الباحث القرآني

(p-٢٧١)سُورَةُ المُنافِقُونَ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإجْماعِهِمْ وَذَكَرَ أهْلُ التَّفْسِيرِ أنَّها نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ونُظَرائِهِ. وكانَ السَّبَبُ «أنَّ عَبْدَ اللَّهِ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ المُنافِقِينَ إلى المُرَيْسِيعِ، وهو ماءٌ لَبَنِي المُصْطَلِقِ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ، لا لِلرَّغْبَةِ في الجِهادِ، لِأنَّ السَّفَرَ قَرِيبٌ. فَلَمّا قَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَزْوَهُ، أقْبَلُ رَجُلٌ مِن جُهَيْنَةَ، يُقالُ لَهُ: سِنانٌ، وهو حَلِيفٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، ورَجُلٌ مِن بَنِي غِفارٍ يُقالُ لَهُ: جَهْجاهُ بْنُ سَعِيدٍ، وهو أجِيرٌ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ لِاسْتِقاءِ الماءِ، فَدارَ بَيْنَهُما كَلامٌ، فَرَفَعَ الغِفارِيُّ يَدَهُ فَلَطَمَ الجُهَنِيَّ، فَأدْماهُ، فَنادى الجُهَنِيُّ: يا آلَ الخَزْرَجِ، فَأقْبَلُوا، ونادى الغِفارِيُّ: يا آلَ قُرَيْشٍ، فَأقْبَلُوا، فَأصْلَحَ الأمْرَ قَوْمٌ مِنَ المُهاجِرِينَ. فَبَلَغَ الخَبَرُ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أُبَيٍّ، فَقالَ وعِنْدَهُ جَماعَةٌ مِنَ المُنافِقِينَ: واللَّهِ ما مَثَلُكم ومَثَلُ هَؤُلاءِ الرَّهْطِ مِن قُرَيْشٍ إلّا مِثْلُ ما قالَ الأوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، ولَكِنَّ هَذا فِعْلُكم بِأنْفُسِكُمْ، آوَيْتُمُوهم في مَنازِلِكُمْ، وأنْفَقْتُمْ عَلَيْهِمْ أمْوالَكُمْ، فَقَوُوا وضَعُفْتُمْ. وايْمُ اللَّهِ: لَوْ أمْسَكْتُمْ أيْدِيَكم لَتَفَرَّقَتْ عَنْ هَذا جُمُوعُهُ، ولَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ، وكانَ في القَوْمِ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ، وهو غُلامٌ يَوْمَئِذٍ لا يَؤُبَهُ لَهُ، فَقالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: أنْتَ واللَّهِ الذَّلِيلُ القَلِيلُ، فَقالَ: إنَّما كُنْتُ ألْعَبُ، فَأقْبَلَ زَيْدٌ بِالخَبَرِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقالَ: إذَنْ تُرْعَدُ لَهُ آنُفٌ كَبِيرَةٌ، قالَ: فَإنْ كَرِهْتَ أنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ، فَمَرَّ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ، أوْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، أوْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ، فَقالَ: إذَنْ يَتَحَدَّثُ (p-٢٧٢)النّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ، فَأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأتاهُ، فَقالَ: أنْتَ صاحِبُ هَذا الكَلامِ؟ فَقالَ: والَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكَ ما قُلْتُ شَيْئًا مِن هَذا، وإنَّ زَيْدًا لَكَذّابٌ، فَقالَ مَن حَضَرَ: لا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ كَلامُ غُلامٍ، عَسى أنْ يَكُونَ قَدْ وهِمَ، فَعَذَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وفَشَتِ المَلامَةُ مِنَ الأنْصارِ لِزَيْدٍ، وكَذَّبُوهُ، وقالَ لَهُ عَمُّهُ: ما أرَدْتَ إلّا أنَّ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُسْلِمُونَ، ومَقَتُوكَ! فاسْتَحْيا زَيْدٌ، وجَلَسَ في بَيْتِهِ. فَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ما كانَ مِن أمْرِ أبِيهِ، فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: بَلَغَنِي أنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، لِما بَلَغَكَ عَنْهُ. فَإنْ كُنْتَ فاعِلًا فَمُرْنِي، فَأنا أحْمِلُ إلَيْكَ رَأْسَهُ، فَإنِّي أخْشى أنْ يَقْتُلَهُ غَيْرِي، فَلا تَدَعُنِي نَفْسِي حَتّى أقْتُلَ قاتِلَهُ، فَأدْخُلُ النّارَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَلْ تُحْسِنُ صُحْبَتَهُ ما بَقِيَ مَعَنا" وأنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ [المُنافِقِينَ] في تَصْدِيقِ زَيْدٍ، وتَكْذِيبِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَرَأها عَلَيْهِ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ. ولَمّا أرادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أنْ يَدْخُلَ المَدِينَةَ جاءَ ابْنُهُ، فَقالَ: ما وراءَكَ، قالَ: مالَكَ ويْلَكَ؟ قالَ: واللَّهِ لا تَدْخُلُها أبَدًا إلّا بِإذْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيُعَلَمَ اليَوْمَ مَنِ الأعَزُّ، ومَنِ الأذَلُّ، فَشَكا عَبْدُ اللَّهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما صَنَعَ، فَأرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ خَلِّ عَنْهُ حَتّى يَدْخُلَ، فَلَمّا نَزَلَتِ السُّورَةُ وبانَ كَذِبُهُ قِيلَ لَهُ: يا أبا حُبابٍ: إنَّهُ قَدْ نَزَلَتْ فِيكَ آياتٌ شِدادٌ، فاذْهَبْ إلى رَسُولِ اللَّهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَكَ، فَلَوى بِهِ رَأْسَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾» وقِيلَ: الَّذِي قالَ لَهُ هَذا (p-٢٧٣)عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ أيْ: ذَلِكَ الكَذِبُ ﴿بِأنَّهم آمَنُوا﴾ بِاللِّسانِ ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ في السِّرِّ ﴿فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهم لا يَفْقَهُونَ﴾ الإيمانَ والقُرْآنَ ﴿وَإذا رَأيْتَهم تُعْجِبُكَ أجْسامُهُمْ﴾ يَعْنِي: أنَّ لَهم أجْسامًا ومَناظِرَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ (p-٢٧٥)عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَسِيمًا فَصِيحًا، ذَلْقَ اللِّسانِ، فَإذا قالَ سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَهُ. وقالَ غَيْرُهُ: المَعْنى: تُصْغِي إلى قَوْلِهِمْ، فَتَحْسَبُ أنَّهُ حَقٌّ ﴿كَأنَّهم خُشُبٌ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: وحَمْزَةُ: ( خُشُبٌ ) بِضَمِّ الخاءِ، والشِّينِ جَمِيعًا، وهو جَمْعُ خَشَبَةٍ. مِثْلُ ثَمَرَةٍ، وثُمُرٌ. وقَرَأ الكِسائِيُّ: بِضَمِّ الخاءِ، وتَسْكِينِ الشِّينِ، مِثْلُ: بَدَنَةٍ، وبُدْنٍ، وأكَمَةٍ، وأُكْمٍ. وعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وأبِي عَمْرٍو، مِثْلُهُ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وعُرْوَةُ، وابْنُ سِيرِينَ: "خَشَبٌ" بِفَتْحِ الخاءِ، والشِّينِ جَمِيعًا. وقَرَأ أبُو نُهَيْكٍ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو عِمْرانَ بِفَتْحِ الخاءِ، وتَسْكِينِ الشِّينِ، فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ بِحُسْنِ الصُّورَةِ، وإبانَةِ المَنطِقِ، ثُمَّ أعْلَمَ أنَّهم في تَرْكِ التَّفَهُّمِ والِاسْتِبْصارِ بِمَنزِلَةِ الخُشُبِ. والمُسَنَّدَةُ: المُمالَةُ إلى الجِدارِ. والمُرادُ: أنَّها لَيْسَتْ بِأشْجارٍ تُثْمِرُ وتُنَمِّي، بَلْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ إلى حائِطٍ. ثُمَّ عابَهم بِالجُبْنِ فَقالَ تَعالى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ: لا يَسْمَعُونَ صَوْتًا إلّا ظَنُّوا أنَّهم قَدْ أُتُوا لِما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ أنْ يَكْشِفَ اللَّهُ أسْرارَهُمْ، وهَذِهِ مُبالَغَةٌ في الجُبْنِ. وأنْشَدُوا في هَذا المَعْنى: ؎ ولَوْ أنَّها عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتَها مُسَوَّمَةً تَدْعُو عُبَيْدًا وأزْنَما أيْ: لَوْ طارَتْ عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتَها مِن جُبْنِكَ خَيْلًا تَدْعُو هاتَيْنِ القَبِيلَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ﴾ أيْ: لا تَأْمَنهم عَلى سِرِّكَ، لِأنَّهم (p-٢٧٦)عُيُونٌ لِأعْدائِكَ مِنَ الكُفّارِ ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ مُفَسَّرٌ في [بَراءَةٍ: ٣٠]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب