الباحث القرآني

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ﴾ يَعْنِي ابْنَ آدَمَ، ﴿وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ أيْ: ما تُحَدِّثُهُ بِهِ نَفْسُهُ. وقالَ الزَّجّاجُ: نَعْلَمُ ما يُكِنُّهُ في نَفْسِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ﴾ أيْ: بِالعِلْمِ ﴿مِن حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ الحَبْلُ هو الوَرِيدُ، وإنَّما أضافَهُ إلى نَفْسِهِ لِما شَرَحْناهُ آنِفًا في قَوْلِهِ: ﴿وَحَبَّ الحَصِيدِ﴾ [ق: ٩] قالَ الفَرّاءُ: والوَرِيدُ: عِرْقٌ بَيْنَ الحُلْقُومِ والعِلْباوَيْنِ. وعَنْهُ أيْضًا قالَ: عِرْقٌ بَيْنَ اللَّبَّةِ والعِلْباوَيْنِ. وقالَ الزَّجّاجُ: الوَرِيدُ: عِرْقٌ في باطِنِ العُنُقِ، [وَهُما ورِيدانِ]، والعِلْباوانِ: العَصَبَتانِ الصَّفْراوانِ في مَتْنِ العُنُقُ، واللَّبَّتانِ: مَجْرى القُرْطِ في العُنُقِ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: اللَّبَّةُ حَيْثُ يَتَذَبْذَبُ القُرْطُ مِمّا يَقْرُبُ مِن شَحْمَةِ الأُذُنِ. وحَكى بَعْضُ العُلَماءِ أنَّ الوَرِيدَ: عِرْقٌ مُتَفَرِّقٌ في البَدَنِ مَخالِطٌ لِجَمِيعِ الأعْضاءِ، فَلَمّا كانَتْ أبْعاضُ الإنْسانِ يَحْجُبُ بَعْضُها بَعْضًا، أعْلَمَ أنَّ عِلْمَهُ لا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ. والمَعْنى: ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ حِينَ يَتَلَقّى المُتَلَقِّيانِ، وهُما المَلَكانِ المُوَكَّلانِ بِابْنِ آدَمَ يَتَلَقَّيانِ عَمَلَهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿إذْ يَتَلَقّى المُتَلَقِّيانِ﴾ (p-١٠)أيْ: يَأْخُذانِ ذَلِكَ ويُثْبِتانِهِ ﴿عَنِ اليَمِينِ﴾ كاتِبُ الحَسَناتِ ﴿وَعَنِ الشِّمالِ﴾ كاتِبُ السَّيِّئاتِ. قالَ الزَّجّاجُ: والمَعْنى: عَنِ اليَمِينِ قَعِيدٌ، وعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، فَدَلَّ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ، فَحُذِفَ المَدْلُولُ عَلَيْهِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ نَحْنُ بِما عِنْدَنا وأنْتَ بِما عِنْ دَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَقالَ آخَرُ: ؎ رَمانِي بِأمْرٍ كُنْتُ مِنهُ ووالِدِي ∗∗∗ بَرِيئًا ومِن أجْلِ الطَّوِيِّ رَمانِي المَعْنى: كُنْتُ مِنهُ بَرِيئًا. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: القَعِيدُ بِمَعْنى قاعِدٍ، كَما يُقالُ: "قَدِيرٌ" بِمَعْنى "قادِرٍ"، ويَكُونُ القَعِيدُ بِمَعْنى مُقاعِدٍ كالأكِيلِ والشَّرِيبِ بِمَنزِلَةِ: المُؤاكِلِ والمُشارِبِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما يَلْفِظُ﴾ يَعْنِي الإنْسانَ، أيْ: ما يَتَكَلَّمُ مِن كَلامٍ فَيَلْفِظُهُ، أيْ: يَرْمِيهِ مِن فَمِهِ، ﴿إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ﴾ أيْ: حافِظٌ، وهو المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ، إمّا صاحِبُ اليَمِينِ، وإمّا صاحِبُ الشِّمالِ ﴿عَتِيدٌ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: العَتِيدُ: (p-١١)الثّابِتُ اللّازِمُ. وقالَ غَيْرُهُ: العَتِيدُ: الحاضِرُ مَعَهُ أيْنَما كانَ. ورَوى أبُو أُمامَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « " كاتِبُ الحَسَناتِ عَلى يَمِينِ الرَّجُلِ، وكاتِبُ السَّيِّئاتِ عَلى يَسارِهِ، فَكاتِبُ الحَسَناتِ أمِينٌ عَلى كاتِبِ السَّيِّئاتِ، فَإذا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَها لَهُ صاحِبُ اليَمِينِ عَشْرًا، وإذا عَمِلَ سَيِّئَةً، وأرادَ صاحِبُ الشِّمالِ أنْ يَكْتُبَها، قالَ صاحِبُ اليَمِينِ: أمْسِكْ، فَيُمْسِكُ عَنْهُ سَبْعَ ساعاتٍ، فَإنِ اسْتَغْفَرَ مِنها لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وإنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ كُتِبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ واحِدَةٌ " .» وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ عَلى ابْنِ آدَمَ حافِظَيْنِ في اللَّيْلِ، وحافِظَيْنِ في النَّهارِ. واخْتَلَفُوا هَلْ يَكْتُبانِ جَمِيعَ أفْعالِهِ وأقْوالِهِ عَلى قَوْلَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّهُما يَكْتُبانِ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ حَتّى أنِينَهُ في مَرَضِهِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والثّانِي: أنَّهُما لا يَكْتُبانِ إلّا ما يُؤْجَرُ [عَلَيْهِ]، أوْ يُؤْزَرُ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. فَأمّا مَجْلِسُهُما، فَقَدْ نَطَقَ القُرْآنُ بِأنَّهُما عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ، وكَذَلِكَ ذَكَرْنا في حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ. وقَدْ رَوى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: « "إنَّ مَقْعَدَ مَلَكَيْكَ عَلى ثَنِيَّتَيْكَ ولِسانُكَ قَلَمُهُما، ورِيقُكَ مِدادُهُما، وأنْتَ تَجْرِي فِيما (p-١٢)لا يَعْنِيكَ"» ورُوِيَ عَن ِالحَسَنِ والضَّحّاكِ قالا: مَجْلِسُهُما تَحْتَ الشَّعْرِ عَلى الحَنَكِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ﴾ وهي غَمْرَتُهُ وشِدَّتُهُ الَّتِي تَغْشى الإنْسانَ وتَغْلِبُ عَلى عَقْلِهِ وتَدُلُّهُ عَلى أنَّهُ مَيِّتٌ ﴿بِالحَقِّ﴾ وفِيهِ وجْهانِ. أحَدُهُما: أنَّ مَعْناهُ: جاءَتْ بِحَقِيقَةِ المَوْتِ. والثّانِي: بِالحَقِّ مِن أمْرِ الآخِرَةِ، فَأبانَتْ لِلْإنْسانِ ما لَمْ يَكُنْ بَيِّنًا لَهُ مِن أمْرِ الآخِرَةِ. ذَكَرَ الوَجْهَيْنِ الفَرّاءُ، وابْنُ جَرِيرٍ. وَقَرَأ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقِّ بِالمَوْتِ)، قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ولِهَذِهِ القِراءَةِ وجْهانِ. أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ الحَقُّ هو اللَّهُ تَعالى، فَيَكُونُ المَعْنى: وجاءَتْ سَكْرَةُ اللَّهِ بِالمَوْتِ. والثّانِي: أنْ تَكُونَ السَّكْرَةُ هي المَوْتُ، أُضِيفَتْ إلى نَفْسِها، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذا لَهو حَقُّ اليَقِينِ﴾ [الواقِعَةِ: ٩٥]، فَيَكُونُ المَعْنى: وجاءَتِ السَّكْرَةُ الحَقُّ بِالمَوْتِ، بِتَقْدِيمِ "الحَقِّ" . وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو عِمْرانَ: "وَجاءَتْ سَكَراتُ" عَلى الجَمْعِ "الحَقِّ بِالمَوْتِ" بِتَقْدِيمِ "الحَقِّ" . وقَرَأ أُبَيُّ ابْنُ كَعْبٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "وَجاءَتْ سَكَراتُ المَوْتِ" عَلى الجَمْعِ "بِالحَقِّ" بِتَأْخِيرِ "الحَقِّ" . (p-١٣) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ أيْ: فَيُقالُ لِلْإنْسانِ حِينَئِذٍ: "ذَلِكَ" أيْ: ذَلِكَ المَوْتُ ﴿ما كُنْتَ مِنهُ تَحِيدُ﴾ أيْ: تَهْرُبُ وتَفِرُّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَكْرَهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنُفِخَ في الصُّورِ﴾ يَعْنِي نَفْخَةَ البَعْثِ "ذَلِكَ" اليَوْمُ ﴿يَوْمُ الوَعِيدِ﴾ أيْ: يَوْمُ وُقُوعِ الوَعِيدِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَعَها سائِقٌ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّ السّائِقَ: مَلَكٌ يَسُوقُها إلى مَحْشَرِها، قالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ. والثّانِي: أنَّهُ قَرِينُها مِنَ الشَّياطِينِ، سُمِّيَ سائِقًا، لِأنَّهُ يَتْبَعُها وإنْ لَمْ يَحُثَّها. وَفِي الشَّهِيدِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ مَلَكٌ يَشْهَدُ عَلَيْها بِعَمَلِها، قالَهُ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، والحَسَنُ. وقالَ مُجاهِدٌ: المَلَكانِ: سائِقٌ. وشَهِيدٌ. وقالَ ابْنُ السّائِبِ: السّائِقُ الَّذِي كانَ يَكْتُبُ عَلَيْهِ السَّيِّئاتِ، والشَّهِيدُ: الَّذِي كانَ يَكْتُبُ الحَسَناتِ. والثّانِي: أنَّهُ العَمَلُ يَشْهَدُ عَلى الإنْسانِ، قالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ. والثّالِثُ: الأيْدِي والأرْجُلُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ، قالَهُ الضَّحّاكُ. وَهَلْ هَذِهِ الآياتُ عامَّةٌ، أمْ خاصَّةٌ؟ فِيها قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها عامَّةٌ، قالَهُ الجُمْهُورُ. الثّانِي: خاصَّةٌ في الِكافِرِ، قالَهُ الضَّحّاكُ، ومُقاتِلٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ﴾ أيْ: ويُقالُ لَهُ: ﴿لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِن هَذا﴾ اليَوْمِ وفي المُخاطَبِ بِهَذِهِ الآياتِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ الكافِرُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وصالِحُ بْنُ كَيْسانَ في آخَرِينَ. (p-١٤)والثّانِي: أنَّهُ عامٌّ في البَرِّ والفاجِرِ، قالَهُ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. والثّالِثُ: أنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ يَكُونُ المَعْنى: لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِن هَذا اليَوْمِ في الدُّنْيا بِكُفْرِكَ بِهِ؛ وعَلى الثّانِي: كُنْتَ غافِلًا عَنْ أهْوالِ القِيامَةِ. ﴿فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ﴾ الَّذِي كانَ في الدُّنْيا يَغْشى قَلْبَكَ وسَمْعَكَ وبَصَرَكَ. وقِيلَ مَعْناهُ: أرَيْناكَ ما كانَ مَسْتُورًا عَنْكَ؛ وعَلى الثّالِثِ: لَقَدْ كُنْتَ قَبْلَ الوَحْيِ في غَفْلَةٍ عَمّا أُوحِيَ إلَيْكَ، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ بِالوَحْيِ ﴿فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾ وفي المُرادِ بِالبَصَرِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: البَصَرُ المَعْرُوفُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. والثّانِي: العِلْمُ، قالَهُ الزَّجّاجُ. وَفِي قَوْلِهِ: "اليَوْمَ" قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: أنَّهُ في الدُّنْيا، وهَذا عَلى قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ. فَأمّا قَوْلُهُ: "حَدِيدٌ" فَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الحَدِيدُ بِمَعْنى الحادِّ. أيْ: فَأنْتَ ثاقِبُ البَصَرِ. ثُمَّ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: فَبَصَرُكَ حَدِيدٌ إلى لِسانِ المِيزانِ حِينَ تُوزَنُ حَسَناتُكَ وسَيِّئاتُكَ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والثّانِي: أنَّهُ شاخِصٌ لا يَطْرِفُ لِمُعايَنَةِ الآخِرَةِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والثّالِثُ: أنَّهُ العِلْمُ النّافِذُ، قالَهُ الزَّجّاجُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب