الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الإنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ قالَ مُقاتِلٌ: عَنى بِهِ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ الجُمَحِيَّ. وفي الهَلُوعِ سَبْعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ المَوْصُوفُ بِما يَلِي هَذِهِ الآيَةَ، رَواهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والزَّجّاجُ. والثّانِي: أنَّهُ الحَرِيصُ عَلى ما لا يَحِلُّ لَهُ، رَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: البَخِيلُ، قالَهُ الحَسَنُ، والضَّحّاكُ. والرّابِعُ: الشَّحِيحُ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. والخامِسُ: الشَّرِهُ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والسّادِسُ: الضَّجُورُ، قالَهُ عِكْرَمَةُ، وقَتادَةُ، ومُقاتِلٌ، والفَرّاءُ. والسّابِعُ: الشَّدِيدُ الجَزِعُ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ أيْ: أصابَهُ الفَقْرُ "جَزُوعًا" لا يَصْبِرُ، ولا يَحْتَسِبُ "وَإذا مَسَّهُ الخَيْرُ" أصابَهُ المالُ "مَنُوعًا" بِمَنعِهِ مِن حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ "إلّا المُصَلِّينَ" وهم أهْلُ الإيمانِ بِاللَّهِ. وإنَّما اسْتَثْنى الجَمْعَ مِنَ الإنْسانِ، لِأنَّهُ اسْمُ جِنْسِ "الَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ" وفِيهِمْ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُمُ الَّذِينَ يُحافِظُونَ عَلى المَكْتُوباتِ، وهو مَعْنى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. والثّانِي: أنَّهم لا يَلْتَفِتُونَ عَنْ أيْمانِهِمْ وشَمائِلِهِمْ في الصَّلاةِ، قالَهُ عُقْبَةُ بْنُ عامِرٍ، واخْتارَهُ الزَّجّاجُ. قالَ: ويَكُونُ اشْتِقاقُهُ مِنَ الدّائِمِ، وهو السّاكِنُ، كَما جاءَ (p-٣٦٤)فِي الحَدِيثِ «أنَّهُ نَهى عَنِ البَوْلِ في الماءِ الدّائِمِ.» والثّالِثُ: أنَّهُمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ فِعْلَ التَّطَوُّعِ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. ﴿والَّذِينَ في أمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ قَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الآيَةِ والَّتِي بَعْدَها في [الذّارِياتِ: ١٩] وبَيَّنّا مَعْنى "يَوْمَ الدِّينِ" في "الفاتِحَةِ" . وما بَعْدَ هَذا قَدْ شَرَحْناهُ في [المُؤْمِنِينَ: ٧ ٨] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لأماناتِهِمْ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ: "لِأمانَتِهِمْ"، ﴿والَّذِينَ هم بِشَهاداتِهِمْ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: "بِشَهادَتِهِمْ" عَلى التَّوْحِيدِ. وقَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: "بِشَهاداتِهِمْ" جَمْعًا ﴿قائِمُونَ﴾ أيْ: يَقُومُونَ فِيها بِالحَقِّ ولا يَكْتُمُونَها ﴿فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾ نَزَلَتْ في جَماعَةٍ مِنَ الكُفّارِ جَلَسُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَسْتَهْزِؤُونَ بِالقُرْآنِ، ويُكَذِّبُونَ بِهِ. قالَ الزَّجّاجُ: والمُهْطِعُ: المُقْبِلُ بِبَصَرِهِ عَلى الشَّيْءِ لا يُزايِلُهُ، وكانُوا يَنْظُرُونَ إلى النَّبِيِّ نَظَرَ عَداوَةٍ. وقَدْ سَبَقَ الخِلافُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مُهْطِعِينَ﴾ [إبْراهِيمَ: ٤٣،والقَمَرِ: ٨] . قَوْلُهُ: ﴿عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ﴾ . قالَ الفَرّاءُ: العِزُونَ: الحِلَقُ، الجَماعاتُ، واحِدَتُها: عِزَةٌ، وكانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فَيَقُولُونَ: إنْ دَخَلَ هَؤُلاءِ الجَنَّةَ، كَما يَقُولُ مُحَمَّدٌ ﷺ فَلَنَدْخُلَنَّها قَبْلَهُمْ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنهم أنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، والأعْمَشُ، والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ "أنْ يَدْخُلَ" بِفَتْحِ الياءِ، وضَمِّ الخاءِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: عِزِينَ جَمْعُ عِزَةٍ، مِثْلُ ثُبَةٍ، وثُبِينَ، فَهي (p-٣٦٥)جَماعاتٌ في تَفْرِقَةٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلا﴾ أيْ: لا يَكُونُ ذَلِكَ ﴿إنّا خَلَقْناهم مِمّا يَعْلَمُونَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: مِن نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ، فالمَعْنى: لا يَسْتَوْجِبُ الجَنَّةَ أحَدٌ بِما يَدَّعِيهِ مِنَ الشَّرَفِ عَلى غَيْرِهِ، إذِ الأصْلُ واحِدٌ، وإنَّما يَسْتَوْجِبُها بِالطّاعَةِ. والثّانِي: إنّا خَلَقْناهم مِن أقْذارٍ. فَبِماذا يَسْتَحِقُّونَ الجَنَّةَ ولَمْ يُؤْمِنُوا؟! وقَدْ رَوى بِشْرُ بْنُ جِحاشٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ ﴿إنّا خَلَقْناهم مِمّا يَعْلَمُونَ﴾ ثُمَّ بَزَقَ، قالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: أنّى تُعْجِزُنِي، وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن مِثْلِ هَذِهِ؟! حَتّى إذا سَوَّيْتُكَ، وعَدَّلْتُكَ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ، ولِلْأرْضِ مِنكَ (p-٣٦٦)وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ، ومَنَعْتَ، حَتّى إذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ قُلْتَ: أتَصَدَّقُ، وأنّى أوانُ الصَّدَقَةِ؟! .» قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ قَدْ تَكَلَّمْنا عَلَيْهِ في [الحاقَّةِ: ٣٨] والمُرادُ بِالمَشارِقِ، والمَغارِبِ: شَرْقُ كُلِّ يَوْمٍ ومَغْرِبُهُ "إنّا لَقادِرُونَ عَلى أنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنهُمْ" أيْ: نَخْلُقُ أمْثَلَ مِنهُمْ، وأطْوَعَ لِلَّهِ حِينَ عَصَوْا ﴿وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ مُفَسَّرٌ في [الواقِعَةِ: ٦٠] ﴿فَذَرْهم يَخُوضُوا﴾ في باطِلِهِمْ ﴿وَيَلْعَبُوا﴾ أيْ: يَلْهُوا في دُنْياهم ﴿حَتّى يُلاقُوا﴾ وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ "يَلْقَوْا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ" وهو يَوْمُ القِيامَةِ. وهَذا لَفْظُ أمْرٍ، مَعْناهُ الوَعِيدِ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّهُ مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وإذا قُلْنا: إنَّهُ وعِيدٌ بِلِقاءِ يَوْمِ القِيامَةِ، فَلا وجْهَ لِلنَّسْخِ ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْداثِ سِراعًا﴾ أيْ: يَخْرُجُونَ بِسُرْعَةٍ كَأنَّهم يَسْتَبِقُونَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنَّهم إلى نُصُبٍ﴾ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِضَمِّ النُّونِ والصّادِ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وهو واحِدُ الأنْصابِ، وهي آلِهَتُهُمُ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها. فَعَلى هَذا يَكُونُ المَعْنى: كَأنَّهم إلى آلِهَتِهِمُ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها يُسْرِعُونَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ الصّادِ، وهي في مَعْنى القِراءَةِ الأُولى، إلّا أنَّهُ مَصْدَرٌ. كَقَوْلِ القائِلِ: نَصَبْتُ الشَّيْءَ أنْصِبُهُ نَصْبًا. قالَ قَتادَةُ: مَعْناهُ: كَأنَّهم إلى شَيْءٍ مَنصُوبٍ يُسْرِعُونَ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تَأْوِيلُهُ: كَأنَّهم إلى صَنَمٍ مَنصُوبٍ يُسْرِعُونَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، (p-٣٦٧)وَأبُو مِجْلَزٍ، والنَّخَعِيُّ "نُصْبٍ" بِرَفْعِ النُّونِ، وإسْكانِ الصّادِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو عُثْمانَ النَّهْدَيُّ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ "إلى نَصَبٍ" بِفَتْحِ النُّونِ والصّادِ جَمِيعًا. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: النُّصُبُ: حَجَرٌ يُنْصَبُ أوْ صَنَمٌ، يُقالُ: نَصْبٌ، ونُصْبٌ، ونُصُبٌ. وقالَ الفَرّاءُ: النَّصْبُ والنُّصْبُ واحِدٌ، وهو مَصْدَرٌ، والجَمْعُ: الأنْصابُ. وقالَ الزَّجّاجُ: النَّصْبُ، والنُّصُبُ: العَلَمُ المَنصُوبُ. قالَ الفَرّاءُ: والإيفاضُ: الإسْراعُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَرْهَقُهم ذِلَّةٌ﴾ قَرَأ أبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو الجَوْزاءِ، وعَمْرُو ابْنُ دِينارٍ "ذِلَّةُ ذَلِكَ اليَوْمِ" بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وبِخَفْضِ المِيمِ. وباقِي السُّورَةِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ [المَعارِجِ: ٤٢] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب