الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا﴾ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في مُجادَلَةِ ابْنِ الزِّبَعْرى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ. . .﴾ [الآيَةُ] [الأنْبِياءِ: ٩٨] . وقَدْ شَرَحْنا القِصَّةَ في سُورَةِ [الأنْبِياءِ: ١٠١] . والمُشْرِكُونَ هُمُ الَّذِينَ ضَرَبُوا عِيسى مَثَلًا لِآلِهَتِهِمْ (p-٣٢٤)وَشَبَّهُوهُ بِها، لِأنَّ تِلْكَ الآيَةَ إنَّما تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الأصْنامِ، لِأنَّها عُبِدَتْ مِن دُونِ اللَّهِ، فَألْزَمُوهُ عِيسى، وضَرَبُوهُ مَثَلًا لِأصْنامِهِمْ، لِأنَّهُ مَعْبُودُ النَّصارى. والمُرادُ بِقَوْمِهِ: المُشْرِكُونَ. فَأمّا ﴿يَصِدُّونَ﴾ فَقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، ونافِعٌ، والكِسائِيُّ: بِضَمِّ الصّادِ، وكَسَرَها الباقُونَ؛ قالَ الزَّجّاجُ: ومَعْناهُما جَمِيعًا: يَضِجُّونَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى المَضْمُومَةِ: يُعْرِضُونَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَن كَسَرَ الصّادَ، فَمَجازُها: يَضِجُّونَ، ومِن ضَمَّها، فَمَجازُها: يَعْدِلُونَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالُوا أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هُوَ﴾ المَعْنى: لَيْسَتْ خَيْرًا مِنهُ، فَإنْ كانَ في النّارِ لِأنَّهُ عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ، فَقَدْ رَضِينا أنْ تَكُونَ آلِهَتُنا بِمَنزِلَتِهِ. ﴿ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلا جَدَلا﴾ أيْ: ما ذَكَرُوا عِيسى إلّا لِيُجادِلُوكَ بِهِ، لِأنَّهم قَدْ عَلِمُوا أنَّ المُرادَ بِـ "حَصَبُ جَهَنَّمَ" ما اتَّخَذُوهُ مِنَ المَواتِ ﴿بَلْ هم قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ أيْ: أصْحابُ خُصُوماتٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَعَلْناهُ مَثَلا﴾ أيْ: آيَةً وعِبْرَةً ﴿لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ يَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلى ما يُرِيدُ، إذْ خَلَقَهُ مِن غَيْرِ أبٍ. (p-٣٢٥)ثُمَّ خاطَبَ كُفّارَ مَكَّةَ، فَقالَ: ﴿وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنكُمْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّ المَعْنى: لَجَعَلْنا بَدَلًا مِنكم ﴿مَلائِكَةً﴾؛ ثُمَّ في مَعْنى "يَخْلُفُونَ" ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: يَخْلُفُ بَعْضُهم بَعْضًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: يَخْلُفُونَكم لِيَكُونُوا بَدَلًا مِنكُمْ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والثّالِثُ: يَخْلُفُونَ الرُّسُلَ فَيَكُونُونَ رُسُلًا إلَيْكم بَدَلًا مِنهُمْ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المَعْنى: "وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنكم مَلائِكَةً" أيْ: قَلَبْنا الخِلْقَةَ فَجَعَلْنا بَعْضَكم مَلائِكَةً يَخْلُفُونَ مَن ذَهَبَ مِنكُمْ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ﴾ في هاءِ الكِنايَةِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: [أنَّها] تَرْجِعُ إلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ في مَعْنى الكَلامِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: نُزُولُ عِيسى مِن أشْراطِ السّاعَةِ يُعْلَمُ بِهِ قُرْبُها، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وقَتادَةَ، والضَّحّاكِ، والسُّدِّيِّ. والثّانِي: أنَّ إحْياءَ عِيسى المَوْتى دَلِيلٌ عَلى السّاعَةِ وبَعْثِ المَوْتى، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّها تَرْجِعُ إلى القُرْآنِ، قالَهُ الحَسَنُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "لِعِلْمٌ" بِكَسْرِ العَيْنِ وتَسْكِينِ اللّامِ؛ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو رَزِينٍ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وقَتادَةُ، وحُمَيْدٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِفَتْحِهِما. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَن قَرَأ بِكَسْرِ العَيْنِ، فالمَعْنى أنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ قُرْبُ السّاعَةِ، ومَن فَتَحَ العَيْنَ واللّامَ، فَإنَّهُ بِمَعْنى العَلامَةِ والدَّلِيلِ. (p-٣٢٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَمْتَرُنَّ بِها﴾ أيْ: فَلا تَشُكُّنَّ فِيها ﴿واتَّبِعُونِ﴾ عَلى التَّوْحِيدِ ﴿هَذا﴾ الَّذِي أنا عَلَيْهِ ﴿صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ . ﴿وَلَمّا جاءَ عِيسى بِالبَيِّناتِ﴾ قَدْ شَرَحْنا هَذا في [البَقَرَةِ: ٨٧] . ﴿قالَ قَدْ جِئْتُكم بِالحِكْمَةِ﴾ وفِيها قَوْلانِ. أحَدُهُما: النُّبُوَّةُ، قالَهُ عَطاءٌ، والسُّدِّيُّ. والثّانِي: الإنْجِيلُ، قالَهُ مُقاتِلٌ. ﴿وَلأُبَيِّنَ لَكم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ [أيْ]: مِن أمْرِ دِينِكُمْ؛ وقالَ مُجاهِدٌ: "بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ" مِن تَبْدِيلِ التَّوْراةِ؛ وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مِن أحْكامِ التَّوْراةِ. وقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ البَعْضَ هاهُنا بِمَعْنى الكُلِّ. وقَدْ شَرَحْنا ذَلِكَ في [حم المُؤْمِنِ: ٢٨]؛ قالَ الزَّجّاجُ: والصَّحِيحُ أنَّ البَعْضَ لا يَكُونُ في مَعْنى الكُلِّ، وإنَّما بَيَّنَ لَهم عِيسى بَعْضَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِمّا احْتاجُوا إلَيْهِ؛ وقَدْ قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كانَ بَيْنَهُمُ اخْتِلافٌ في أمْرِ دِينِهِمْ ودُنْياهُمْ، فَبَيَّنَ لَهم أمْرَ دِينِهِمْ فَقَطْ. وما بَعْدَ هَذا قَدْ سَبَقَ بَيانُهُ [النِّساءِ: ١٧٥، مَرْيَمَ: ٣٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ يَعْنِي كُفّارَ مَكَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب