِیَةࣲ مِّن فِضَّةࣲ وَأَكۡوَابࣲ كَانَتۡ قَوَارِیرَا۠","قَوَارِیرَا۟ مِن فِضَّةࣲ قَدَّرُوهَا تَقۡدِیرࣰا","وَیُسۡقَوۡنَ فِیهَا كَأۡسࣰا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِیلًا","عَیۡنࣰا فِیهَا تُسَمَّىٰ سَلۡسَبِیلࣰا","۞ وَیَطُوفُ عَلَیۡهِمۡ وِلۡدَ ٰنࣱ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَیۡتَهُمۡ حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤࣰا مَّنثُورࣰا","وَإِذَا رَأَیۡتَ ثَمَّ رَأَیۡتَ نَعِیمࣰا وَمُلۡكࣰا كَبِیرًا","عَـٰلِیَهُمۡ ثِیَابُ سُندُسٍ خُضۡرࣱ وَإِسۡتَبۡرَقࣱۖ وَحُلُّوۤا۟ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةࣲ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابࣰا طَهُورًا","إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمۡ جَزَاۤءࣰ وَكَانَ سَعۡیُكُم مَّشۡكُورًا","إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ تَنزِیلࣰا","فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورࣰا","وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلࣰا","وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ لَیۡلࣰا طَوِیلًا","إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ یُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ وَیَذَرُونَ وَرَاۤءَهُمۡ یَوۡمࣰا ثَقِیلࣰا","نَّحۡنُ خَلَقۡنَـٰهُمۡ وَشَدَدۡنَاۤ أَسۡرَهُمۡۖ وَإِذَا شِئۡنَا بَدَّلۡنَاۤ أَمۡثَـٰلَهُمۡ تَبۡدِیلًا","إِنَّ هَـٰذِهِۦ تَذۡكِرَةࣱۖ فَمَن شَاۤءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِیلࣰا","وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمࣰا","یُدۡخِلُ مَن یَشَاۤءُ فِی رَحۡمَتِهِۦۚ وَٱلظَّـٰلِمِینَ أَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمَۢا"],"ayah":"وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ لَیۡلࣰا طَوِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق