قالَ الزَّجّاجُ: فَلَمّا قَصَّ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الأقاصِيصَ قالَ: ﴿أفَرَأيْتُمُ اللاتَ والعُزّى﴾ المَعْنى: أخْبِرُونا عَنْ هَذِهِ الآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَها هَلْ لَها مِنَ القُدْرَةِ والعَظَمَةِ الَّتِي وُصِفَ بِها رَبُّ العِزَّةِ شَيْءٌ؟!
فَأمّا "اللّاتُ" فَقَرَأ الجُمْهُورُ بِتَخَفِيفِ التّاءِ، وهو اسْمُ صَنَمٍ كانَ لِثَقِيفٍ اتَّخَذُوهُ مِن دُونِ اللَّهِ، وكانُوا يَشْتَقُّونَ لِأصْنامِهِمْ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، فَقالُوا مِنَ "اللَّهِ": اللّاتُ، ومِنَ "العَزِيزِ": العُزّى. قالَ أبُو سُلَيْمانَ الخَطّابِيُّ: كانَ (p-٧٢)المُشْرِكُونَ يَتَعاطَوْنَ "اللَّهَ" اسْمًا لِبَعْضِ أصْنامِهِمْ، فَصَرَفَهُ اللَّهُ إلى اللّاتَ صِيانَةً لِهَذا الِاسْمِ وذَبًّا عَنْهُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو رَزِينٍ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، والضَّحّاكُ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ يَعْمَرَ، والأعْمَشُ، ووَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ: "اللّاتَّ" بِتَشْدِيدِ التّاءِ؛ ورَدَ في تَفْسِيرٍ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ أنَّ رَجُلًا كانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحاجِّ، فَلَمّا ماتَ عَكَفُوا عَلى قَبْرِهِ فَعَبَدُوهُ. وقالَ الزَّجّاجُ: زَعَمُوا أنَّ رَجُلًا كانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ ويَبِيعُهُ عِنْدَ ذَلِكَ الصَّنَمِ، فَسُمِّيَ الصَّنَمُ: اللّاتَّ. وكانَ الكِسائِيُّ يَقِفُ عَلَيْهِ بِالهاءِ، فَيَقُولُ: "اللّاهْ"؛ وهَذا قِياسٌ، والأجْوَدُ الوُقُوفُ بِالتّاءِ، لِاتِّباعِ المُصْحَفِ.
وَأمّا "العُزّى" فَفِيها قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّها شَجَرَةٌ لَغَطَفانَ كانُوا يَعْبُدُونَها، قالَهُ مُجاهِدٌ.
والثّانِي: صَنَمٌ لَهُمْ، قالَهُ الضَّحّاكُ. قالَ: وأمّا "مَناةُ" فَهو صَنَمٌ لِهُذَيْلٍ وخُزاعَةَ يَعْبُدُهُ أهْلُ مَكَّةَ. وقالَ قَتادَةُ: بَلْ كانَتْ لِلْأنْصارِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: كانَتِ اللّاتُ والعُزّى ومَناةُ أصْنامًا مِن حِجارَةٍ في جَوْفِ الكَعْبَةِ يَعْبُدُونَها. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَمُناءَةَ" مَمْدُودَةً مَهْمُوزَةً.
فَأمّا قَوْلُهُ: (الثّالِثَةَ) فَإنَّهُ نَعْتٌ لِـ "مَناةَ"، هي ثالِثَةُ الصَّنَمَيْنِ في الذِّكْرِ، "والأُخْرى" نَعْتٌ لَها. قالَ الثَّعْلَبِيُّ: العَرَبُ لا تَقُولُ لِلثّالِثَةِ: الأُخْرى، وإنَّما الأُخْرى نَعْتٌ لِلثّانِيَةِ؛ فَيَكُونُ في المَعْنى وجْهانِ.
أحَدُهُما: أنَّ ذَلِكَ لِوِفاقِ رُؤُوسِ الآيِ، كَقَوْلِهِ ﴿مَآرِبُ أُخْرى﴾ [طَهَ: ١٨] ولَمْ يَقُلْ، أُخَرُ، قالَهُ الخَلِيلُ.
(p-٧٣)والثّانِي: أنَّ في الآيَةِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى الأُخْرى ومَناةَ الثّالِثَةَ، قالَهُ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ﴾ قالَ ابْنُ السّائِبِ: إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قالُوا لِلْأصْنامِ والمَلائِكَةِ: بَناتُ اللَّهِ، وكانَ الرَّجُلُ مِنهم إذا بُشِّرَ بِالأُنْثى كَرِهَ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ ؟! يَعْنِي الأصْنامَ وهي [إناثٌ] في أسْمائِها.
﴿تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ قَرَأ عاصِمٌ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: ["ضِيزى"] بِكَسْرِ الضّادِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ؛ وافَقَهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ [فِي] كَسْرِ الضّادِ، لَكِنَّهُ هَمَزَ. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، ومُعاذٌ القارِئُ: "ضَيْزى" بِفَتْحِ الضّادِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ. قالَ الزَّجّاجُ: الضِّيزى في كَلامِ العَرَبِ: النّاقِصَةُ الجائِرَةُ، يُقالُ: ضازَهُ يَضِيزُهُ: إذا نَقَصَهُ حَقَّهُ، ويُقالُ: ضَأزَهُ يَضْأزُهُ بِالهَمْزِ. وأجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ أنَّ أصْلَ ضِيزى: ضُوزى، وحُجَّتُهم أنَّها نُقِلَتْ مِن "فُعْلى" مِن ضُوزى إلى ضِيزى، لِتَسْلَمَ الياءُ، كَما قالُوا: أبْيَضُ وبِيضٌ، وأصْلُهُ: بُوضٌ، فَنُقِلَتِ الضَّمَّةُ إلى الكَسْرَةِ. وقَرَأْتُ عَلى بَعْضِ العُلَماءِ بِاللُّغَةِ: في "ضِيزى" لُغاتٌ؛ يُقالُ: ضِيزى، وضُوزى، وضُؤْزى، وضَأْزى عَلى "فَعَلى" مَفْتُوحَةً، ولا يَجُوزُ في القُرْآنِ إلّا "ضِيزى" بِياءٍ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ؛ وإنَّما لَمْ يَقُلِ النَّحْوِيُّونَ: إنَّها عَلى أصْلِها لِأنَّهم لا يَعْرِفُونَ في الكَلامِ "فِعْلى" صِفَةً، إنَّما يَعْرِفُونَ الصِّفاتِ عَلى "فَعْلى" بِالفَتْحِ، نَحْوُ سَكْرى وغَضْبى، أوْ بِالضَّمِّ، نَحْوُ حُبْلى وفُضْلى.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ هِيَ﴾ يَعْنِي الأوْثانَ ﴿إلا أسْماءٌ﴾ والمَعْنى: إنَّ هَذِهِ الأوْثانَ (p-٧٤)الَّتِي سَمَّوْها بِهَذِهِ الأسامِي لا مَعْنًى تَحْتَها، لِأنَّها لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، فَهي تَسْمِياتٌ أُلْقِيَتْ عَلى جَماداتٍ، ﴿ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ أيْ: لَمْ يُنْزِلْ كِتابًا فِيهِ حُجَّةٌ بِما يَقُولُونَ: إنَّها آلِهَةٌ. ثُمَّ رَجَعَ إلى الإخْبارِ عَنْهم بَعْدَ الخِطابِ لَهم فَقالَ: ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ﴾ في أنَّها آلِهَةٌ، ﴿إلا الظَّنَّ وما تَهْوى الأنْفُسُ﴾ وهو ما زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ، ﴿وَلَقَدْ جاءَهم مِن رَبِّهِمُ الهُدى﴾ وهو البَيانُ بِالكِتابِ والرَّسُولِ، وهَذا تَعْجِيبٌ مِن حالِهِمْ إذْ لَمْ يَتْرُكُوا عِبادَتَها بَعْدَ وُضُوحِ البَيانِ.
ثُمَّ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَمَنِّيَهم شَفاعَتَها فَقالَ: ﴿أمْ لِلإنْسانِ﴾ يَعْنِي الكافِرَ ﴿ما تَمَنّى﴾ مِن شَفاعَةِ الأصْنامِ ﴿فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولى﴾ أيْ لا يَمْلِكُ فِيهِما أحَدٌ شَيْئًا إلّا بِإذْنِهِ. ثُمَّ أكَّدَ هَذا بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَمْ مِن مَلَكٍ في السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهم شَيْئًا﴾ فَجَمَعَ في الكِنايَةِ، لِأنَّ مَعْنى الكَلامِ الجَمْعُ ﴿إلا مِن بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ﴾ في الشَّفاعَةِ ﴿لِمَن يَشاءُ ويَرْضى﴾ والمَعْنى أنَّهم لا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
{"ayahs_start":19,"ayahs":["أَفَرَءَیۡتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلۡعُزَّىٰ","وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰۤ","أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلۡأُنثَىٰ","تِلۡكَ إِذࣰا قِسۡمَةࣱ ضِیزَىٰۤ","إِنۡ هِیَ إِلَّاۤ أَسۡمَاۤءࣱ سَمَّیۡتُمُوهَاۤ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُم مَّاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَـٰنٍۚ إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُۖ وَلَقَدۡ جَاۤءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلۡهُدَىٰۤ","أَمۡ لِلۡإِنسَـٰنِ مَا تَمَنَّىٰ","فَلِلَّهِ ٱلۡـَٔاخِرَةُ وَٱلۡأُولَىٰ","۞ وَكَم مِّن مَّلَكࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ لَا تُغۡنِی شَفَـٰعَتُهُمۡ شَیۡـًٔا إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ أَن یَأۡذَنَ ٱللَّهُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَرۡضَىٰۤ"],"ayah":"أَمۡ لِلۡإِنسَـٰنِ مَا تَمَنَّىٰ"}