الباحث القرآني

(p-٤٣٤)ثُمَّ ذَكَرَ الَّذِينَ أخْلَصُوا نِيَّتَهم وشَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوانِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا سَبَبَ هَذِهِ البَيْعَةِ آنِفًا. وإنَّما سُمِّيَتْ بَيْعَةَ الرِّضْوانِ، لِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ رَوى إياسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ عَنْ أبِيهِ، قالَ: «بَيْنَما نَحْنُ قائِلُونَ زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ، نادى مُنادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أيُّها النّاسُ، البَيْعَةَ، البَيْعَةَ، نَزَلَ رُوحُ القُدُسِ، قالَ: فَثُرْنا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُرَةَ، فَبايَعْناهُ.» وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يُبايِعُ النّاسَ، وإنِّي لَأرْفَعُ أغْصانَها عَنْ رَأْسِهِ.» وقالَ بِكِيرُ بْنُ الأشَجِّ: كانَتِ الشَّجَرَةُ بِفَجٍّ نَحْوَ مَكَّةَ. قالَ نافِعٌ: كانَ النّاسُ يَأْتُونَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ فَيُصَلُّونَ عِنْدَها، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ، فَأوْعَدَهم فِيها، وأمَرَ بِها فَقُطِعَتْ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ﴾ أيْ: مِنَ الصِّدْقِ والوَفاءِ، والمَعْنى: عَلِمَ أنَّهم مُخْلِصُونَ ﴿فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ يَعْنِي الطُّمَأْنِينَةَ والرِّضى حَتّى (p-٤٣٥)بايَعُوا عَلى أنْ يُقاتِلُوا ولا يَفِرُّوا ﴿وَأثابَهُمْ﴾ أيْ: عَوَّضَهم عَلى الرِّضى بِقَضائِهِ والصَّبْرِ عَلى أمْرِهِ ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ وهو خَيْبَرُ، ﴿وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها﴾ أيْ: مِن خَيْبَرَ، لِأنَّها كانَتْ ذاتَ عَقارٍ وأمْوالٍ. فَأمّا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذا: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها﴾ فَقالَ المُفَسِّرُونَ: هي الفُتُوحُ الَّتِي تُفْتَحُ عَلى المُسْلِمِينَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. ﴿فَعَجَّلَ لَكم هَذِهِ﴾ فِيها قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها غَنِيمَةُ خَيْبَرَ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والجُمْهُورُ. والثّانِي: أنَّهُ الصُّلْحُ الَّذِي كانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَيْنَ قُرَيْشٍ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكَفَّ أيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ﴾ فِيهِمْ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُمُ اليَهُودُ هَمُّوا أنْ يَغْتالُوا عِيالَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَلَّفُوهم في المَدِينَةِ، فَكَفَّهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، قالَهُ قَتادَةُ. والثّانِي: أنَّهم أسَدٌ وغَطَفانُ جاؤُوا لِيَنْصُرُوا أهْلَ خَيْبَرَ، فَقَذَفَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فانْصَرَفُوا عَنْهُمْ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وقالَ الفَرّاءُ: كانَتْ أسَدٌ وغَطَفانُ [مَعَ أهْلِ خَيْبَرَ، فَقَصَدَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصالَحُوهُ وخَلَّوْا بَيْنَهُ وبَيْنَ خَيْبَرَ. وقالَ غَيْرُهُما: بَلْ هَمَّتْ أسَدٌ وغَطَفانُ] بِاغْتِيالِ [أهْلِ] المَدِينَةِ، فَكَفَّهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. والثّالِثُ: أنَّهم أهْلُ مَكَّةَ كَفَّهُمُ اللَّهُ بِالصُّلْحِ، حَكاهُما الثَّعْلَبِيُّ وغَيْرُهُ. (p-٤٣٦)فَفِي قَوْلِهِ: "عَنْكُمْ" قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ عَلى أصْلِهِ، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: عَنْ عِيالِكُمْ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وهو مُقْتَضى قَوْلِ قَتادَةَ. ﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ في المُشارِ إلَيْها قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها الفِعْلَةُ الَّتِي فَعَلَها بِكم مِن كَفِّ أيْدِيهِمْ عَنْكم كانَتْ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَعَلِمُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى مُتَوَلِّي حِراسَتِهِمْ في مَشْهَدِهِمْ ومَغِيبِهِمْ. والثّانِي: أنَّها خَيْبَرُ كانَ فَتْحُها عَلامَةً لِلْمُؤْمِنِينَ في تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيما وعَدَهم بِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَهْدِيَكم صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: طَرِيقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ والتَّفْوِيضِ إلَيْهِ، وهَذا عَلى القَوْلِ الأوَّلِ. والثّانِي: يَزِيدُكم هُدًى بِالتَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فِيما جاءَ بِهِ مِن وعْدِ اللَّهِ تَعالى بِالفَتْحِ والغَنِيمَةِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأُخْرى﴾ المَعْنى: وعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ أُخْرى؛ وفِيها أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّها ما فُتِحَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ. رَوى سِماكُ الحَنَفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها﴾ قالَ: ما فَتَحَ لَكم مِن هَذِهِ الفُتُوحِ، وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ. والثّانِي: أنَّها خَيْبَرُ، رَواهُ عَطِيَّةُ، والضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ ابْنُ زَيْدٍ. والثّالِثُ: فارِسُ والرُّومُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ ِعَبّاسٍ أيْضًا، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي لَيْلى. والرّابِعُ: مَكَّةُ، ذَكَرَهُ قَتادَةُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ أحاطَ اللَّهُ بِها﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أحاطَ بِها عِلْمًا (p-٤٣٧)أنَّها سَتَكُونُ مِن فُتُوحِكم. والثّانِي: حِفَظَها لَكم ومَنَعَها مِن غَيْرِكم حَتّى فَتَحْتُمُوها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هَذا خِطابٌ لِأهْلِ الحُدَيْبِيَةِ، قالَهُ قَتادَةُ؛ والَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. فَعَلى هَذا يَكُونُ المَعْنى: لَوْ قاتَلُوكم يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ ﴿لَوَلَّوُا الأدْبارَ﴾ لِما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ ﴿ثُمَّ لا يَجِدُونَ ولِيًّا﴾ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ خَذَلَهم. قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى: لَوْ قاتَلَكَ مَن لَمْ يُقاتِلْكَ لَنُصِرْتَ عَلَيْهِ، لَأنَّ سُنَّةَ اللَّهِ النُّصْرَةُ لِأوْلِيائِهِ. و "سُنَّةَ اللَّهِ" مَنصُوبَةٌ عَلى المَصْدَرِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَوَلَّوُا الأدْبارَ﴾ مَعْناهُ: سَنَّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ خِذْلانَهم سُنَّة. ً وقَدْ مَرَّ مِثْلُ هَذا في قَوْلِهِ: ﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النِّساءِ: ٢٤]، وقَوْلِهِ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ [النَّمْلِ: ٨٨] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهم عَنْكُمْ﴾ رَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ «أنَّ ثَمانِينَ رَجُلًا مَن أهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ، فَأخَذَهم سِلْمًا، فاسْتَحْياهُمْ، وأنْزَلَ اللَّهُ (p-٤٣٨)هَذِهِ الآيَةَ.» ورَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قالَ: «كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالحُدَيْبَيَةِ في أصْلِ الشَّجَرَةِ، فَبَيْنَما نَحْنُ كَذَلِكَ إذْ خَرَجَ عَلَيْنا ثَلاثُونَ شابًّا، فَثارُوا في وُجُوهِنا، فَدَعا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأخَذَ اللَّهُ بِأبْصارِهِمْ، فَقُمْنا إلَيْهِمْ فَأخَذْناهُمْ، فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَلْ جِئْتُمْ في عَهْدٍ؟" أوْ "هَلْ جَعَلَ لَكم أحَدٌ أمانًا؟" قالُوا: اللَّهُمَّ لا، فَخَلّى سَبِيلَهُمْ، ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.» وذَكَرَ قَتادَةُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ خَيْلًا، فَأتَوْهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ فارِسًا مِنَ الكُفّارِ، فَأرْسَلَهُمْ، وقالَ مُقاتِلٌ: خَرَجُوا يُقاتِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَهَزَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالطَّعْنِ والنَّبْلِ حَتّى أدْخَلَهم بُيُوتَ مَكَّةَ.» قالَ المُفَسِّرُونَ: ومَعْنى الآيَةِ: أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ مِنَّتَهُ إذْ حَجَزَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ فَلَمْ يَقْتَتِلا حَتّى تَمَّ الصُّلْحُ بَيْنَهم. وَفِي بَطْنِ مَكَّةَ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ الحُدَيْبِيَةُ، قالَهُ أنَسٌ. والثّانِي: وادِي مَكَّةَ، قالَهُ السُّدِّيُّ. والثّالِثُ: التَّنْعِيمُ، حَكاهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. فَأمّا "مَكَّةُ" فَقالَ الزَّجّاجُ: "مَكَّةُ" لا تَنْصَرِفُ لِأنَّها مُؤَنَّثَةٌ، وهي مَعْرِفَةٌ، ويَصْلُحُ أنْ يَكُونَ اشْتِقاقُها كاشْتِقاقِ "بَكَّةَ"، والمِيمُ تُبْدَلُ مِنَ الباءِ، يُقالُ: ضَرْبَةُ لازِمٍ، ولازِبٍ، ويَصْلُحُ أنْ يَكُونَ اشْتِقاقُها مِن قَوْلِهِمُ: امْتَكَّ الفَصِيلُ ما في ضَرْعِ النّاقَةِ: إذا مَصَّ مَصًّا شَدِيدًا حَتّى لا يُبْقِي فِيهِ شَيْئًا، فَيَكُونُ سُمِّيَتْ (p-٤٣٩)بِذَلِكَ لِشِدَّةِ الِازْدِحامِ فِيها؛ قالَ: والقَوْلُ الأوَّلُ أحْسَنُ. وقالَ قُطْرُبٌ: مَكَّةُ مِن تَمَكَّكْتُ المُخَّ: إذا أكَلْتُهُ. وقالَ ابْنُ فارِسٍ: تَمَكَّكْتُ العَظْمَ: إذا أخْرَجْتَ مُخَّهُ؛ والتَّمَكُّكُ: الِاسْتِقْصاءُ؛ وفي الحَدِيثِ:"لا تَمَكَّكُوا عَلى غُرَمائِكُمْ" . وَفِي تَسْمِيَةِ "مَكَّةَ" أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: لِأنَّها مَثابَةٌ يَؤُمُّها الخَلْقُ مِن كُلِّ فَجٍّ، وكَأنَّها هي الَّتِي تَجْذِبُهم إلَيْها، وذَلِكَ مِن قَوْلِ العَرَبِ: امْتَكَّ الفَصِيلُ ما في ضَرْعِ النّاقَةِ. والثّانِي: أنَّها سُمِّيَتْ "مَكَّةَ" مِن قَوْلِكَ: بَكَكْتُ الرَّجُلَ: إذا وضَعْتَ مِنهُ ورَدَدْتَ نَخْوَتَهُ، فَكَأنَّها تَمُكُّ مَن ظَلَمَ فِيها، أيْ: تُهْلِكُهُ وتُنْقِصُهُ، وأنْشَدُوا: ؎ يا مَكَّةُ، الفاجِرَ مُكِّي مَكّا ولا تَمُكِّي مَذْحِجًا وعَكّا والثّالِثُ:[ أنَّها] سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِجَهْدِ أهْلِها. والرّابِعُ: لِقِلَّةِ الماءِ بِها. وَهَلْ مَكَّةُ وبَكَّةُ واحِدٌ؟ قَدْ ذَكَرْناهُ في [آلِ عِمْرانَ: ٩٦] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكم عَلَيْهِمْ﴾ أيْ: بِهِمْ؛ يُقالُ: ظَفِرْتُ بِفُلانٍ، وظَفِرْتُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو: ["يَعْمَلُونَ"] بِالياءِ؛ والباقُونَ: بِالتّاءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب