الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنّا﴾ أيِ: ابْتَلَيْنا ﴿قَبْلَهُمْ﴾ أيْ: قَبْلَ قَوْمِكَ ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾ بِإرْسالِ مُوسى إلَيْهِمْ ﴿وَجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ وهو مُوسى بْنُ عِمْرانَ. وَفِي مَعْنى "كَرِيمٍ" ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: حَسَنُ الخُلُقِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. (p-٣٤٣)والثّانِي: كَرِيمٌ عَلى رَبِّهِ، قالَهُ الفَرّاءُ. والثّالِثُ: شَرِيفٌ وسِيطُ النَّسَبِ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ أدُّوا﴾ أيْ: بِأنْ أدُّوا ﴿إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أدُّوا إلَيَّ ما أدْعُوكم إلَيْهِ مِنَ الحَقِّ بِاتِّباعِي، رَوى هَذا المَعْنى العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. فَعَلى هَذا يَنْتَصِبُ "عِبادَ اللَّهِ" بِالنِّداءِ. قالَ الزَّجّاجُ: ويَكُونُ المَعْنى: أنْ أدُّوا إلَيَّ ما آمُرُكم بِهِ يا عِبادَ اللَّهِ. والثّانِي: أرْسِلُوا مَعِي بَنِي إسْرائِيلَ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والمَعْنى: أطْلِقُوهم مِن تَسْخِيرِكُمْ، وسَلِّمُوهم إلَيَّ. ﴿وَأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: لا تَفْتَرُوا عَلَيْهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: لا تَعْتَوا عَلَيْهِ، قالَهُ قَتادَةُ. والثّالِثُ: لا تَعَظَّمُوا عَلَيْهِ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ ﴿إنِّي آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ أيْ: بِحُجَّةِ تَدَلُّ عَلى صِدْقِي. فَلَمّا قالَ هَذا تَواعَدُوهُ بِالقَتْلِ فَقالَ: ﴿وَإنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم أنْ تَرْجُمُونِ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ رَجْمُ القَوْلِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ فَيَكُونُ المَعْنى: أنْ يَقُولُوا: شاعِرٌ أوْ مَجْنُونٌ. والثّانِي: القَتْلُ، قالَهُ السُّدِّيُّ. ﴿وَإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُونِ﴾ أيْ: فاتْرُكُونِي لا مَعِي ولا عَلَيَّ، فَكَفَرُوا ولَمْ يُؤْمِنُوا، ﴿فَدَعا رَبَّهُ أنَّ هَؤُلاءِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: مَن فَتَحَ "أنَّ"، فالمَعْنى: بِأنَّ هَؤُلاءِ؛ ومَن كَسَرَ، فالمَعْنى: قالَ: إنَّ هَؤُلاءِ، و "إنَّ" بَعْدَ القَوْلِ مَكْسُورَةٌ. وقالَ المُفَسِّرُونَ: المُجْرِمُونَ هاهُنا: المُشْرِكُونَ. (p-٣٤٤)فَأجابَ اللَّهُ دُعاءَهُ، وقالَ: ﴿فَأسْرِ بِعِبادِي لَيْلا﴾ يَعْنِي بِالمُؤْمِنِينَ ﴿إنَّكم مُتَّبَعُونَ﴾ يَتْبَعُكم فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ؛ فَأعْلَمَهم أنَّهم يَتْبَعُونَهُمْ، وأنَّهُ سَيَكُونُ سَبَبًا لِغَرَقِهِمْ. ﴿واتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا﴾ أيْ: ساكِنًا عَلى حالِهِ بَعْدَ أنِ انْفَرَقَ لَكَ، ولا تَأْمُرْهُ أنْ يَرْجِعَ كَما كانَ حَتّى يَدْخُلَهُ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ. والرَّهْوُ: مَشْيٌ في سُكُونٍ. قالَ قَتادَةُ: لَمّا قَطَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ البَحْرَ، عَطَفَ يَضْرِبُ البَحْرَ بِعَصاهُ لِيَلْتَئِمَ، وخافَ أنْ يَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ، فَقِيلَ [لَهُ]: "واتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا"، أيْ: كَما هُوَ- طَرِيقًا يابِسًا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهم جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ أخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِغَرَقِهِمْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ في تَرْكِ البَحْرِ عَلى حالِهِ. ﴿كَمْ تَرَكُوا﴾ أيْ: بَعْدَ غَرَقِهِمْ ﴿مِن جَنّاتٍ﴾ وقَدْ فَسَّرْنا الآيَةَ في [الشُّعَراءِ: ٥٧] . فَأمّا "النَّعْمَةُ" فَهو العَيْشُ اللَّيِّنُ الرَّغْدُ. وما بَعْدُ هَذا قَدْ سَبَقَ بَيانُهُ [يَس: ٥٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿وَأوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ يَعْنِي بَنِي إسْرائِيلَ. ﴿فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ﴾ أيْ: عَلى آلِ فِرْعَوْنَ، وفي مَعْناهُ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ عَلى الحَقِيقَةِ؛ رَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "ما مِن مُسْلِمٍ إلّا ولَهُ في السَّماءِ بابانِ، بابٌ يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ، وبابٌ يَنْزِلُ مِنهُ (p-٣٤٥)رِزْقُهُ، فَإذا ماتَ بَكَيا عَلَيْهِ"» وتَلا ﷺ هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إنَّ المُؤْمِنَ إذا ماتَ بَكى عَلَيْهِ مُصَلّاهُ مِنَ الأرْضِ ومَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّماءِ، وإنَّ آلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لَهم في الأرْضِ مُصَلًّى ولا في السَّماءِ مَصْعَدُ عَمَلٍ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: "فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ"،» وإلى نَحْوِ هَذا ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ، ومُقاتِلٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الحُمْرَةُ الَّتِي في السَّماءِ: بُكاؤُها. وقالَ مُجاهِدٌ: ما ماتَ مُؤْمِنٌ إلّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّماءُ والأرْضُ أرْبَعِينَ صَباحًا، فَقِيلَ لَهُ: أوَ تَبْكِي؟ قالَ: وما لِلْأرْضِ لا تَبْكِي عَلى عَبْدٍ كانَ يَعْمُرُها بِالرُّكُوعِ والسُّجُودِ؟! وما لِلسَّماءِ لا تَبْكِي عَلى عَبْدٍ كانَ لِتَسْبِيحِهِ وتَكْبِيرِهِ فِيها دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ؟! . والثّانِي: أنَّ المُرادَ: أهْلُ السَّماءِ وأهْلُ الأرْضِ، قالَهُ الحَسَنُ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها﴾ [مُحَمَّدٍ: ٤]، أيْ: أهْلُ الحَرْبِ. والثّالِثُ: أنَّ العَرَبَ تَقُولُ إذا أرادَتْ تَعْظِيمَ مَهْلِكِ عَظِيمٍ: أظْلَمَتِ الشَّمْسُ لَهُ، وكَسَفَ القَمَرُ لِفَقْدِهِ، وبَكَتْهُ الرِّيحُ والبَرْقُ والسَّماءُ والأرْضُ، يُرِيدُونَ المُبالَغَةَ في وصْفِ المُصِيبَةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِكَذِبٍ مِنهُمْ، لِأنَّهم جَمِيعًا (p-٣٤٦)مُتَواطِئُونَ عَلَيْهِ، والسّامِعُ لَهُ يَعْرِفُ مَذْهَبَ القائِلِ فِيهِ؛ ونِيَّتَهم في قَوْلِهِمْ: أظْلَمَتِ الشَّمْسُ: كادَتْ تُظْلِمُ، وكَسَفَ القَمَرُ: كادَ يَكْسِفُ، ومَعْنى "كادَ": هَمَّ أنْ يَفْعَلَ ولَمْ يَفْعَلْ؛ قالَ ابْنُ مُفَرَّغٍ يَرْثِي رَجُلًا: ؎ الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ والبَرْقُ يَلْمَعُ في غَمامَهْ وَقالَ الآخَرُ ؎ الشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكاسِفَةٍ- ∗∗∗ تَبْكِي عَلَيْكَ- نُجُومَ اللَّيْلِ والقَمَرا أرادَ: الشَّمْسُ طالِعَةٌ تَبْكِي عَلَيْهِ، ولَيْسَتْ مَعَ طُلُوعِها كاسِفَةً النُّجُومَ والقَمَرَ، لِأنَّها مُظْلِمَةٌ، وإنَّما تَكْسِفُ بِضَوْئِها، فَنُجُومُ اللَّيْلِ بادِيَةٌ بِالنَّهارِ، فَيَكُونُ مَعْنى الكَلامِ: إنَّ اللَّهَ لَمّا أهْلَكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَبْكِ عَلَيْهِمْ باكٍ: ولَمْ يَجْزَعْ جازِعٌ، ولَمْ يُوجَدْ لَهم فَقْدٌ، هَذا كُلُّهُ كَلامُ ابْنِ قُتَيْبَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب