الباحث القرآني

(p-٢٣٠)سُورَةُ المُمْتَحِنَةِ وَهِيَ مَدَنَيَّةٌ كُلُّها بِإجْماعِهِمْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم أوْلِياءَ﴾ ذَكَرَأهْلُ التَّفْسِيرِ أنَّها نَزَلَتْ في حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ، وذَلِكَ «أنَّ سارَّةَ مَوْلاةَ أبِي عَمْرِو ابْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هاشِمٍ أتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَقالَ لَها: "أمُسْلِمَةً جِئْتِ؟" قالَتْ: لا، قالَ: "فَما جاءَ بِكِ؟" قالَتْ: أنْتُمُ الأهْلُ والعَشِيرَةُ والمَوالِي، وقَدِ احْتَجْتُ حاجَةً شَدِيدَةً، فَقَدِمْتُ إلَيْكم لِتُعْطُونِي. قالَ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَأيْنَ أنْتِ مِن شَبابِ أهْلِ مَكَّةَ؟" وكانَتْ مُغَنِّيَةً، فَقالَتْ ما طُلِبَ مِنِّي شَيْءٌ بَعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ، (p-٢٣١)فَحَثَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَكَسَوْها، وحَمَلُوها، وأعْطَوْها، فَأتاها حاطِبُ بْنُ أبِي بَلْتَعَةَ، فَكَتَبَ مَعَها كِتابًا إلى أهْلِ مَكَّةَ، وأعْطاها عَشْرَةَ دَنانِيرَ عَلى أنْ تُوصِلَ الكِتابَ إلى أهْلِ مَكَّةَ، [وَكَتَبَ في الكِتابِ: مِن حاطِبٍ إلى أهْلِ مَكَّةَ] إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُكُمْ، فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَخَرَجَتْ بِهِ سارَّةُ، ونَزَلَ جِبْرِيلُ فَأخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِما فَعَلَ حاطِبٌ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيًّا، وعَمّارًا، والزُّبَيْرَ، وطَلْحَةَ، والمِقْدادَ، وأبا مَرْثَدٍ، وقالَ: "انْطَلِقُوا حَتّى تَأْتُوا "رَوْضَةَ خاخٍ"، فَإنَّ فِيها ظَعِينَةً مَعَها كِتابٌ مِن حاطِبٍ إلى المُشْرِكِينَ، فَخُذُوهُ مِنها، وخَلُّوا سَبِيلَها، فَإنْ لَمْ تَدْفَعْهُ إلَيْكم فاضْرِبُوا عُنُقَها" فَخَرَجُوا حَتّى أدْرَكُوها، فَقالُوا لَها: أيْنَ الكِتابُ؟ فَحَلَفَتْ بِاللَّهِ ما مَعَها مِن كِتابٍ، فَفَتَّشُوا مَتاعَها فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ، فَقالَ عَلِيٌّ: واللَّهِ ما كَذَبْنا ولا كُذِبْنا، وسَلَّ سَيْفَهُ، وقالَ: أخْرِجِي الكِتابَ، وإلّا ضَرَبْتُ عُنُقَكِ، فَلَمّا رَأتِ الجِدَّ أخْرَجَتْهُ مِن ذُؤابَتِها، فَخَلَّوْا سَبِيلَها، ورَجَعُوا بِالكِتابِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأرْسَلَ إلى حاطِبٍ، فَأتاهُ، فَقالَ لَهُ: "هَلْ تَعْرِفُ الكِتابَ؟" قالَ: نَعَمْ. قالَ: "فَما حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ؟" فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ واللَّهِ ما كَفَرْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ، ولا غَشَشْتُكَ مُنْذُ نَصَحْتُكَ، ولا أحْبَبْتُهم مُنْذُ فارَقْتُهُمْ، ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ المُهاجِرِينَ إلّا ولَهُ بِمَكَّةَ مَن يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، وكُنْتُ [غَرِيبًا] فِيهِمْ، وكانَ أهْلِي بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، فَخَشِيتُ عَلى أهْلِي، فَأرَدْتُ أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهم يَدًا، وقَدْ عَلِمْتُ أنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ بِهِمْ بِأْسَهُ، وكِتابِي لا يُغْنِي عَنْهم شَيْئًا، فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ (p-٢٣٢)ﷺ وعَذَرَهُ، ونَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَنْهى حاطِبًا عَمّا فَعَلَ، وتَنْهى المُؤْمِنِينَ أنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِهِ، فَقامَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ: دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هَذا المُنافِقِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَما يُدْرِيكَ يا عُمَرُ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلى أهْلِ بَدْرٍ، فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" .» وقَدْ أُخْرِجَ هَذا الحَدِيثُ في "الصَّحِيحَيْنِ" مُخْتَصَرًا، وفِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ، وابْنِ الزُّبَيْرِ، وأبِي مَرْثَدٍ فَقَطْ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّ الباءَ زائِدَةٌ، والمَعْنى: تُلْقُونَ إلَيْهِمُ المَوَدَّةَ، ومِثْلُهُ ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحادٍ بِظُلْمٍ﴾ [الحَجِّ: ٢٥]، هَذا قَوْلُ الفَرّاءِ، وأبِي عُبَيْدَةَ، وابْنِ قُتَيْبَةَ، والجُمْهُورِ. والثّانِي: تُلْقُونَ إلَيْهِمْ أخْبارَ النَّبِيِّ ﷺ وسِرَّهُ بِالمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَكم وبَيْنَهُ، قالَهُ الزَّجّاجُ. (p-٢٣٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَدْ كَفَرُوا﴾ الواوُ لِلْحالِ، وحالُهم أنَّهم كَفَرُوا بِما جاءَكم مِنَ الحَقِّ، وهو القُرْآنُ "يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وإيّاكُمْ" مِن مَكَّةَ ( أنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ) "إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ" هَذا شَرْطٌ، جَوابُهُ مُتَقَدِّمٌ، وفي الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ. قالَ الزَّجّاجُ: مَعْنى الآيَةِ: إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا في سَبِيلِي وابْتِغاءَ مَرْضاتِي فَلا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم أوْلِياءَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُسِرُّونَ إلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ﴾ الباءُ في "المَوَدَّةِ" حُكْمُها حُكْمُ الأُولى. قالَ المُفَسِّرُونَ: والمَعْنى: تُسِرُّونَ إلَيْهِمُ النَّصِيحَةَ ﴿وَأنا أعْلَمُ بِما أخْفَيْتُمْ﴾ مِنَ المَوَدَّةِ لِلْكُفّارِ ﴿وَما أعْلَنْتُمْ﴾ أيْ: أظْهَرْتُمْ بِألْسِنَتِكم. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: المَعْنى: كَيْفَ تَسْتَسِرُّونَ بِمَوَدَّتِكم لَهم مِنِّي وأنا أعْلَمُ بِما تُضْمِرُونَ وما تُظْهِرُونَ؟! قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ﴾ يَعْنِي: الإسْرارَ والإلْقاءَ إلَيْهِمْ ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ﴾ أيْ: أخْطَأ طَرِيقَ الهُدى. ثُمَّ أخْبَرَ بِعَداوَةِ الكُفّارِ فَقالَ تَعالى: ﴿إنْ يَثْقَفُوكُمْ﴾ أيْ: يَظْفَرُوا بِكم ﴿يَكُونُوا لَكم أعْداءً﴾ لا مُوالِينَ ﴿وَيَبْسُطُوا إلَيْكم أيْدِيَهُمْ﴾ بِالضَّرْبِ والقَتْلِ ﴿وَألْسِنَتَهم بِالسُّوءِ﴾ وهُوَ: الشَّتْمُ ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ فَتَرْجِعُونَ إلى دِينِهِمْ. والمَعْنى: أنَّهُ لا يَنْفَعُكُمُ التَّقَرُّبُ إلَيْهِمْ بِنَقْلِ أخْبارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَنْ تَنْفَعَكم أرْحامُكُمْ﴾ أيْ: قَراباتُكم. والمَعْنى: ذَوُو أرْحامِكُمْ، أرادَ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الَّذِينَ عَصَيْتُمُ اللَّهَ لِأجْلِهِمْ، ﴿يَوْمَ القِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو: "يُفْصَلُ" بِرَفْعِ الياءِ، وتَسْكِينِ الفاءِ، ونَصْبِ الصّادِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ" يُفَصَّلُ" بِرَفْعِ الياءِ، والتَّشْدِيدِ، وفَتْحِ الصّادِ، وافَقَهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ، إلّا أنَّهم كَسَرُوا الصّادَ. وقَرَأ عاصِمٌ، غَيْرَ المُفَضَّلِ، ويَعْقُوبُ بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الفاءِ وكَسْرِ الصّادِ، وتَخْفِيفِها. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، (p-٢٣٤)وابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو العالِيَةِ: ( نُفَصِّلُ ) بِنُونٍ مَرْفُوعَةٍ، وفَتْحِ الفاءِ، مَكْسُورَةَ الصّادِ مُشَدَّدَةً. وقَرَأ أبُو رَزِينٍ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ: ( نَفْصِلُ ) بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ، ساكِنَةَ الفاءِ، مَكْسُورَةَ الصّادِ خَفِيفَةً، أيْ: نَفْصِلُ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ وإنْ كانَ ولَدَهُ. قالَ القاضِي أبُو يَعْلى: في هَذِهِ القِصَّةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الخَوْفَ عَلى المالِ والوَلَدِ لا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ في إظْهارِ الكُفْرِ، كَما يُبِيحُ في الخَوْفِ عَلى النَّفْسِ، ويَبِينُ ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى فَرَضَ الهِجْرَةَ، ولَمْ يَعْذُرْهم في التَّخَلُّفِ لِأجْلِ أمْوالِهِمْ وأوْلادِهِمْ. وإنَّما ظَنَّ حاطِبٌ أنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ ولَدِهِ، كَما يَجُوزُ لَهُ أنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ، وإنَّما [قالَ] عُمَرُ؛ دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هَذا المُنافِقِ لِأنَّهُ ظَنَّ أنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب