الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ﴾ يَعْنِي الكافِرِينَ، ﴿لا يُفَتَّرُ﴾ أيْ: لا يُخَفَّفُ ﴿عَنْهم وهم فِيهِ﴾ يَعْنِي في العَذابِ ﴿مُبْلِسُونَ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: آيِسُونَ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ. وقَدْ شَرَحْنا هَذا في [الأنْعامِ: ٤٤] ﴿وَما ظَلَمْناهُمْ﴾ أيْ: ما عَذَّبْناهم عَلى غَيْرِ ذَنْبٍ ﴿وَلَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾ لِأنْفُسِهِمْ بِما جَنَوا عَلَيْها. قالَ الزَّجّاجُ: والبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ: "هُمْ" هاهُنا فَصْلٌ، كَذَلِكَ يُسَمُّونَها، ويُسَمِّيها الكُوفِيُّونَ: العِمادَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنادَوْا يا مالِكُ﴾ وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رِضى اللَّهُ عَنْهُ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ يَعْمَرَ: ["يا مالِ"] بِغَيْرِ كافٍ مَعَ كَسْرِ اللّامِ. قالَ الزَّجّاجُ: وهَذا يُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ: [التَّرْخِيمَ]، ولَكِنِّي أكْرَهُها لِمُخالَفَةِ المُصْحَفِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: يَدْعُونَ مالِكًا خازِنَ النّارِ فَيَقُولُونَ: ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ﴾ (p-٣٣٠)[أيْ]: لِيُمِتْنا؛ والمَعْنى: أنَّهم تَوَسَّلُوا بِهِ لِيَسْألَ اللَّهَ تَعالى لَهُمُ المَوْتَ فَيَسْتَرِيحُوا مِنَ العَذابِ؛ فَيَسْكُتُ عَنْ جَوابِهِمْ مُدَّةً، فِيها أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أرْبَعُونَ عامًا، قالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، ومُقاتِلٌ. والثّانِي: ثَلاثُونَ سَنَةً، قالَهُ أنَسٌ. والثّالِثُ: ألْفُ سَنَةٍ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والرّابِعُ: مِائَةُ سَنَةٍ، قالَهُ كَعْبٌ. وَفِي سُكُوتِهِ عَنْ جَوابِهِمْ هَذِهِ المُدَّةَ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ سَكَتَ حَتّى أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ أنْ أجِبْهُمْ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والثّانِي: لِأنَّ بُعْدَ ما بَيْنَ النِّداءِ والجَوابِ أخْزى لَهم وأذَلُّ. قالَ الماوَرْدِيُّ: فَرَدَّ عَلَيْهِمْ مالِكٌ فَقالَ: ﴿إنَّكم ماكِثُونَ﴾ أيْ: مُقِيمُونَ في العَذابِ. ﴿لَقَدْ جِئْناكم بِالحَقِّ﴾ أيْ: أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالتَّوْحِيدِ ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَكُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ: كُلَّكم ﴿كارِهُونَ﴾ لِما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ أبْرَمُوا أمْرًا﴾ في "أمْ" قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها لِلِاسْتِفْهامِ. والثّانِي: بِمَعْنى "بَلْ" . والإبْرامُ: الإحْكامُ. وفي هَذا الأمْرِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: المَكْرُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَقْتُلُوهُ أوْ يُخْرِجُوهُ حِينَ اجْتَمَعُوا في دارِ النَّدْوَةِ؛ وقَدْ سَبَقَ بَيانُ القِصَّةِ [الأنْفالِ: ٣٠]، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: أنَّهُ إحْكامُ أمْرِهِمْ في تَكْذِيبِهِمْ، قالَهُ قَتادَةُ. والثّالِثُ: أنَّهُ: إبْرامُ أمْرِهِمْ يُنْجِيهِمْ مِنَ العَذابِ، قالَهُ الفَرّاءُ. (p-٣٣١)﴿فَإنّا مُبْرِمُونَ﴾ أيْ: مُحْكِمُونَ أمْرًا في مُجازاتِهِمْ. ﴿أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾ وهو ما يَسُرُّونَهُ مِن غَيْرِهِمْ ﴿وَنَجْواهُمْ﴾ ما يَتَناجَوْنَ بِهِ بَيْنَهم ﴿بَلى﴾ والمَعْنى: إنّا نَسْمَعُ ذَلِكَ ﴿وَرُسُلُنا﴾ يَعْنِي [مِنَ] الحَفَظَةِ ﴿لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ . ﴿قُلْ إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ﴾ في "إنْ" قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها بِمَعْنى الشَّرْطِ؛ والمَعْنى: إنْ كانَ لَهُ ولَدٌ في قَوْلِكم وعَلى زَعْمِكُمْ، فَعَلى هَذا في قَوْلِهِ: ﴿فَأنا أوَّلُ العابِدِينَ﴾ أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: فَأنا أوَّلُ الجاحِدِينَ، رَواهُ ابْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ أعْرابِيَّيْنِ اخْتَصَما إلَيْهِ، فَقالَ أحَدُهُما: إنَّ هَذا كانَتْ لِي في يَدِهِ أرْضٌ، فَعَبَدَنِيها، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: اللَّهُ أكْبَرُ، فَأنا أوَّلُ العابِدِينَ الجاحِدِينَ أنَّ لِلَّهِ ولَدًا. والثّانِي: فَأنا أوَّلُ مَن عَبْدَ اللَّهَ مُخالِفًا لِقَوْلِكُمْ، هَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: إنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ لِلرَّحْمَنِ ولَدًا، فَأنا أوَّلُ المُوَحِّدِينَ. والثّالِثُ: فَأنا أوَّلُ الآنِفَيْنِ لِلَّهِ مِمّا قُلْتُمْ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ، وأبُو عُبَيْدَةَ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: عَبِدْتُ مِن كَذا، أعْبَدُ عَبَدًا، فَأنا عَبِدٌ وعابِدٌ، قالَ الفَرَزْدَقُ:(p-٣٣٢) ؎ [أُولَئِكَ قَوْمٌ إنْ هَجَوْنِي هَجَوْتُهُمْ] وأعْبَدُ أنْ تُهْجى تَمِيمٌ بِدارِمِ أيْ: آنَفُ. وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ: ؎ وأعْبَدُ أنْ أسُبَّهم بِقَوْمِي ∗∗∗ وأُوثِرُ دارِمًا وبَنِي رَزاحِ والرّابِعُ: أنَّ مَعْنى الآيَةِ: كَما أنِّي لَسْتُ أوَّلَ عابِدٍ لِلَّهِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ؛ وهَذا كَما تَقُولُ: إنْ كُنْتَ كاتِبًا فَأنا حاسِبٌ، أيْ: لَسْتَ كاتِبًا ولا أنا حاسِبٌ؛ حَكى هَذا القَوْلَ الواحِدِيُّ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. والقَوْلُ الثّانِي: أنْ "إنْ" بِمَعْنى "ما"، قالَهُ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ؛ فَيَكُونُ المَعْنى: ما كانَ لِلرَّحْمَنِ [وَلَدٌ]، فَأنا أوَّلُ مَن عَبَدَ اللَّهَ عَلى يَقِينٍ أنَّهُ لا ولَدَ لَهُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الفاءُ عَلى [هَذا القَوْلِ] بِمَعْنى الواوِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَذَرْهُمْ﴾ يَعْنِي كُفّارَ مَكَّةَ ﴿يَخُوضُوا﴾ في باطِلِهِمْ ﴿وَيَلْعَبُوا﴾ في دُنْياهم ﴿حَتّى يُلاقُوا﴾ وقَرَأ أبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو الجَوْزاءِ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأبُو جَعْفَرٍ: "حَتّى يَلْقَوا" بِفَتْحِ الياءِ والقافِ وسُكُونِ اللّامِ مِن غَيْرِ ألِفٍ. والمُرادُ: يُلاقُوا [يَوْمَ] القِيامَةِ وهَذِهِ الآيَةُ [عِنْدَ الجُمْهُورِ] مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب