الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ﴾ وبَخَّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ كَفّارَ قُرَيْشٍ بِما آمَنَتْ بِهِ الجِنُّ. وفي سَبَبِ صَرْفِهِمْ إلى النَّبِيِّ ﷺ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهم صُرِفُوا إلَيْهِ بِسَبَبِ ما حَدَثَ مِن رَجْمِهِمْ بِالشُّهُبِ. رَوى البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ في "الصَّحِيحَيْنِ" مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في طائِفَةٍ مِن أصْحابِهِ عامِدِينَ إلى سُوقِ عُكاظٍ، وقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّياطِينِ وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ، وأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّياطِينُ، فَقالُوا: ما لَكُمْ؟ قالُوا: حِيلَ بَيْنَنا وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ وأُرْسِلَتْ عَلَيْنا الشُّهُبُ، قالُوا: ما ذاكَ إلّا مِن شَيْءٍ حَدَثَ، فاضْرِبُوا مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها فانْظُرُوا ما هَذا الأمْرُ، فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهامَةَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وهو بِـ "نَخْلَةَ" وهو يُصَلِّي بِأصْحابِهِ صَلاةَ الفَجْرِ، فَلَمّا سَمِعُوا (p-٣٨٨)القُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ، فَقالُوا: هَذا الَّذِي حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ، فَهُنالِكَ رَجَعُوا إلى قَوْمِهِمْ ﴿فَقالُوا إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ ﴿يَهْدِي إلى الرُّشْدِ﴾ [الجِنِّ: ١ -٢] . فَأنْزَلَ اللَّهُ عَلى نَبِيِّهِ ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾» [الجِنِّ: ١] . ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «ما قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى الجِنِّ، ولا رَآهُمْ، وإنَّما أتَوْهُ وهو بِـ "نَخْلَةَ" فَسَمِعُوا القُرْآنَ.» والثّانِي: أنَّهم صُرِفُوا إلَيْهِ لِيُنْذِرَهُمْ، وأُمِرَ أنْ يَقْرَأ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، هَذا مَذْهَبُ جَماعَةٍ، مِنهم قَتادَةُ. وفي أفْرادِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ عَلْقَمَةَ قالَ: «قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَن كانَ مِنكم مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ الجِنِّ؟ فَقالَ: ما كانَ مِنّا مَعَهُ أحَدٌ، فَقَدْناهُ ذاتَ لَيْلَةٍ ونَحْنُ بِمَكَّةَ، فَقُلْنا: اِغْتِيلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أوِ اسْتُطِيرَ، فانْطَلَقْنا نَطْلُبُهُ في الشِّعابِ، فَلَقِيناهُ مُقْبِلًا مِن نَحْوِ حِراءَ، فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيْنَ كُنْتَ؟ لَقَدْ أشْفَقْنا عَلَيْكَ، وقُلْنا لَهُ: بِتْنا اللَّيْلَةَ بِشَّرِّ لَيْلَةٍ باتَ بِها قَوْمٌ حِينَ فَقَدْناكَ، فَقالَ: "إنَّهُ أتانِي داعِي الجِنِّ، فَذَهَبْتُ أُقْرِئُهُمُ القُرْآنَ"، فَذَهَبَ بِنا، فَأرانا آثارَهم وآثارَ نِيرانِهِمْ. وقالَ قَتادَةُ: ذُكِرَ لَنا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: "إنِّي أُمِرْتُ أنْ أقْرَأ عَلى الجِنِّ، فَأيُّكم يَتْبَعُنِي؟" فَأطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهم فَأطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمُ الثّالِثَةَ فَأطْرَقُوا، فَأتْبَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَدَخَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ شِعْبًا يُقالُ لَهُ: "شِعْبُ الحَجُونِ"، وخَطَّ عَلى عَبْدِ اللَّهِ خَطًّا لِيُثْبِتَهُ بِهِ، قالَ: فَسَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا حَتّى خِفْتُ عَلى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، فَلَمّا رَجَعَ قُلْتُ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، ما اللَّغَطُ (p-٣٨٩)الَّذِي سَمِعْتُ؟ قالَ: "اجْتَمَعُوا إلَيَّ في قَتِيلٍ كانَ بَيْنَهُمْ، فَقَضَيْتُ بَيْنَهم بِالحَقِّ"» والثّالِثُ: أنَّهم مَرُّوا بِهِ وهو يَقْرَأُ، فَسَمِعُوا القُرْآنَ. فَذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ لَمّا يَئِسَ مِن أهْلِ مَكَّةَ أنْ يُجِيبُوهُ، خَرَجَ إلى الطّائِفِ لِيَدْعُوَهم إلى الإسْلامِ- وقِيلَ: لِيَلْتَمِسَ نَصْرَهُمْ- وذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أبِي طالِبٍ، فَلَمّا كانَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ قامَ يَقْرَأُ القُرْآنَ في صَلاةِ الفَجْرِ، فَمَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِن أشْرافِ جِنِّ نَصِيبِينَ، فاسْتَمَعُوا القُرْآنَ. فَعَلى هَذا القَوْلِ والقَوْلِ الأوَّلِ، لَمْ يَعْلَمْ بِحُضُورِهِمْ حَتّى أخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى؛ وعَلى القَوْلِ الثّانِي، عَلِمَ بِهِمْ حِينَ جاءُوا. وفي المَكانِ الَّذِي سَمِعُوا فِيهِ تِلاوَةَ النَّبِيِّ ﷺ قَوْلانِ. أحَدُهُما: الحَجُونَ، وقَدْ ذَكَرْناهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وبِهِ قالَ قَتادَةُ. والثّانِي: بَطْنُ نَخْلَةَ، وقَدْ ذَكَرْناهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ. وَأمّا النَّفَرُ، فَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: إنَّ النَّفَرَ ما بَيْنَ الثَّلاثَةِ إلى العَشْرَةِ. ولِلْمُفَسِّرِينَ في عَدَدِ هَؤُلاءِ النَّفَرِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهم كانُوا سَبْعَةً، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، ومُجاهِدٌ، ورَواهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. (p-٣٩٠)والثّانِي: تِسْعَةً، رَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا، رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، ولا يَصِحُّ، لِأنَّ النَّفَرَ لا يُطْلَقُ عَلى الكَثِيرِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا حَضَرُوهُ﴾ أيْ: حَضَرُوا اسْتِماعَهُ، و ﴿قُضِيَ﴾ يَعْنِي: فَرَغَ مِن تِلاوَتِهِ ﴿وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ أيْ: مُحَذِّرِينَ عَذابَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَهَلْ أنْذَرُوا قَوْمَهم مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ، أمْ جَعَلَهم رَسُولُ اللَّهِ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ؟ فِيهِ قَوْلانِ. قالَ عَطاءٌ: كانَ دِينُ أُولَئِكَ الجِنِّ اليَهُودِيَّةَ، فَلِذَلِكَ قالُوا: ﴿مِن بَعْدِ مُوسى﴾ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ﴾ يَعْنُونَ مُحَمَّدًا ﷺ . وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أُرْسِلَ إلى الجِنِّ والإنْسِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ "مِن" هاهُنا صِلَةٌ. (p-٣٩١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرْضِ﴾ أيْ: لا يُعْجِزُ اللَّهَ تَعالى ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أوْلِياءُ﴾ أيْ: أنْصارٌ يَمْنَعُونَهُ مِن عَذابِ اللَّهِ تَعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ لا يُجِيبُونَ الرُّسُلَ في ضَلالٍ مُبِينٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب